حسنات الحرب

البدائل الناجعة لتفريغ العنف
وجدي الأهدل
March 19, 2020

حسنات الحرب

البدائل الناجعة لتفريغ العنف
وجدي الأهدل
March 19, 2020

تؤديالحرب إلى إنضاج شخصية الإنسان. وكأشعة الشمس التي تُنضج الثمار؛ كذلك تفعل الحرببالبشر، وهذه مفارقة تدعونا للتأمل.

احتاجتْالشخصية الأوروبية إلى حربين عالميتين لكي تصل إلى النضج الإنساني"المثالي" الذي هي عليه اليوم. فعلى سبيل المثال، من المستبعد الآن أنتنشب حرب بين ألمانيا وفرنسا، على غرار الحروب الطاحنة التي جرت في الماضي، لأنكلا الشعبين قد وصلا إلى مرحلة من النضج تحول دون تكرار حدوث هذه المأساة.

منناحية أخرى يشير صعود اليمين الأوروبي إلى تراجع النضج الإنساني لدى الجيل الشاب،ما يُنذر بأن احتمالات اشتعال الحروب في أوروبا قد عادت للارتفاع مجددًا.

بالنسبةلنا كشعب، فإن عدم نضج الشخصية اليمنية هو السبب الحتمي للحرب، وسوف تظل هذهالحروب تندلع شرارتها دوريًا بين الحين والحين حتى تنضج الشخصية اليمنية، وتتوصلإلى الفهم أن الإنسان أكثر قيمة من المذاهب، والطوائف، والنظريات السياسية.

يقولعالم النفس كارل غوستاف يونغ:

"طالماأنه من الممكن قتل الأخ بدلًا عن قتل المرء لذاته، فإن الوقت لم يحن. لابد من حدوثأشياء مرعبة ليصل الناس إلى مرحلة النضج. ليس هناك من شيء آخر، يساعد على نضجالبشرية". بوصفي كاتبًا فقد ساعدتْني هذه الحرب المريرة على تحقيق شيء منالنضوج الإنساني، وكما أوضح (يونغ) فإن هناك تطورًا نفسيًا معينًا لا يعمل إلا تحتظرف الحرب.

أفضلمقاربة لهذه الشذرة النفسية أوجزها الفيلسوف نيتشه بقوله: "عش في خطر!"،والمغزى أن الحياة الخالية من المخاطر هي الطريق المعَبَّد إلى التبلد الروحي.

تستحقهذه النصيحة الثمينة أن تُكتب بماء الذهب؛ فلا جود لتطور نفسي مهم إلا بعد دفع ثمنهذا التطور. هناك عثرات تواجهنا في طريق هذا التطور، وعوائق مؤلمة للغاية مثلالشعور بالعدمية والاكتئاب بمختلف درجاته الذي قد يصل في ذروته إلى إقفال مسارالشخصية ودفعها للانتحار، وكذلك شتى الأضرار النفسية والتشوهات الأخلاقية التيتلحق بإنسان يعيش تحت ضغط الخوف والجوع وفقدان الأمل.

هذاقانون من قوانين الطبيعة: لا ينضج الإنسان إلا إذا غرق في الدم! "قابيل"كانت له أخلاق وحشية، فلما قتل أخاه "هابيل" حوَّله الندم إلى إنسانناضج نفسيًا ولديه حس أخلاقي رفيع.

هذاليس تبريرًا للقتل، ولكن محاولة للإجابة عن سؤال "لماذا نَقتل؟". القاتلهو وحش يريد التحول إلى إنسان، وهذا ما يفعله المجتمع بشكل جماعي حين يقرر خوضغمار الحرب.

لكنهذا الحل "البدائي" له بدائل متحضرة، مثل الألعاب الأولمبية التي تتقاتلفيها الشعوب بواسطة نخبة من أبنائها في منافسات رياضية شريفة، أو عبر قراءة الأدبالتي تجعلنا نُعايش الشر على الورق فنكتفي به في خيالنا دون الحاجة إلى حدوثه فعلًافي واقعنا. وعندما تقطع البشرية شوطًا أكبر في التحضر، فإن الخلاف بين دولتين علىمنطقة حدودية متنازع عليها سيُحسم عن طريق مباراة في كرة القدم، ولن تكون هناكحاجة لإطلاق رصاصة واحدة.

نشأجد العرب المستعربة "إسماعيل" في برية مكة بعيدًا عن تهذيب المراكزالحضارية، فكانت له أخلاق خشنة والقتل عنده أهون من شرب الماء، لذا أُمرَ والدهالنبي إبراهيم (عليه السلام) بقتله لكيلا تنتقل هذه الجينات إلى سلالته، ولكن فياللحظة الأخيرة تم العفو عن إسماعيل، وابتكار حل يُحدثُ هذا التطور النفسيالإيجابي مع الحفاظ على حياة صاحبها.

وكلإنسان منح الحياة في هذا العالم سوف ينال النضج النفسي "المثالي" حتمًا،منهم من يناله وهو على قيد الحياة، ومنهم من يناله عند حدث "الموت".

