الجزء الرابع والأخير من الحوار مع علي محمد زيد

اهتمامي بالفلسفة ارتبط بطموح لفهم الواقع اليمني والعربي والعالمي
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 1, 2020

الجزء الرابع والأخير من الحوار مع علي محمد زيد

اهتمامي بالفلسفة ارتبط بطموح لفهم الواقع اليمني والعربي والعالمي
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 1, 2020
علي محمد زيد

بدأنا هذا الحوار، في جزئه الأول، من أحدث مؤلفاته الذي صدر مطلع هذا العام في القاهرة، والمعنون بـ"الثقافة الجمهورية في اليمن". ونختم في الجزء الرابع والأخير بالحديث عن تكوينه المعرفي ونشاطه وتحصيله العلمي، ابتداءً من صنعاء ومروراً ببيروت، وصولاً إلى باريس، ومن ثم العودة إلى صنعاء، وانتقاله بعدها من جديدٍ إلى باريس كدبلوماسيٍّ في بعثة اليمن في اليونسكو بُعَيْد الوحدة مباشرةً، وعودته مرة أخرى مع مطلع الألفية إلى صنعاء، قبل أن يعود للمرة الثالثة إلى باريس؛ وهذه المرة كموظفٍ دوليٍّ في اليونيسكو.

عن تفاصيل هذه الرحلة بالأسئلة التي أنتجتها، نترك القارئ في سياحة متشعبة أردناها أن تكون تتويجاً لهذا الحوار "الطويل"، الذي عرّجنا فيه، من خلال الأجزاء الثلاثة المنشورة بالتتابع، على تجربة الدكتور علي محمد زيد" الثرية في التأليف والبحث والترجمة، والتي صنعت منه عَلَماً واسماً تنويرياً مهمّاً في تاريخ اليمن المعاصر.

- ماذا لو حدثتنا، وبقليلٍ من التوسع، عن تكوينك الباكر، وتحديداً عن ابن الفلاح الذي درس في أحد كتاتيب قرى الجعفرية، قبل أن ينتقل إلى صنعاء ويدرس في مدارسها النظامية، حين كانت ثورة سبتمبر تعيد صياغة الوعي الجديد؟

* ربما كان من حسن حظي أن خالي، الفقيه النحوي محمد زيد القليصي، كان يقوم بالتدريس متطوعاً في منزله، قبل أن يتولى التدريس في "كُتاب" أو "معلامة" طوّرَها بعد قيام الجمهورية إلى مدرسةٍ سماها مدرسة الفتح، ووزع المبرِّزين من تلاميذها لينشروا التعليم في مناطقَ مختلفةٍ من رَيْمَة بتمويل من الأهالي، قبل سنينَ من افتتاح معاهد المعلمين وكليات التربية وانتشار التعليم الجمهوري. كان شخصاً مطَّلِعاً يتمتع بمَلَكَةِ حفظٍ قوية (أو ما كان يسمى في التراث "حَفَّاظة")، علَّم نفسه الكثير بنفسه، بالعودة إلى مصادر التراث، وكان يستغل حتى الذهاب إلى السوق للقاء أي فقيهٍ قادمٍ من منطقة أخرى، للنقاش وتبادل المعارف والتعلُّم والحصول على إجابات لأسئلة يُعِدُّها قبل كل لقاء.

 وقد لازمْتُه في طفولتي في واقعٍ تسوده الأمية، وقضيتُ معه أغلب وقتي، وتلقيتُ منه شيئاً من علوم الدين والعربية وحبّ الأدب والفصاحة. وكنتُ أفرح بتشجيعه لي وأمتنع عن اللعب مع أترابي من الأطفال، وأتشبّه به في العبادة والاستقامة والميل إلى القراءة. وبعد قيام الجمهورية بسنة، سافرتُ مع زميلٍ كان قد سبقني قبل نحو سنةٍ في الانتقال إلى صنعاء، وساعدني في الالتحاق بالمدرسة النظامية، وبدأَتْ عند ذاك علاقتي بالتعليم الحديث.

- عن المدرسة في صنعاء، وعن الطالب والمعلم في آنٍ.. حدثنا أيضاً!

