بعد أسابيعَ من التحاقي بـ"مِعْلَامة" قديمةٍ، أسفل مدرسة الثورة، انتقلتُ للدراسة النظامية في المدرسة في فترة ما بعد الظهر. كنتُ على عتبة الثامنة تقريباً، وكان ذلك في العام الدراسي 1973 - 1974. كنا ثلاثةَ أطفالٍ باسمٍ واحدٍ "محمد"، وكان والدي حينما يريد أحدَنا لطلبٍ ما، ينادي: "يا صغار"، فيظهر أمامه أقربُنا إليه لتلبية الطلب.
نُكْمل أشغالَنا في الدُّكّان قبل أذان الظهر، والتي كانت تنحصر في مساعدة والدي وتلبية مطالب الزبائن وتنظيف الدكان، وإعداد المَدَاعة (النارجيلة) الخاصة بالحاج سعيد عمرو (صاحب المحل)، وملحقاتها من "التُّتَن" والفحم، وإحضار الغداء وتنظيف أواني الأكل.
كنا نتناول بسرعةٍ غداءنا البسيط جداً، الذي نأتي به من أحد المطاعم أو المخابز القريبة، وهو في الغالب مكوّنٌ من المَرَق والحُلْبة والخضار المطبوخة "الصانونة" و"السحاوق" و"الروتي"، وإن تيسّرَ، قليلٌ من "الرز". أما الدجاج واللحمة، فكانت عملةً نادرةً في المائدة، إلا في المناسبات الكبرى. نقوم بعدها بتجميع كراريسنا وكُتبنا المبعثرة في المخزن الملحق بالدكان، لنلحق بطابور المدرسة؛ وإلا تعرضنا للضرب بالعِصِيّ من مُشْرفي المدرسة الغلاظ.
بذات ملابس العمل، وبأحذيةٍ بلاستيكيةٍ تغطّتْ بواطنُها بلونٍ أصفرَ بفعل الأصباغ والبهارات، نذهب إلى المدرسة، ولم تزل عالقةً بها روائحُ الدكان والسوق. كنا نحسد أولئك الأطفال الذين يجيئون بملابسهم النظيفة وبأحذيتهم الأنيقة، ورائحة المنازل تسبقهم، بمن فيهم أطفال الحواري الشعبية القريبة من المدرسة.
أتذكّر من المدرسة بوابتَها الخشبية الضخمة، والتي تتوسطها ظلفةٌ مربعةٌ بنقوشٍ لبوابةٍ أصغر، وأتذكر معقمها الحجري الأسود، وباحتَها المفتوحة على السماء، تتوسط حجرات المبنى الموزعة على دوريْن من الياجور الأحمر والجص الأبيض الذي يغطّى أعمدتَها وجدرانَها الداخلية وخشبَ أسقفها المتآكلة.
كان مُلحقاً بالمدرسة، من جهة الجنوب، باحةٌ خارجيةٌ بأرضيةٍ أسمنتيةٍ مهملة، تُستخدم كملعبٍ وساحةٍ لطوابير الطلاب. وفي ركن الساحة الغربي، كان يتموضع خزانُ ماءٍ أسمنتيٌّ مكشوفٌ، وتجاوره حماماتٌ قذرةٌ مسدودةٌ، وبدون أبوابٍ، تغطي المكانَ برائحةٍ كريهةٍ لا تطاق.
كنتُ من شدة الإرهاق أنام في كثير حصص الدروس؛ لكني في حصص ما بعد الراحة، أكون بكامل يقظتي، لأنه بعدها سيمرّ مسؤولو التغذية لتوزيع قطعةٍ نصف دائريةٍ من جبن المَعُونات المعفِّن وقطعة خبزٍ بائتةٍ، صارا بعد فترة يسبّبان لي غثياناً أسطورياً.
