عدن في المذكرات الشخصية

صورة المدينة عند بعضٍ من أعضاء بعثة الأربعين في 1947
محمد عبدالوهاب الشيباني
February 25, 2021

عدن في المذكرات الشخصية

صورة المدينة عند بعضٍ من أعضاء بعثة الأربعين في 1947
محمد عبدالوهاب الشيباني
February 25, 2021

(2) 

في موضوع للكاتب عنوانه "حينما تعيد الحرب إنتاج صِيَغ أخرى للهامش" توقف أمام معالم مهمة في محطات التنوير في اليمن، ومنها الأثر الذي أحدثته بعثة الأربعين، حين قال: 

"في يوليو 1947، غادرت من عدن صوب لبنان أول بعثة تعليمية يمنية لأربعين طالبًا في سن المراهقة المبكرة تتراوح أعمارهم بين الثانية والخامسة عشرة"، من مدن مملكة الإمام الرئيسية، اختيروا بمقاييس فرضها الأمير عبدالله ابن الإمام -وزير المعارف وقتها، لحسابات سياسية في إطار التنافس داخل بيت الحكم.

الأربعون طالبًا، الذين نقلوا إلى بعض مدن مصر بعد عام واحد فقط من دراستهم في لبنان، ومن سيلتحق بهم من طلاب مبتعثين من الشمال والجنوب، وكذا مبتعثي الأندية والأحزاب والأسر في عدن، سيشكلون اللحظة الفارقة في التاريخ السياسي والثقافي اللاحق لليمن. 

ففي القاهرة كان هؤلاء المبتعثون "منجذبين سلفًا إلى النشاط السياسي، وفي هذه العملية، صاغوا علاقات سياسية قيمة مع حركات يمنية وعربية متعددة. وكانت رؤاهم عن التطور الاقتصادي، والعلاقات الأجنبية، والتركيبة السياسية متكيفة مع نموذج الثورة المصرية" -كما يقول كيفين روزر- التي دخلت بكل ثقلها في معترك التحول في اليمن مع بزوغ ثورة 26 سبتمبر، والتي كان فيها لطلاب البعثات في القاهرة -عسكريين ومدنيين- الإسهام المميز فيها، من خلال وجودهم ككادر متعلم في دوائرها ومؤسساتها، أو تحولهم إلى قادة سياسيين في الأحزاب "الدينية والقومية واليسارية" التي حضرت في مشهد التحول الجديد، بوصفها حواضن للوعي السياسي، وروافعه المنظمة. ومن هذه البعثات، خرجت أول مرة الحركة الطلابية اليمنية الموحدة، التي ضمت أعضاء من كافة مناطق اليمن، ودعت في مؤتمرها الدائم المنعقد في يوليو 1956، في القاهرة، إلى الوحدة اليمنية، وناهضت كل دعوة تتناقض مع هذا التوجه، وهي بذلك أول من أكد في العصر الحديث على وحدة الشعب اليمني ووحدة الأراضي اليمنية، وهو ما يعني أن فكر تلك الحركة قد اتسم بالعمق، كما انطوى على نظرة استشراف تتسم ببعد النظر حول مستقبل اليمن، حسب د.أحمد القصير. [ينظر مجلة نزوى العدد 102 (أبريل/ نيسان 2020)]

من هذه التوطئة، بمقارباتها المختلفة، أردنا تتبع أثر الصدمة التي أحدثتها مدينة عدن في وعي الطلاب المبتعثين، عند أول خروج لهم من مملكة الإمام المعزولة. وسيكون المشترك بين الجميع تقريبًا، هي مظاهر المدينة الحديثة ووسائلها "من سينما ووسائل نقل وملابس وكهرباء". حضور الأستاذ أحمد محمد نعمان، والقاضي محمد محمود الزبيري، وبعض رموز حزب الأحرار، والصحيفة الناطقة باسم الحزب "صوت اليمن" في هذه الكتابات تصير في سياق القراءة جزءًا من عملية التحول النوعي في وعي الطلاب، الذين فتحت أمامهم المجاهل لاكتشاف العالم الجديد، خارج مدركات وعيهم البسيط، الذي بدأ التخلص رويدًا رويدًا من إرث ماضية وعلاقته بالأشياء القديمة، ويدلف إلى الحداثة من أبسط المنافذ، التي تشير إليها المدينة.

محسن العيني، السياسي اليمني المخضرم، وأحد أعضاء البعثة من صنعاء، يقول في كتابه "خمسون عامًا في الرمال المتحركة - قصتي مع بناء الدولة الحديثة في اليمن"، طبعة ثانية 2006:

"وفي عدن نزلنا بمدرسة جبل حديد التي كانت خاصة بأبناء أمراء المحميات وحكامها، وكانت خالية من الطلاب بمناسبة العطلة الصيفية. وقد فوجئنا فور وصولنا بوجود الأستاذين أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري زعيمي اليمنيين الأحرار، وقد سبق أن سمعنا عنهما، وقرأنا ما يكتبانه شعرًا ونثرًا، تنديدًا بالإمام وحكمه وظلمه ودعوة إلى الإصلاح، واستنهاض الشعب. وقد ذهبنا معهما إلى دار السينما للمرة الأولى في حياتنا، وشاهدنا فيلم "عنتر وعبلة". ولم ننم بعد ذلك أيامًا، إعجابًا وذهولًا.