* كان التغيير، الذي شهده التعليم بعد قيام الجمهورية، عميقاً وحاسماً وجذرياً. فقد تغيرتْ من الأساس فلسفةُ التعليم. وبعد أن كان التعليم نادراً وهامشياً واهتماماً عرَضِياً ومقصوراً على بعض الأسر، أصبحتْ فلسفةُ التعليم الجمهوري تعطي لكل طفلٍ حق التعليم نظرياً، وتحاول بقدرِ ما تسمح ظروفُها الصعبة توفيرَهُ لكل راغبٍ في التعلُّم ولكل مجتهدٍ ومثابرٍ، حتى لو واجه صعوبات. صحيحٌ أن قدرة الجمهورية على إيصال التعليم في تلك الفترة المبكرة إلى أنحاء الجمهورية كانت ما تزال محدودةً، لكنَّ مَنْ تحمَّلَ مصاعبَ البحث عن التعليم توفرتْ له الفرصُ دون تمييز.

كما أن الانتقال، بمساعدة مصر عبد الناصر، إلى تبنّي نظامٍ تعليميٍّ جمهوريٍّ جديدٍ قد وضع الجمهورية وجهاً لوجهٍ أمام كارثةِ انعدامِ التعليم في طول البلاد وعرضها. فلا إدارةٌ مدرسيةٌ مؤهلةٌ، ولا المعلمون القليلون الموجودون يتمتعون بالكفاءة التي يتطلبها النظام التعليمي الجديد، فاضطرت الجمهورية، منذ البداية، إلى الاستعانة بمصر، لبناء ثلاث مدارسَ إعداديةٍ ثانويةٍ جديدةٍ، بسرعةٍ في المدن الرئيسية الثلاث لسد العجز الخطير في المنشآت التعليمية، وأرسلت مصر لهذه المدارس الإدارة المجربة والمعلمين الأكْفاء. لكنَّ هذا الجهدَ كان قطرةً في بحر الحاجة لتطوير التعليم ولتوفير المعلمين وتدريبهم في مجتمع تسوده الأمية الشاملة. ولم يبقَ من المعلمين اليمنيين في التعليم الجديد سوى معلمي التربية الدينية، وبعض معلمي العربية، ممن استطاعوا أن يكيّفوا أنفسهم ومعارفهم مع الكتاب المدرسي المصري، الذي تم اعتمادُه في البداية، في ظل انعدام الكتاب المدرسي اليمني حتى ذلك الوقت.

وجاء وعدُ مصر بقبول كلِّ من ينال شهادة الثانوية العامة من هذا النظام التعليمي في جامعاتها وعلى نفقتها، ليطلق موجةً من المثابرة والحماسة للدراسة والتحصيل، للفوز بمنحةٍ للدراسة في الخارج، وللخروج من اليمن في سبيل اكتساب العلم والمعرفة واكتساب التجارب؛ وهي فرصةٌ ثمينة وحلمٌ بالنسبة للطالب اليمني الذي كان محاصراً بالفقر وانعدام الفرص. وهذا ما تناولْتُه عند الحديث عن تغيير التعليم في كتاب "الثقافة الجمهورية".

في رواية "زهرة البن" بعض الانطباعات والمشاعر والانفعالات المستمدة من تجربة الطفولة وفي "تحولات المكان" شيء من صور التجربة في سن المراهقة .

 - هل كانت رواية "تحولات المكان" جزءاً من سيرة تكوين الشاب الباكرة مثلاً؟

* لا شك أن الروائي يستمد المادة الأولية، التي يبني بها نسيجَ رواياته، من تجربته في الحياة، بعد أن يصهرها في عالم خياله وأحلامه، ليشكل خليطاً جميلاً من إبداعٍ نستمتع بقراءته وبالنفاذ إلى عالمه، فيه شذراتٌ من الواقع المتحول والمتداخل بصورٍ وشخصياتٍ يصنعها الخيال.

وهكذا، توجد في رواية "زهرة البن" بعض الانطباعات والمشاعر والانفعالات المستمدّة من تجربة الطفولة، لأن بعض الإحساسات المؤثرة ترتسم في الذاكرة على نحوٍ لا يُنسى، مثل انبساط غطاءٍ أبْيَضَ من أزهار البن في أيام الخصب، يشمل السفح والجبل، ينشر رائحته العطِرة في الآفاق ونستنشق عطرَهُ من بعيد.

وفي "تحولات المكان" شيءٌ من صور التجربة في سن المراهقة أثناء حصار صنعاء، ومن الأزمة الوجودية التي وجدنا أنفسنا نواجهها، وتضطرنا للمبادرة بإيجاد وسائل المقامة.