إنطقس التضحية الإسلامي بالحيوانات في عيد الأضحى هو رمز لهذا التحويل الإيجابيلجينات القتل، والهدف أن يكف الإنسان عن قتل أخيه الإنسان، وأن يُفكر بالإحسانإليه عن طريق إعطائه حصة من لحم الأضحية. هكذا يتم تلطيف هذه الطاقة الناريةوتدجين جينات القتل، فيحدث النضج النفسي الذي رغب فيه "يونغ" بطريقةسلمية.

إنقصة الذبيح إسماعيل الواردة في القرآن الكريم تقدم حلًا نموذجيًا لوقف إراقةالدماء في اليمن، بتحويل الطاقة النفسية من الشر إلى الخير، ومن القتل إلىالمحافظة على الحياة.

ويمكنتأويل طقس التضحية الحيوانية بأفعال موازية بما يتناسب مع زمننا المعاصر، كأن يُضحيالإنسان بجزء من وقته وماله لصالح الآخرين يوميًا، وأن يُعطي بلا حدود دون انتظارالمقابل، لأنه هكذا وبالتدريج تحل المحبة محل الكراهية.

يُفترضنظريًا أن تتجلى طلائع هذا "النضج النفسي" في الآداب والفنون، فيخطوالأدب خطوات واسعة نحو الصبغة الإنسانية، وأن يخفت الفن التهريجي (كذاك الذينلاحظه في الدراما التلفزيونية الرمضانية)، ويسطع ضوء الفن الراقي الذي يغوص فيأعماق الإنسان.

ومنعلامات هذا "النضج النفسي" للشخصية اليمنية أن يتغير المزاج الشعبي منتفضيل الملهاة إلى تفضيل المأساة، ويرتقي ذوقه من المعالجة السطحية التي تضحك عليهإلى المعالجة السامية التي تحترم عقله. نار الحرب أنتجتْ دخانًا كثيفًا، وفي ظلتشوش الرؤية، فإن الأعمال الفنية التي تُنتج ضمن المدى الزمني للحرب لن تكونالأكثر تمثيلًا للوعي الجديد. ينبغي أن تحدث قطيعة مع زمن الحرب، لكي يتمكن الفنانوالأديب والمفكر من استعادة قواه النفسية وإعادة بناء الوجدان الجمعي للناس وفقًالموجة روحية أعلى.

أحدأكثر الافتراضات تفاؤلًا، هو أن تساهم الحرب في إنضاج شخصية "الرأسمال"اليمني، فيتخلى هذا "الرأسمال" عن أنانيته، ويستدرك أخطاء الماضي، ويقومبدوره في النهوض الحضاري لليمن. لقد تعود هذا "الرأسمال" على أن يأخذولا يُعطي، وأن يُكدس الثروة دون أن يمنح شيئًا منها للمجتمع.

مانؤمّله هو أن تتسبب هذه الحرب الأشد هولًا في تاريخنا إلى نضج الشخصية الإنسانيةلدى رجال الأعمال اليمنيين، ويعملوا على غرار رجال التنوير في أوروبا وأميركا إلىبناء دور المسارح والسينما والأندية الثقافية والمكتبات العامة، وبذل المنحوالجوائز للأفراد البارزين في الحقول العلمية والثقافية.

كلماتطور المجتمع علميًا وثقافيًا حصد الرأسمال اليمني المزيد من المكاسب التجارية،نتيجة رسوخ الاستقرار والازدهار ومتانة القاعدة الإنتاجية القادرة على المنافسةوالتفوق. فعندما يُنفق رجال الأعمال اليمنيون ما يساوي 1% من ثرواتهم على البحثالعلمي والإنتاج الأدبي والفني فإن هذا يضمن لهم المحافظة على مكانتهم التجاريةالرفيعة على المدى البعيد. وفي حال ظلت رؤيتهم قصيرة المدى، وامتنعوا عن المساهمةفي النهوض الحضاري لوطنهم، فإن ثرواتهم ومكانتهم التجارية ستتبخر عاجلًا أو آجلًا.

التعويلعلى الحكومة لإحداث النهضة ثبت فشله خلال العقود المنصرمة، ويتبقى مسار دخولالرأسمال الوطني على خط الأزمة لإنقاذ اليمن علميًا وثقافيًا، وهو الحل الذي أثبتنجاحه في الدول المتحضرة.

الحربأداة هدم جبارة، ولكن ماذا بعد هذا المحو؟! يلزم أن ينهض كل فرد في المجتمع بواجبهفي بناء الجديد، وهذا البناء يحتاج إلى تمويلات سخية، وبدون مساهمة الرأسمالالوطني في عملية البناء فإن ولادة الإنسان اليمني الجديد – الناضج نفسيًا- ستحدثببطء شديد، وربما تتعثر، وحينئذٍ سنعض أصابع الندم لأننا ضيعنا فرصة لا تقدر بثمنلتصل الشخصية اليمنية إلى مرحلة أعلى من النمو والتطور الروحي.

•••
وجدي الأهدل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English