شاهدنا مدينة عدن، وهي تسبح في أنوار الكهرباء، طوال الليل، والسيارات تسرح وتمرح في شوارعها المعبدة، بعد الظلام الدامس في صنعاء، وتعز، والحديدة، ومدننا وقرانا في الشمال. وقد قام ممثل الإمام بشراء البدلات الحديثة اللازمة لأعضاء البعثة، ولما طالبناه بالطربوش الأحمر، قال إن هذا غير ضروري وليس موجودًا في عدن على كل حال، وكانت صورة الطالب المصري في ذهننا وخيالنا مرتبطة بالطربوش".[ص 17-18]

كان صغار الطلبة لا يستطيعون الاستحمام في حمامات المدرسة التي استحوذ عليها كبار الطلبة، لذلك فقد كانوا يخرجون للاستحمام في حوش المدرسة

أما الدكتور حسن محمد مكي، رئيس الوزراء اليمني الأسبق، وأحد أعضاء البعثة من الحديدة، فيرد في مذكراته التي حملت عنوان "أيام وذكريات"، 2008:

"صدرت أوامر الإمام يحيى بشراء ثياب مناسبة لنا من بنطلونات وبدلات، وقالوا لنا إننا ينبغي في عدن، أن نحلق شعر رأسنا "تالوه"، أي تكون قصة شعر رأسنا حديثة، وتم غسل أعضاء البعثة، وقصوا أظافر بعضنا، فكانت هذه عملية تحديث لقسم كبير من الزملاء، الذين لم يعرفوا هذه الحياة من قبل، وحدث العديد من الطرف والنوادر في هذه المرحلة، فلم يكن بعض الزملاء يجيدون التعامل مع الملابس المدنية الحديثة، فالبعض على سبيل المثال، كان يرتدي الفنيلة الداخلية ويلبس فوقها الكوت مع البنطلون، وحين يُسأل عن الشميز يرد بالقول، إنه لم يحصل سوى على فنيلة ولم يعطوه شميزًا.

... وعند وصولنا إلى عدن، كان ممثلو الحكومة اليمنية قد سبقونا إليها، وتلخصت مهمتهم في منع أي محاولات يبذلها الأحرار اليمنيون المتواجدون في عدن للاتصال بأعضاء البعثة. وفي المقابل سعى الأحرار بجد للاتصال بأعضاء البعثة في محاولة لخلق علاقات، أو إيجاد أي صلات بنا".[ص 39–40] 

ويقول محمد عبدالعزيز سلام الذي شغل موقع وزير الخارجية، وأحد أعضاء البعثة من تعز، في كتابه "ذكريات وأحداث يمنية" 2006- مكتبة مدبولي:

"لم يستطع سائقو اللوريات [الشاحنات] مواصلة السير ليلًا إلى عدن، فأنزلونا للنوم في العراء عند بساتين لحج، ونظرًا لما كنت فيه من تعب وإنهاك فقد نمت على الأرض اليابسة بين القش والأعلاف دون غطاء. قمت أثناء الليل مُولولًا باكيًّا من شدة الألم في أذني اليمنى حتى أيقظت جميع من حولي، وعند المعاينة اكتُشف بأن حشرة كبيرة قد توغلت في مجرى أذني، عند الصباح الباكر واصلت اللوريات المسير نحو عدن، لتقذف بحمولتها الآدمية في باب مدرسة جبل حديد - مدرسة أبناء سلاطين جنوب اليمن، في ذلك الوقت.

انتظرت البعثة حوالي الشهر (شهر رمضان) في حر صيف عدن المحرق. كنا نحن صغار الطلبة لا نستطيع الاستحمام في حمامات المدرسة التي استحوذ عليها كبار الطلبة منا، لذلك فقد كنا نخرج للاستحمام في حوش المدرسة. خلال هذه الفترة الطويلة من الانتظار استطعت معاودة الاتصال بأبي الروحي الأستاذ أحمد محمد نعمان، وزميل الدراسة محمد أحمد نعمان، وأستاذي في المدرسة الأحمدية عبدالله عبدالوهاب نعمان، كما اطلعت مع إخواني أعضاء البعثة على النشاط السياسي والوطني للمناضلين اليمنيين في عدن وقراءة صحيفة "صوت اليمن" التي كان الأخ محمد أحمد نعمان يأتي بها ليلًا إلى مدرسة "جبل حديد" ويوزعها على جميع أفراد البعثة".[ص 45]

عند مشاهدتهم، من نوافذ المدرسة، للبواخر الكبرى جاثمة فوق سطحه بأضوائها الساطعة، وقفوا منبهرين أمام المنظر الفريد، وانطلقت من حناجرهم وأفواههم آهات الاندهاش وعبارات الإعجاب