- حدثنا قليلا عن المقاومة الشعبية لمجابهة حصار صنعاء من القوى الملكية، أواخر 1967، باعتبارك أحد رموز المقاومة في الحركة الطلابية آنذاك!

كان حصارُ صنعاء بالنسبة لي ولأمثالي من الطلبة المراهقين مرحلةَ تحوُّلٍ كبيرةً عصفت بحياتنا وغيرت واقعنا، وحوّلتنا من كائناتٍ بسيطةٍ منْكبّةٍ على الدرس والتحصيل لتحقيق التفوق الدراسي للفوز بمنحةٍ والخروج للدراسة في أي بلد خارج اليمن، وجعلنا نواجه مضطرِّين أسئلةً وجوديةً تتعلق بواقعنا وبمستقبلنا وبالخطر الذي يهدّد وطناً كنا حتى ذلك الوقت نعتقد أنه محميٌّ ومحصنٌ ضد الانكسارات والانتكاسات. وَعَيْنا لأول مرة أن الجمهورية، التي نعيش متشبعين بشعاراتها، مهددةٌ بالسقوط، وأن حياتنا مهددةٌ بالموت، أو على الأقل بالتشريد والضياع. لم نعد قادرين على العودة إلى الريف أو إلى أوضاعنا السابقة. وكان علينا أن نتحرك، وأن نبدأ دون إعدادٍ مسبقٍ المشاركةَ مع الأبطال الذين يدافعون عن المدينة وعن النظام الجمهوري، وحيدين بعد انسحاب القوات المصرية على إثر هزيمة العرب في حرب 1967، مجرّدين من الدعم الكبير الذي كانت مصر عبدالناصر تقدمه لدعم صمود الجمهورية.

كبُرْنا فجأةً وبسرعة. لم نعد مجرد أطفال أو مراهقين نهتف في طابور الصباح المدرسي بحياة الجمهورية، وأثر النوم ما يزال يداعب رموش عيوننا؛ بل أصبحنا مسؤولين وجهاً لوجهٍ عن حياتنا بالمعنى الحرفي للكلمة، وعن حياة الجمهورية وبقائها، وعن صون مشروع التقدم الذي يوشك أن يندثر. وجدنا أنفسنا دون تهيئةٍ نفسيةٍ وماديةٍ نلتحم بقضايا عصْرِنا، قضايا الحرب والسلام، وصراع القديم والجديد، والتخلُّف والتقدُّم... الخ. فالتحمنا بالمدافعين عن المدينة، بما في مشاعر الشباب المراهق من حماسة واندفاع، وأطلقنا لمشاعرنا وأحلامنا العنان دون حساب. ولعلّ بعضَ ظلال هذه المشاعر ترتسم في رواية "تحولات المكان".

أثناء حصار صنعاء صمدت بعض السفارات معنا؛ مثل السفارة الصينية والسفارة الجزائرية، بينما أغلقت بقية السفارات أبوابها، وواصل المهندسون الصينيون شق الطرقات خلال الحصار، وحتى المنجزات القليلة التي تحققت من مدارسَ ومستشفياتٍ ومصانعَ قدمتها دولٌ اشتراكيةٌ

- تلازَمَ التكوينُ الباكر بوعيٍ سياسيٍّ انحاز بوضوح لتيار اليسار.. فهل بإمكانك استرجاع القليل من ذكريات تلك المرحلة؟