كان مصروفُ المدرسة، الذي يُعطى لنا، زهيداً لا يمكِّننا من شراء القليل من المأكولات الشعبية التي يعرضها الباعةُ على عرباتهم أمام بوابة المدرسة. لهذا، كنا نتحامل على جوعنا ورغباتنا في الشراء ليومٍ دراسيٍّ جديدٍ من خلال توفير مصروف يومٍ مع يوم آخر، لنشتري القليلَ جداً مما نرغب فيه.
عامان كاملان قضيتُهما في صفٍّ واحد، لكن في هذين العامين تفتحتْ مداركي على أشياء جديدة، فأناشيد طابور الصباح لم تعد هي نفسها أناشيد الراديو التي كنا نسمعها في الشارع والدكان
كانت تنبعث من وقتٍ لآخرَ، من محلّ حلويات "بور سعيد"، رائحةُ تحضير الحلويات الهندية، فتفعل بي فِعْلَها. فكنت أجمع مصروفَ يومين لشراء قطعةِ حلوى ملونةٍ أثناء عودتي. لكني، بعد فترةٍ، اكتشفتُ "حلويات ياسين"، في ذات الشارع. وكنتُ، عند خروجي من المدرسة، أتحاشى العودة للدكان من حارة المدرسة مباشرة، فكنت أعود من جهة شارع "26"، بعد المرور على "حلويات ياسين"؛ حتى لو لم أشترِ شيئاً. لأني كنت أكتفي بـ"عرف الحلاوة" (رائحتها)، والمرور جوار مصنع المرمر الملوّن (البلاط)، حيث أقف متعجباً من طريقة عمل الآلات في إنتاج المواد. سببٌ ثالثٌ كان يجعلني أمرّ من هذا الطريق، الطويل نسبياً؛ وهو تحاشي المرور بحارة المدرسة، (حارة الجزارين)، حتى لا أتعرض لأذيّة بعض الأطفال الشياطين.
أنهيتُ الصفَّ الخامس في العام 1979، فقرر الحاج سعيد عمرو نقْلَنا إلى مدرسةٍ جديدةٍ، فاختار المعهد العلمي، الذي كان يُعرف بمدرسة "تحفيظ القرآن" في منطقة المُصلّى. ذهب شخصياً لسحب ملفّاتنا من مدرسة الثورة، ثم سلّمها لأحد الأشخاص من قريتنا، والذي كان ناشطاً في صفوف "جماعة الإخوان"، الذي، بدوره، استخدم علاقته في تسريع التحاقنا بالمدرسة الجديدة.
أذكر تماماً كيف كنا نتْبعه وهو ممسكٌ بملفّاتنا الورقية الصفراء التي تحوي شهاداتنا، ونحن بكامل سرورنا، نكرّر على بعضنا اسم المدرسة الجديدة: تحفيظ.. تحفيظ.
في المدرسة الجديدة، والتي كانت تدرِّس نفس المنهج العام لكن مع متطلباتٍ وأنشطة صيفيةٍ وثقافيةٍ، ومدرسين مختلفين بلحاهم وسحناتهم، تَبدَّلَ إيقاعُ حياتنا، فصرنا ندرُس صباحاً، ونقطع إلى المدرسة مسافةً أطوَلَ، وصرنا أكثرَ انضباطاً في مواعيد الحضور. وبدلاً عن روائح أطعمة العربات أمام بوابة مدرسة الثورة، كانت تُسيل لعابَنا روائحُ المخابز ومطاعم الفول في شارع العواضي وحارة مسجد القرشي.