ويقول اللواء عبدالله جزيلان، أحد أبرز رجالات سبتمبر، وأحد أعضاء البعثة من تعز، في كتابه "لمحات من ذكريات الطفولة 1987"، ط2، منشورات العصر الحديث: 

قال لي صديقي محمد عبدالعزيز سلام (بعد وصولهم الراهدة): "كف عن البكاء وإلّا عدت إلى تعز على ظهر حمار وحُرمتَ من العلم ومشاهدة السينما ورؤية السيارات والكهرباء والطرق المرصوفة، وكان يشاركني البكاء، وطلب مني الصبر على كل ما يحدث لنا. كفكفت دموعي وجلست مع زملائي نتناول طعام الغداء.

كنت متلهفًا على السفر إلى عدن لمشاهدة السينما ورؤية السيارات، وهي تسير على الطرق المرصوفة الممهدة، وسألت صديقي: أين ما كنت تحدثني عنه من سينما وسيارات وطرق مرصوفة...؟ قاطعني (بقوله):

- اصبر وسترى كل شيء.

وبعد وصولنا، جاء لزيارتنا الأساتذة أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، ومحمد صالح المسمري، وأحمد البراق.

في اليوم الثاني، ذهبنا جميعًا نحن أعضاء البعثة إلى السينما. القاعة فسيحة، المقاعد مريحة، الشاشة البيضاء أمامنا. جلست على أحد مقاعد الصالة، ورحت أدور برأسي ذات اليمين وذات اليسار، أطفئت أنوار الصالة، وبدأ العرض السينمائي، كان إعلانًا عن المبيدات الحشرية، الحشرات الزاحفة والطائرة تظهر على الشاشة، وصرخنا جميعًا في هلع وفزع، فقد خيل إلينا أن هذه الحشرات الطائرة آتية نحونا لا ريب في ذلك، ضحك النظارة، وسخروا منا، وشيئًا فشيئًا عاد الهدوء إلى نفوسنا والطمأنينة إلى قلوبنا، وتابعنا العرض ونحن في عجب شديد من هذه الآلة السحرية، تعرض علينا مشاهد رعاة البقر ورجال يرتدون القبعات ويركبون الجياد ويطلقون الرصاص".[ص 134-139]

أحمد قائد بركات، الوزير السابق وأحد أعضاء البعثة من صنعاء، ترد في روايته "منازل القمر" 1998، والتي عنيت بسيرة طفولته وشبابه ما يلي: 

"وركب سعد الربيدي في صندوق الشاحنة المتقدمة، وجلس على القاع يحدثهم عن عدن وأسواقها ومينائها ومباهجها وملاهيها، وهم منشدَّون إلى حكاياته الشيقة وتوصيفاته الفكهة ووعوده لهم بأن يطوف بهم في أرجائها ويعرفهم على معالمها، إلى أن قال:

- "عاد لو تبصروا السينما، كم يا سينمات في عدن، وكم يا أفلام، الهندي والإنكليزي والعربي، كل أسبوع فيلم جديد. غناء ورقص وحرب وقتال وقصص من حق الأولين. اليوم بُهْ فيلم عربي في سينما "مستر حمود" اسمه "شهريار" من ألف ليلة وليلة عَيعجبكم، أنا أعجبني كثير، فيه حب وغرام، وفيلم في سينما ثانية إنكليزي ما دريتش باسمه، ولا دخلته، قالوا إنه فيلم حرب وأنا ما يعجبنيش القتل والقتال".[ص 199]

وقبل أن يستدير نحو باب المدرسة ليغادرهم، أُضيئت أرجاؤها بنور ساطع، فالتفت إليهم وخاطبهم وعيناه تشعان فرحًا وبهجة، ومال الطلاب بأعناقهم إلى الخلف وهم يتطلعون منبهرين إلى المصابيح المضاءة والمدلاة من أسقف الممرات والقاعات، حتى الأستاذ المشرف لم يتمالك نفسه من النظر إليها بقدر عالٍ من الدهشة والإعجاب.

وعند مشاهدتهم، من نوافذ المدرسة، للبواخر الكبرى جاثمة فوق سطحه بأضوائها الساطعة، وقفوا منبهرين أمام المنظر الفريد، وانطلقت من حناجرهم وأفواههم آهات الاندهاش وعبارات الإعجاب. وفي اليوم التالي، قال لهم المشرف وبلهجته الصنعائية:

- "اليوم عَيْجُوا [سيأتوا] يزوروكم، الزبيري ونعمان وأصحابهم. ما كانش بِهْ داعي لهذه الزيارة، لكنهم صمموا وما نقدرش نردهم".

 ولا غرابة، إذن، أن يكون أعضاء البعثة، أو على الأصح النابهين منهم، من الموالين والمعجبين بالزعيمين، وبحزب الأحرار المرتبط باسميهما وبمن انظم إليهما وناصرهما".[ص 207 وما بعدها]

 " يتبع"


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English