* حين وجدنا أنفسنا، ونحن في مقتبل العمر، في مواجهة أسئلة الحياة والموت والحرب والسلام والتخلف والتقدم، تلفّتْنا من حولنا لنرى من يقف معنا ومن يدعم سعْيَنا الحثيث لإثبات وجودنا ومساعدة جمهوريتنا والدفاع عن قضايانا اليمنية والعربية التي تلحُّ علينا وتضغط على أعصابنا وتدعونا للعمل الجاد في سبيل انتصارها. وكنا نسمع من قيادات المقاومة الشعبية، ومن المنابر السياسية والثقافة الناشطة في المدينة، أن جسراً جوياً من السلاح والمساعدات يصل من الدول الاشتراكية للمشاركة في الدفاع عنا، ورأينا أن بعض السفارات في صنعاء قد صمدت معنا؛ مثل السفارة الصينية والسفارة الجزائرية، ولم تغلق أبوابها مثل بقية السفارات، وأن المهندسين الصينيين يواصلون شق الطرقات حتى خلال الحصار، وأن المنجزات القليلة التي تحققت من مدارسَ ومستشفياتٍ ومصانعَ قدمتها دولٌ اشتراكيةٌ، وأن دول عدم الانحياز والدول الاشتراكية تساند صمودنا وتُقدِّم بعض المساعدات الضرورية والمنح الدراسية، كما تساند نضال اليمنيين في عدن والجنوب للتحرر من الاستعمار البريطاني. كل هذا وأمثاله أوجد بيننا وبين حركة اليسار في العالم شيئاً من التعاطف الإنساني والمشاركة الفكرية. وهكذا، كان القرب من مفاهيم اليسار فعلاً من أفعال المقاومة الوطنية. كنا مدفوعين بمشاعرَ وطنيةٍ صادقةٍ، ولم يكن كل ذلك المخاض السياسي مجردَ موضةٍ أو ترفاً فكرياً ساذجاً أو انزلاقاً نحو شيءٍ غريبٍ لا علاقةَ له بحاضرنا، وبالحاجة إلى دعمٍ عالميٍّ لبناء بلادنا ولمكافحة الفقر والتخلف.

 - بعد إنهائك الثانوية، عملتَ لفترة في طيران "اليمنية"، حسبما اعتقد، قبل أن تسافر في منحة إلى الجامعة الأمريكية ساعد الأستاذ الربادي في تذليل صعوبتها كما سمعت منك..!

* حين كنتُ في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وفي سنة خدمة التدريس، كنت أعمل بعد الظهر معلِّماً للحصول على دخلٍ لتحسين ظروف المعيشة، في أول مدرسةٍ خاصةٍ شبهِ مجانيةٍ أقامها في صنعاء أحدُ التربويين من القوميين العرب، العائدين من المهجر، لمساعدة العاملين محدودي الدخل والجنود في تحسين تحصيلهم الدراسي وفتح آفاق المستقبل أمامهم، مقابل رسومٍ متواضعةٍ تُدفع على أقساطٍ، وأحيانا لا تُدفع بسبب فقر الراغبين في التعليم. فكان أغلب تلاميذي أكبرَ سناً مني وأقوى أجساداً، ولكنهم كانوا يعاملونني باحترامٍ كبيرٍ لأنني كنت أعلِّمهم أصعب مادتين عندهم: الرياضيات والنحو، وهما مادتان كان زملائي يتهربون من تعليمهما، وخاصة إذا كان الطلبة في سنوات امتحان الشهادة الابتدائية أو الإعدادية. كما عملتُ لبضعة أشهرٍ في شركة الطيران اليمنية، قبل سفري للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت.

وحين حصلتُ على المنحة، طلبَتْ مني وزارة التربية تقديمَ ضمانةٍ تجاريةٍ، فكان هذا شرطاً يصعب تحقيقُه على أمثالي. والتقيتُ بالصدفة بالأستاذ محمد الربادي، الذي كنت أعرفه كشخصيةٍ عامة. وحين أخبرته، أخذني إلى أحد التجار وأعطاه استمارة الضمانة ووقّع عليها مجاملةً للربادي؛ دون أن يعرف من أنا، مستمتعاً بنُكَت الربادي الساخرة من طلب الضمانة المالية من طالبٍ يريد أن يواصل الدراسة وكأنه سيتسلَّم المسؤولية عن بنك. 

- عن بيروت السبعينيات والتحصيل العلمي في الجامعة.. حدثنا قليلاً!

لبيروت السبعينيات عطرٌ خاصٌّ. كانت مميزةً في المنطقة العربية، وكانت خاصةً وجذابةً ومتفتحةً وواحةَ حريةٍ، وأفقاً للقراءة والاطلاع والحلم. ولن أنسى أنني، وزملائي القادمين من يمنٍ تحاول الإطلال برأسها لترى الدنيا من حولها، حين دخلنا حرم الجامعة الأمريكية، الذي كان قطعةً متلألئةً من أمريكا في العالم الثالث، ذهلنا واندهشنا حين شاهدنا حدائقَهُ وأشجارَهُ المعمّرة، بشهادة ميلادٍ لكل منها منقوشةٍ على لوحةٍ مثبتةٍ على جذعها، وإطلالَهُ على شاطئ البحر الجميل، واطَّلعنا على أفق الحرية الأكاديمية والبحثية في الجامعة... الخ. كل شيءٍ منظّمٌ ومرتبٌ بإتقان.