عامان كاملان قضيتُهما في صفٍّ واحد؛ لكن في هذين العامين تفتحتْ مداركي على أشياء جديدةٍ، فأناشيدُ طابور الصباح لم تعد هي نفسها أناشيدَ الراديو التي كنا نسمعها في الشارع والدكان. صرنا "نتكعّف" أناشيدَ مختلفةً تؤدَّى بأصوات منشدين شُبّانٍ، وفي معظمها تحثّ على الجهاد ومحاربة الانحلال؛ إذ صادف ذلكم الوقت، أو بعده بقليل، التحشيد للجهاد في أفغانستان. وكانت المدرسة، أو ما كان يسمى "المعهد العلمي"، إحدى بؤر التجنيد الرئيسة في تعز. وكان الكثير من طلاب الصفوف المتقدمة يذهبون لأسابيعَ، وأحياناً لأشهرٍ، إلى كراتشي، ويعودون يحْكون القصص الأسطورية عن رحلاتهم تلك.
لم يكن في المعهد فترةٌ مسائيةٌ للدراسة؛ لكنه كان يتحول إلى ثكنةٍ شبهِ عسكريةٍ للطلاب الكبار، إذ يتدرّبون ويمثّلون ويتحلّقون ثقافياً، ويؤدّون ثلاثاً من صلواتهم فيه.
كانت إدارة المعهد تَمنح طلابَ الإعدادية والثانوية إعاناتٍ شهريةً، وكان يقال لنا إنها معتمَدةٌ من السعودية. صديقي وزميلي محمد أحمد، الذي سبقني بفصلٍ دراسيٍّ، كان يستلم مائةً وخمسين ريالاً؛ وهو مبلغٌ كبيرٌ جداً حينها، وكان يمكّنه من تلبية كل احتياجاته. لكننا، حينما تركنا المعهد في العام 1980، بضغوطٍ من أقرباءَ بَعْثيّين له، طالبتْه إدارةُ المعهد بإرجاع كلِّ ما استلمه مع نقود، اضطُرّ والده إلى إرسالها من السعودية، حيث كان يعمل.
كان "المجنون الفنان" يقعد على رصيفٍ أسمنتيٍّ وأمامه علب ألوان وفرشاة، ويرسم على الإسفلت بارجاتٍ وطائراتٍ حربيةً، ويصوِّر حروباً بشعاراتٍ مكتوبةٍ بخطٍّ جميل، تندد بأمريكا والرأسمالية، وكان ينْهَر بعنفٍ كلَّ من يمر بمحاذاة الرسوم
انتقلْنا هذه المرةَ إلى مدرسة جديدة، هي مدرسة الشعب، الواقعة في "حوض الأشراف"، لاستكمال دراستنا الإعدادية (المتوسطة)، وعُدْنا من جديدٍ للدراسة في فترة ما بعد الظهر.
كنا ننتظر جارَنا، صاحب "مستودع أسوان"، أحمد عبده عقلان، حتى يقوم بإغلاق دكانه في الواحدة، ونصعد إلى بطن سيارةٍ نصف نقلٍ بيضاء، التي يمتلكها، مع عماله؛ حيث كان يقوم بإيصالهم إلى منزله في منطقة "الكمب" لتناول الغداء، قبل أن يعيدهم بعد العصر إلى الدكان.
كان طريق رواحه، بالضرورة، يمرّ أمام باب المدرسة الشمالي؛ لكنه قبل ذلك كان يمر، ونحن معه، إلى الفرن الفرنسي، جوار الغرفة التجارية بالقرب من جولة "الإخوة"، لشراء "الروتي" المميز بشكله وحجمه. وكنت أتعجب من ذلك، ومن الكيك المعروض والمغطى نصفُه الأسفل بعُلبٍ ورقيةٍ ملونة. فالروتي لا يشبه أبداً "روتي" فرن "المركزي" ولا كيكَهُ؛ حتى طريقة تحضيره كانت تتم بالكهرباء ولا تشبه تلك التي كانت تتم في فرن السوق بإيقاد الحطب، الذي كانت غمامته السوداء المشبعةُ بالمازوت أو الديزل تغطّي سماءَ السوق، ناهيك عن اختلاف رائحته التي تشهِّيك للأكل حتى ولو كنت شبعاناً.
