صنعائي الرهينة

كل شيء يأخذ وقته، لكن إلى متى؟
نادية الكوكباني
March 16, 2020

صنعائي الرهينة

كل شيء يأخذ وقته، لكن إلى متى؟
نادية الكوكباني
March 16, 2020

ذات حقيقة

  عندماأشرعت نافذتي للضوء ذات صباح رائق من شهر سبتمبر من عام ٢٠١٥، كانت خطوات الصغارتسير باتجاه مدارسها. عندها أجهشت بالبكاء؛ فقد توقفت تلك الخطوات قسرياً عن المضيمنذ اندلاع القصف الصاروخي الجائر على صنعاء قبل سبعة أشهر. أسرعت الخطى باتجاهالهاتف لأبث أمي ما شاهدته للتو، فقد كانت تعرف أن مشهداً كهذا لا يضخ الدماء فيعروق صنعائي فقط، ولكنه ينعش روحي معها. قالت: كل شيء سيأخذ وقته، وصنعاء أقوى منكل ما يواجهها من محن.

  عدتللنافذة لأتمزّج في وداع المنظر قبل أن تقفل المدارس أبوابها على طلابها لتبدأيوماً علمياً مثمراً. ورحت أنتظر خروجهم من خلف الأبواب عائدين لمنازلهم من تحتنافذتي التي مازالت مشرعة ظلفتها للضوء والأمل في ذلك النهار الذي كان خالياً منالتزامي بأي محاضرة في كلية الهندسة، مقر عملي.

ذات كابوس

الحرب اللعينة مستمرة، وتلك الأجساد الصغيرة البريئة التي تساقطت في الكابوس صارت حقيقة، لكن لشباب في عمر الورد من وطن واحد وجلدة واحدة يتناوب الموت فيما بينهم، ويتبادلون أحاديث الخيانة

وفي انتظاري ذاك، غفوت لدقائق تمكن فيها مني كابوس مرعب،أيقظني وأنا أرتجف. رأيت الصغار يخرجون من بوابات مدارسهم ويمضون لمنازلهم وأيديهمممسكة بشيء من الخلف، وعندما تأملته زادت رجفتي وهلعي، فقد كانت سكينة حادة يغرسهاكل طالب في ظهر مَن أمامه بمنتهى الهدوء، حتى باتوا جميعاً ببراءتهم وشنطهمالملونة مَلْقيين على وجه الأرض، وتحيط بهم بحيرة من الدم.

استيقظت من تلك الإغفاءة واجمة، فلم أعتد تفسير الأحلام.واعتبرته كابوساً لإغفاءة غبية في النهار، ونادراً ما أفعلها.

ظل الكابوس يشغلني، ورويداً رويداً صار تفسيره ينجلي دونبحث. الحرب اللعينة مستمرة، وتلك الأجساد الصغيرةالبريئة التي تساقطت في الكابوس صارت حقيقة، لكن لشباب في عمر الورد من وطن واحد وجلدةواحدة يتناوب الموت فيما بينهم، ويتبادلون أحاديث الخيانة، ويطلق علىالقاتل والمقتول "شهيداً" من كل طرف. وهذا في قوانين الحرب جائز.

  ذات وجع

  زادتتناقضات الحرب، وراح الكابوس يزداد في مناماتي، وكأنه يكبر ليجعل منى كتلة ألم. لميكن هناك غير سكاكين تخترق ظهور النساء والرجال من بني جلدتهم. تلك الظهورالمغدورة لم يقتلها غير طعنة الغدر من الخلف، لا ألم السكين.

  صارتروحي مثل وطني رهينة ذلك الكابوس، وصنعائي رهينة الخوف من القادم المجهول، وإنكابرت بصبرها وشمخت بكرامتها لتبث روح ساكنيها ذلك الصبر والجلد حتى اللحظة.

ذات صيرورة

  الآتيهل يحمل لصنعائي ما نتمنى؟ أم ما نكره لها ولساكنيها؟ فلم تنج مدينة من حتميةمرورها بصيرورة تاريخية غيرت كل أو جزءاً من أحد مكوناتها المادية والبشرية أو كليهمامعاً. فما الذي ستؤول إليه صنعائي في صيرورتها هذه؟ وهل ستحدد نتائج الحرب مسارها،الذي بالتأكيد لن يشبه سابقه؟ ولذلك ستمضي للمستقبل بخطى القلق والخوف من الآتيالمجهول، تماما كأولئك الصغار الذين مضوا لمدراسهم اليوم بفرح ولا يعرفون إذا ماكان هذا حال غدهم من الفرح أم من غدر الحرب وحرمانهم مجدداً من حقوقهم.

  ذاترحيل

  وهكذا تستمر الحرب، وأي حرب هي جائرة حتى لمن بدأها، وتستمر صنعائي في الصمود، تتلقى أكثر من غيرها ضربات الحقد المتواصلة دون هوادة. وكعادتها في كل محنة، تصبر لتنهض اقوى وأشد. عندها أعود لكلمة أمي "كل شيء سيأخذ وقته". وأسأل نفسي: إلى متى؟!

الصورة لـ محمد المخلافي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English