كان اهتمامي بالفلسفة مرتبطاً بالنشأة الطامحة ثقافياً لامتلاك القدرة على فهم الواقع اليمني والعربي والعالمي. ولعلّ للسياسة دوراً في بث الطموح للمعرفة وللإحاطة بحقيقة العالم الذي نعيش فيه، واستكشاف طرق النهضة الممكنة في اليمن ومغادرة سجن الماضي

وقد حاولنا، أنا وبعض الزملاء، أن نستفيد من الانفتاح الثقافي في بيروت بقدر الإمكان؛ مثلا: اشتركتُ في "نادي السينما"، الذي كان يعرض كل أسبوع فيلماً من أهم أفلام السينما العالمية ويأتي بمُخرجٍ أو ناقدٍ سينمائيٍّ متخصصٍ ليناقش الفيلم المعروض مع الجمهور. وكوَّنَّا نادياً للموسيقى الجادة؛ بحيث يشتري كل مشارك أسطوانةً أو أكثرَ، من الموسيقى الكلاسيكية، للاستماع إليها معاً وتوسيع معارفنا وتطوير ذوقنا الموسيقي. ولما كان أغلب الطلبة اليمنيين في الخارج يُنشئون اتحاداتٍ طلابيةً يتصارعون داخلها سياسياً، أردنا أن يعود تنظيمُنا الطلابي علينا بالفائدة معرفياً وأن يكون لائقاً ببيروت المنفتحة ثقافياً، فأنشأنا "النادي الثقافي اليمني". ولتشجيع زملائنا على القراءة والاطلاع والإبداع، اشترطنا لقبول العضوية توفر النشاط الثقافي؛ مثل كتابة المقال أو الشعر أو القصة أو الرسم أو الرقص أو العزف الموسيقي. وأصدر النادي مجلةً ثقافيةً متواضعةً سمّيناها "الوعي"، تبرع الأعضاء بسخاءٍ لتمويل طبعها، لكنها توقفت بعد صدور أعدادٍ قليلةٍ بسبب صعوبة التمويل. وكان في الشارع المحاذي للجامعة، وقريباً منه، عددٌ من المكتبات التي تجتذبك للقراءة وشراء الكتب. وقد كونْتُ بمرور الأيام مكتبةً احتوت عدداً كبيراً من كتبٍ ثمينةٍ ضاعت خلال عدم الاستقرار والتنقل من منزلٍ إلى آخرَ ومن بلدٍ إلى آخر.

- لماذا اخترتَ دراسة الفلسفة؟ وهل كان لأحدهم تأثيرٌ في ذلك؟

 * كان اهتمامي بالفلسفة مرتبطاً بالنشأة الطامحة ثقافياً لامتلاك القدرة على فهم الواقع اليمني والعربي والعالمي. ولعلّ للسياسة دوراً في بث الطموح للمعرفة وللإحاطة بحقيقة العالم الذي نعيش فيه، واستكشاف طرق النهضة الممكنة في اليمن ومغادرة سجن الماضي والمشاركة في حضارة العصر. وحين جاء وقت اختيار كتابة البحوث الدراسية، ركزتُ على الإجابة على الأسئلة التي تشغلني وتلحُّ عليَّ لمعرفة هذا اليمن الذي نُكثر الحديث عنه ونعجز عن معرفة تعقيداته وإدراك بُناه الاجتماعية والثقافية وتحديد الآليات التي تحكم حركته التاريخية. وكان الأملُ العثورَ على مفاتيح نهضته وتطويره نحو الأفضل. وقد كان هذا جوهرَ مشروعي الثقافي، الذي ما يزال مفتوحاً، وطُمُوحاً لم يكتمل ولا يبدو أنه سيكتمل. فكلما مر الوقت، أدركْنا عجزنا، نحن الذين عوّلنا على المعرفة والتنمية لإخراج اليمن والمنطقة العربية من قوقعتها ومن تخلفها.