كنا أحياناً نصل المدرسة بسيارة البلَدية، نصفِ النقل، التي كان يقودها أحد أهالي قريتنا الظُّرَفاء، واسمه محمد حسن شلفان؛ لكنا حين يُجبرنا أيُّ ظرفٍ على عدم الذهاب بإحدى السيارتين، كنا نصْعَد عقَبةَ شارع "جمال"، في شمس تعز الحارقة، ونتحاشى المرور من أول شارع "الحوض"، بعد جولة "الإخوة"، حتى لا نجابِهَ المجنونَ الفنان في طريقنا.
كان "المجنون الفنان" يقعد على رصيفٍ أسمنتيٍّ على بُعد أمتارٍ قليلةٍ من الجولة (الدوّار)، وأمامه عُلب ألوانٍ وفرشاةٌ، ويرسم على الإسفلت بارجاتٍ وطائراتٍ حربيةً، ويصوِّر حروباً، مصحوبةً بشعاراتٍ مكتوبةٍ بخطٍّ جميلٍ، تندد بأمريكا والرأسمالية. وكان ينْهَر وبعنفٍ كلَّ من يمر بمحاذاة الرسوم.
لم أعد أتذكر اسمه؛ لكن هيئته الفوضوية على طريقة الفنانين المُلْتحين، ولهجته العدنية، لم أنسَها مطلقاً. وما عرفتُه عنه من معلوماتٍ لاحقةٍ، ولستُ متأكداً منها، أنه ابن لواحدٍ من رموز جبهة التحرير اللائذين بتعز.
بنى الأصدقاء السوفييت مدرسة الشعب، منتصف الستينيات، ضمن ثلاث مدارسَ بذات النمط في صنعاء وتعز والحديدة. وكانت تسمى "مدرسة الشعب الصناعية". ولم تزل لوحةُ الأساس الحجرية على سور المدرسة تذكِّر بالرئيس السلال، الذي افتتحها في العام 1966.
كان بها معاملُ وورشُ حدادةٍ ونجارةٍ وصالةُ ألعابٍ واسعةٌ، بأرضيةٍ من خشب الغابات الملمع، وفناءاتٌ وساحاتٌ مريحةٌ كيّفها المهندسون مع طبيعة الأرض التي تنحدر من إحدى تلال المدينة من جهة سوق الصميل، فصارت مدرّجاتٍ جميلةً استُغلّتْ لبعض الوقت للزراعة.
بُنيتْ من دوريْن، بنوافذَ زجاجيةٍ عريضةٍ وواسعةٍ، مؤطرةٍ بالحديد ومقابضَ قويةٍ تفتحها إلى الأعلى، بمواجهة الشارع، وشرفاتٍ أسمنتيةٍ بسواترَ خشبيةٍ تطل على الفناء الداخلي، يُصعَد إلى دورها العلوي بسلالمَ متداخلةٍ وواسعة.
وحين التحقتُ بها، كانت الصالة لم تزل تستقبل بعض الرياضيين الذين يتدربون على كرة السلة ومهارات فنون القتال: (كارتيه وتايكوندو وجودو ومصارعة). لكن الورَشَ صارت مغلقةً، وكنا نشاهد من النوافذ الزجاجية الداخلية بعض الآلات الخضراء المهملة. ولم تزل بعضُ أشجار الخوخ البلدي (الفِرْسِك) متشبثةً بتربتها في الركن الجنوبي لسور المدرسة الحديدي.
أنهيتُ في هذه المدرسة المرحلةَ الإعدادية؛ حيث عدتُ في العام الدراسي 1983-1984 إلى مدرستي الأم، "الثورة"، التي صارت تعرف بـ"الثورة الثانوية"، في أول عامٍ دراسيٍّ فيها، بعد إعادة بنائها على أنقاض المبنى القديم والجميل.
_____________________________________________________
الصورة لمدرسة الشعب أواخر السبعينات - تعز، تصوير : عبدالرحمن الغابري