الوقت بخطوات عجولة

استذكار للعلاقة مع الزمان والمكان وتحولاتهما
محمد عبدالوهاب الشيباني
March 15, 2020

الوقت بخطوات عجولة

استذكار للعلاقة مع الزمان والمكان وتحولاتهما
محمد عبدالوهاب الشيباني
March 15, 2020

(1) السفر إلى عدن

السيارة ورائحة النارجيل والصابون

كنت على عتبة السادسة، حين قرر أبي أخذي معه إلى عدن، لميثنه عن ذلك بكاء الأم على وحيدها. كانت حُجته أنه سيتمكن من تعليمي هناك، وأن إحدى قريباتنا، التي تقيم في المدينة، ستعوضني عن غياب الأم، والأهم من ذلك إصراري علىالسفر معه، وكان ذلك مطلع العام 1972.

من صبيحة السفر، الذي كان يوم اثنين؛ حيث يتفاءل المسافرون به، لم أزل أتذكر تلك الغمامة "الكانونية" الكثيفة والنديةالتي غطت القرية والقرى المجاورة، ورائحة الكعك البلدي المنبعثة من كيس قماشي يجاور ملابسي، التي كانت، بالمناسبة، بدلة واحدة. وأذكر الحمار الأبيض القوي، الذيركبته مع أبي إلى منطقة "المركز"، حيث موقف السيارات.

حين انتهينا من صعود "نقيل تماح" مع مجموعةمسافرين بدليلهم العارف (قاسم العسكري)، لاحت أمامنا أول القرى المحيطة بالمركز. دهشتي الأولى كانت من أشعة الشمس المنعكسة من زجاج سيارة تعبر الخط الترابي، فولدت عندي إحساساً عجيباً بمعنى الانتقال من حال إلى حال.

رائحة الطبخ المنبعثة من مطعم شعبي نزلنا أمامه في السوق الذي يشقه شارع مُترِب، والتي تذكرني الآن بالصلصة المحروقة، أخذت كل حواسي، بمافيها تلك التي سكبتها بشبق على أول سيارة أبصرتها في حياتي، وملامحها للآن حاضرةبذاكرتي. "هي من نوع اللندروفر بلونها الأخضر الداكن"، وبعوارض الحديدالمتداخلة في حوضها الخلفي الضيق، والرسوم الصاخبة على مقدمتها، وزجاج الكابينةالمغطى بالشناشيل.

هي ذات السيارة التي أقلتنا إلى تعز في طريق ممهد، كان أصعب ما فيه نقيل يسمى "مُجرجِح" ويقع في أطراف دُبَع الخارج، وكان يشكِّل كابوسا للسائقين والركاب معاً لوعورته؛ حيث أبصرت بعد سنوات قليلة أول سيارةمنقلبة أسفله، فجسَّم عندي الصورة الأسطورية عنه، لم يبددها سوى ثعبان الإسفلت الأسود،الذي شقه الباكستانيون في أحجاره البيضاء منتصف السبعينيات، فحوله إلى طريق وديع.

دخلنا تعز مع أول الليل، حيث كانت الدهشة الثانية التي صنعتها كثافة الأضواء المنبعثة من محلات الشارع الرئيس وكثرة السيارات وتنوعها. وفي بخَّار "مخزن بضائع" شبه فارغ، ملحق بدكان (بقالة صغيرة) في منطقة المُصلى، بت أول ليلة بعيداعن أمي.

انسراحي في أول النوم مع رائحة البهارات بالصابون ورائحةالنارجيل السائل، ومحاولة تفسير البخار الصاعد من جسم مستطيل أبيض معبأ بزجاجات ملونة،حين فتح بابها من أعلى، لم يدم طويلا؛ إذ نقلني صوت بعيد لدراجة نارية إلى القرية،إذ صار في مسمعي صوت "قُعدان" هائجة تكثر في مثل هذا الوقت من العام في الأوديةوالشعاب في قريتنا، فهاج شوقي لأمي، فبدأت بالبكاء المكتوم.

في الصباح التالي، تخالطت رائحة عادم السيارة الواقفة فيباب الدكان، التي كانت تُخرج من شكمانها الخلفي دخاناً خفيفاً مصحوباً بقطرات ماء،برائحة "الشاهي" الملبّن والفاصوليا المطبوخة و"خبز الطاوة"، الذي يختلف شكلاً وطعماً عما اعتدت عليه هناك في القرية.  ألبستني هذه اللحظة إحساساً متناقضاً؛ هو بين الحنين للقرية من جديد ورغبة الاكتشاف في السفر الذي بدأ يضخِّم التفاصيل.