- بعد بيروت أكملتَ دراستك العليا في باريس، وواصلتَ البحث في ذات الاتجاه الذي انشغلت  به في بيروت، أقصد دراسة المعتزلة والزيدية وفِرَقِها.. لماذا؟

* كنتُ خلال الدراسة في بيروت قد بدأتُ دراسة اللغة الألمانية في معهد جوته، بهدف مواصلة الدراسات العليا في ألمانيا؛ أخذاً في الاعتبار أن مساهمة الألمان في مجال الفلسفة مميزةٌ، وأن دراستهم المبكرة للتراث العربي الإسلامي لا مثيلَ لها. وحصلتُ من خلال هذا المعهد على منحةٍ للدراسة في جامعة فرايبورج الألمانية. لكنني كنت مغرماً باللغة الفرنسية قبل أن أدرسها. وذهبتُ إلى فرنسا، خلال الإجازة الصيفية، للبدء بدراسة اللغة الفرنسية التي أحببتها؛ في وقتٍ كنتُ فيه قد قدَّمْتُ، من خلال مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، طلباً للحصول على منحة للدراسة في فرنسا. وفي لحظة الاستعداد للذهاب للدراسة في ألمانيا علمتُ بالموافقة على منحةٍ للدراسات العليا في فرنسا، فتغلَّبَ حبي للغة الفرنسية على اختياري العقلاني للدراسة في ألمانيا، وكان هذا القرار سبباً في تغيير اتجاه حياتي كلها.

أما اختيار دراسة المعتزلة فقد كان مرتبطاً بمتابعتي لمجموعة المخطوطات النادرة في اليمن، وبمحاولة فهم الحركة الثقافية والجدل الفكري في المجتمع اليمني.

- انتُدبتَ للعمل في مفوضية اليمن باليونسكو في التسعينيات، قبل أن تصير ممثلاً لليمن فيها بعد سنوات.. ماذا أضافت إلى مشروعك هذه التجربة؟

* تعينتُ للعمل في وفد اليمن الدائم في اليونسكو عند تحقيق الوحدة اليمنية وانطلاق الآمال الكبار بنهوض يمنٍ كبيرةٍ بمساحتها وبمصادرها الطبيعية، وبإمكانات بناء تجربةٍ ناجحةٍ على أرضها تليق بما حققت الوحدةُ من تضافر للقوى الحية في البلاد. وقد وجدت نفسي أشارك في الدور العالمي الذي بدأَت التجربةُ اليمنية تكتسبه، مع بداية اهتمام المجتمع الدولي بهذه التجربة.

 وكنت نائباً للدكتور أحمد الصياد الذي كان سفيراً لليمن حينها. وحين تم اختياره لتولي منصب المدير العام المساعد لمنظمة اليونسكو -وهو ما كان نوعاً من الاعتراف بهذا الدور لليمن الموحد وبكفاءات أبناء اليمن المؤهلين- توليتُ منصب السفير بالنيابة وأصبحت عضواً في المجلس التنفيذي للمنظمة ورئيساً لإحدى لجان المجلس.

كان عملي مع الأستاذ أحمد جابر تجربةً مهمةً ودرساً في الجدّيّة وصرامة التفكير والفعالية، التي لا تفصل التصور والتخطيط عن شروط التنفيذ العملي في أقصر وقتٍ وبأقل كُلْفة. وهذه تجربةٌ لا توفرها أيُّ جامعةٍ ولا مدرسةٍ، بل تُستمد من التجربة العملية

- عدتَ إلى صنعاء مطلع الألفية، وعملت مسيّراً لمجلس الترويج السياحي، ومديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيف في سنوات تكوينها الأولى.. حدثنا عن هذه التجربة، وعن موسوعة المؤسسة  وعن رئيسها المتنور أحمد جابر عفيف الذي أهديته كتاب "الثقافة الجمهورية في اليمن"!

* حين انتهى عملي في وفد اليمن الدائم في اليونسكو، سنة 2000، عدتُ إلى اليمن وعملتُ مع الأستاذ أحمد جابر عفيف مديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيف الثقافية. وكنتُ قد عملتُ معه، في نهاية الثمانينيات، في الإعداد للمؤسسة وتأسيسها وبدء نشاطها. كما بدأنا الإعداد للطبعة الأولى من الموسوعة اليمنية، وشاركتُ في تصور المواد والتعاقد مع كتابها، وترجمتُ عدداً من المساهمات المقدمة لها باللغتين الإنجليزية والفرنسية.