سيارة مقفَّصة بيضاء، عرفتُ فيما بعد أنها سيارة "الفولجا"الروسية الشهيرة، أقلتنا إلى الراهدة، حيث تناولنا وجبة في غير ميقاتي الإفطار والغداء،لكنها بينهما. ومن الجمرك استقلينا سيارة "لاندروفر". لا أتذكر من هذه الرحلةسوى عقبة صعبة، وإحساس مختلف بالحرارة وجسد مهدود غلبه النوم، لم توقظه غير جلبة المسافرين الذين يستعدون لتناول العشاء في لحج.

محمد عبدالوهاب الشيباني طفلاً

وفي الشيخ عثمان التي وصلناها ليلا تملكني إحساس ثالث بالمكان،وغير طقس "الكوانين" هناك في القرية. كان هنا الطقس دافئاً مصحوباً بروائحناعمة منبعثة من الزقاق المؤدي إلى مسكن قريبتنا، حيث صار للماء الفاتر النازل من الصنبورورائحة صابون "الليفبوي" في الحمام، حيث اغتسلت للمرة الأولى، التعريف الأول بعدن، والذي لم يزل يلازمني حتى اليوم.

لم أحتفظ من عدن تلك إلا بصورة قديمة برفقة محمد ابن خالتيونحن بزي المدرسة، وملتقطة في استوديو صنعاء بمنطقة الهاشمي في فبراير 1972، حسب المكتوب بظهرها، وبشريط باهت لبعض الأحداث منها، تواهني وعدم مقدرتي العودة إلى الدكان الذيكان يعمل به والدي، رؤيتي الأولى  للنعامة في بستان الكمسري، وصورة الفتيات الصغيرات بزي المدرسة، والأطفال الذين يخرجون فيالعصاري مغتسلين ومتهندمين ورائحة النظافة عالقة بملابسهم، وروائح البخور المنبعثةمن البيوت، على العكس من روائح مخلفات المواشي في بيوت القرية، والأهم، طعم الشعيرية اللذيذ والكيك الساخن.

رجوعي من عدن كان برفقة أبي بعد أقل من عام، حيث كان آخرعهده بالمدينة، التي لم تمح مع نسائها من ذاكرته حتى وفاته. أما عودتي الثانية إليهاستكون بعيد17  عاماًـ أبريل 1989ـ والتي اختزلتهابواحدة من أحب القصائد إلى قلبي، التي سميتها "عدن":

تأتيك عدن

ملفوفة بالبحر

وبخور المولمات بالعيدروس

تأتيك وأنت القروي

الموزع بين: أبيك"التاجر الجبلي" بأزقة "الهاشمي والشيخ"

ومدن الشمال الضجرة

تأتيك عدن لتسأل:

كم من الفودكا يشرب هذا البحر

ليحرس المباني الهرمة؟

تتصالح مع كل شيء بعدن:

مع قوارب الصيادين الواقفة كقدم خرافية

لجبل لا يغادرمُلُوحَتَه الشاحبة

مع خزانات النفط"الذَحِلة" بنكهتها الإنجليزية

مع رجل "هنديالقسمات"

دَلّكَ على شارعٍ تائهٍ عنك

فقط لا تتصالح مع محفظةنقودك الهاربة

تجاه صيرة القلعة

صيرة القنينة الخضراء/الصفراء

تجاه "دموع العمال" المعلبة بالقناني "البيروسترويكية"

الهاربة باتجاه مرقص ليلي

آخيت "على بلاطة"

دمك بجنون العالم

تأتيك عدن

بثوب السهرة الخرافي

ورائحة الصندل والفل

تأتي لتصوغ الوقت:

طاولة للسهر

ومساحة آدمية للرقص

تأتيك

لتختار نديمين:

رفيقاً يُمضِّي الليل بِلَوْك سياسة الوقت

وبحراً غير بعيد عنك يغتسل بعرق عيشة الراقصة

(****)

تغادرك عدن

وتكون قد حشوت كيس ذاكرتك بـ:

رمل السواحل الفرحة

حسناوات المدارس الموحدة

لوحات "الدعاية"المتآكلة

باصات النقل "الخّرِفة"

حتى أصوات الغربان

التي منعت أذنيك من التصنت للشقق المضاءة

ينبغي أن تحشوها

احْشُ كلَّ شيء عن عدن

حتى لا يسألك شرطي النقطة الحدودية

عن مهرباتك المحرَّمة

ويسألك فقط عن سر تقرُّح جفنيك،

ورائحتك الغامضة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English