وقد كان عملي مع الأستاذ أحمد جابر تجربةً مهمةً ودرساً في الجدّيّة وصرامة التفكير والفعالية، التي لا تفصل التصور والتخطيط عن شروط التنفيذ العملي في أقصر وقتٍ وبأقل كُلْفة. وهذه تجربةٌ لا توفرها أيُّ جامعةٍ ولا مدرسةٍ، بل تُستمد من التجربة العملية. وتعرفتُ عن قربٍ على تفكيره، الذي يحاول جعل المؤسسة جزءاً من مشروعٍ تربويٍّ شاملٍ موجهٍ للشباب، ولذلك أراد لها أن تكون منارةً ثقافيةً تفتح الأبواب للشباب كي يطوّروا مواهبهم، ويتجهوا للإنتاج الثقافي ويتجاوزوا الثرثرةَ وإهدارَ الوقت والفرص ويتجهوا نحو العمل والإنتاج والإبداع.

وفي مجال السياحة، تم اختياري خلال فترة لأكون مديراً تنفيذياً لمجلس الترويج السياحي، الذي اقترحه الاتحاد الأوربي وساهم في تمويله مع الحكومة والقطاع الخاص السياحي، لتطوير السياحة؛ كجزء من عملية التنمية، بعد تحقيق الوحدة، بالاستناد إلى المقومات الواقعية للبلاد، وللإسهام في مكافحة الفقر. وقد أتاحت لي هذه التجربة فرصةً ثمينةً لأطّلع عن قربٍ على هذا الجانب المهم من إمكانات تطوير اليمن ومكافحة الفقر فيها. فقد تنبَّهتُ إلى أن كل مدينةٍ وقريةٍ يمنيةٍ تكاد تكون متحفاً مفتوحاً عُمْر البعض آلاف السنين، والبعض الآخر مئات السنين، ووجود مواقع أثرية عديدة، وتنوع في التضاريس، بوجود جبال ووديان وهضاب وصحارى وشواطئ طويلة، وتنوع جغرافي، وتنوع في المعمار ما بين البناء بالحجر أو الطين المحرَّق أو غير المحرَّق، وتنوع في فنون الغناء والموسيقى والرقصات والعادات. كانت تجربةً مهمةً بالنسبة لي أُدركت من خلالها إلى أي مدى تملك اليمن مقومات سياحية كبيرة، إذا تم استغلالها وتطويرها ستكون إحدى قاطرات انطلاق التنمية ومكافحة الفقر.

 وبدأنا نُقِيم معارضَ سياحيةً في العالم. وحرصتُ على أن تشارك في كل معرضٍ سياحيٍّ محافظةٌ مختلفةٌ في تقديم ما لديها من رقصٍ وغناءٍ وموسيقى شعبيةٍ، لتوفير فرص المشاركة أمام الجميع. ونجحنا في بعض الحالات أن نضيف المثقفين اليمنيين إلى اتفاقات التعاون الثقافي؛ مثلما حدثَ في نشاطٍ ثقافيٍّ متنقِّلٍ في المدن الألمانية شارك فيه بعض المثقفين اليمنيين وقرؤوا قصصاً وقصائدَ تُرجمت إلى اللغة الألمانية واستمتع بها جمهور الحضور.

وقد بلغ عددُ السوّاح في بعض السنوات نحو مليوني إنسان، وتوفَّرَ العملُ وفرصُ العيش كلياً أو جزئياً لمئات الآلاف من اليمنيين. وحين بدأت الاختطافات والعمليات الإرهابية، انصرف السواح عن اليمن بسرعة. وجاءت الحرب لتغلق الباب في وجه السياحة ربما لسنواتٍ طويلة.   

- عدتَ إلى باريس من جديدٍ، وهذه المرة خبيراً في اليونسكو حتى تقاعدك قبل سنوات.. فكيف عاينْتَ هذه المنظمة من الداخل؟

* أتيح لي فرصة سنة 2002 للالتحاق بوظيفةٍ دوليةٍ في اليونسكو. فكان العمل فيها امتداداً لتجربتي السابقة في أروقة المنظمة، لكنني انتقلت من العمل كممثل لليمن إلى وظيفةٍ دوليةٍ لا ترتبط بدولةٍ بعينها. وهي تجربةٌ مثيرةٌ أتاحت لي فرصة التعرُّف من الداخل على آلية التعامل مع القيم والمُثُل التي تعلنها المنظمة في وثائقها. وقد بقيتُ فيها لمدة 13 سنةً حتى تركت العمل مؤخراً.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English