من مشروع الحلم الكبير إلى تصدعات الانتماء

تحية لثورة أكتوبر ووعودها القريبة من الناس
خيوط
October 14, 2022

من مشروع الحلم الكبير إلى تصدعات الانتماء

تحية لثورة أكتوبر ووعودها القريبة من الناس
خيوط
October 14, 2022

تفتُّق الوعي السياسي الجديد في مرحلة بزوع حركة التحرر الوطني بُعيد الحرب الكونية الثانية في المنطقة بشكل خاص، ودول العالم الثالث بشكل عام- خلقَ، بدوره هنا في اليمن، السؤالَ الأصعب عن الاستحقاق الوطني في الحرية والاستقلال، لينتج تاليًا أرضية صلبة تَحرَّك على ترابها المناضلون الأوائل الذين رأوا في المستعمر -وهم محِقّون في ذلك بكل تأكيد- المستبِدَّ والمستغِلّ الذي جعل من المستعمرات بمواردها ومواقعها الاستراتيجية (أنموذج عدن ومحيطها) أدواتٍ لخدمة مصالحه الاقتصادية والسياسية ونفوذه، على حساب السكان الأصليين في المستعمَرات الذين حُكِم عليهم بالعيش من فتات خيرات أرضهم، وأنّ البُهرج القليل الذي حاول المستعمِر تسويقَه في المجتمعات المحلية من معمار وخدمات وقوانين بسيطة تنظّم العلاقة بين السكان، لم يكن أكثر من غطاء لسلوك النهب والاستحواذ والتوظيف المتعدد من أجل مصالحه الكبيرة، بعيدًا عن مصالح الشعوب المقهورة.

"ثورة أكتوبر" كانت نَموذجًا واضحًا لرفض هذا السلوك البغيض، وهدفت بشكل أساسي إلى السعي لبناء وطن واحد لكلِّ أبنائه، بعيدًا عن التمايزات التي كان يغذّيها البريطانيون على أساس الهُويّات التجزئية التي اعتمدها في تسيير السلطنات والمشيخات وتكوينات الحكم البدائية في عموم الجنوب اليمني، اعتمادًا على قاعدته الذهبية في التمزيق والتشظي، لإيهام الجميع بامتلاكه سلطة النظم الإيقاعي، حتى وهو يبيع وَهْم الدولة الاتحادية من هذه المتناقضات.

الظرف التاريخي الذي سرَّع بإنضاج الثورة في ذروة المدّ القومي، هو الذي وضع الثورة والدولة بعد أربع سنوات على المحكّ، بسبب التبدُّلات العاصفة في المنطقة والعالم، وكان للخيار السياسي الذي انتهجته السلطة الوطنية الجديدة التي تسلّمت الحكم (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل) كُلَفهُ المتعددة التي ابتدأت، قبل الاستقلال بقليل، بتآكل خارطة التحالفات الناشئة عن الدمج القسري بين الجبهتين (التحرير والقومية) في يناير 1963، وكان يؤشر إلى أولى محطات الاستحواذ والتفرّد، لتستمر تاليًا مع الإزاحات الناعمة والخشنة معًا لرفاق النضال، من قبل الطرف الأقوى داخل تكوينات الجبهة، التي صارت تنظيمًا سياسيًّا حاكمًا بتحالفاتها مع تنظيمات وأحزاب يسارية يمنية، قبل أن تصير حزبًا من (طراز جديد)، أُعلن عن ولادته من هذه المكونات، قبل أربعة وأربعين عامًا من هذا التاريخ وهو (الحزب الاشتراكي اليمني)، الذي كان العنوان الأبرز في إدارة دولة مترامية وقليلة السكان بمستحكمات أيديولوجية شديدة الحساسية في مجتمع لم يتجاوز سوى القليل من مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي.

حاول الحزب الاشتراكي بناء أنموذج قائمٍ على ثوابت وطنيّة تستلهم من أهداف ثورة أكتوبر وسبتمبر في الحرية والاستقلال والوحدة توجهها العام، غير أنّ ظروف الحرب الباردة والاستقطابات السياسية والتحالفات في سنوات السبعينيات والثمانينيات، جعلته وكأنه في استعداد قتاليّ دائم، دون أن ينتبه أنّ الدولة تتخشب، وتيبّست عروقها ولم يجرِ دم التجديد فيها، فقادت المجتمع إلى احتقانات في محطات كبيرة، ابتداء من العام 1969، وصولًا إلى الانفجار الكبير في يناير 1986، الذي أعقبه تكوين جملة من الأسئلة الحيوية، على رأسها المراجعات السياسية الكثيرة، بما فيها الاستحقاقات الوطنية الكبيرة، ومنها سؤال الوحدة اليمنية، التي ظلت في أولوية الخطاب السياسي لطبقة الحكم.

دخول الحزب الوحدةَ أعزلَ في مايو 90، إلّا من حمولاته الرومانسية الثورية، جعلت الشريك بتحالفاته المتعددة (القبلية والدينية والعسكرية) وخبراته، يُمهِّد كلَّ الطرق لابتلاع الجنوب الذي بَقِيَ الحزب حارس بوابته الرمزي، وهو ما كان في يوليو 94، بعد سلسلة طويلة من الأزمات المفتعلة وتصفية كادر الحزب والموظفين العموميين، لتبدأ بعدها حقبة المعاناة الطويلة لسكان هذه المناطق بتجريف كلِّ المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية التي تحصّلَ عليها في الحقبة الاشتراكية.

إغراق الدولة والمجتمع بالأزمات المتلاحقة، واستشراء الفساد في مفاصل الدولة الرخوة، قادت في سنوات قليلة، إلى إنتاج أسئلة سلبية حول مضامين الثورة ومكتسباتها، فصار الالتفات إليها أشبه بترفٍ استعاديّ وإسقاط واجب نخبوي، غير متصل بهَمِّ الناس اليوميّ ومُعاشهم الحياتي.

غير أنّ استذكار ثورة أكتوبر في هذا المقام واجبٌ أخلاقيّ رفيع، حتى لا تأخذنا حمى التصدعات، إلى هوة سحيقة، بعيدًا عن فكرة الانتماء لوطنٍ عمِلت الأهواء السياسية ومشاريع التفكيك الصغيرة في تحويله إلى هُويات مجزّأة مشبعة بالكراهية المجَّانية، خدمة لمشاريع تفكيكية أكبر، ووجد رعاة هذه المشاريع في الأدوات الداخلية السهلة والرخيصة مبتغاهم، حتى وهي تعمل تحت شعارات مراوِغة، لتخدير العامة بوعود لا يمكن أن تتحقق بالارتهان السياسي الذي كثيرًا ما رفضته ثورة أكتوبر بوعودها البسيطة والقريبة من الناس. 

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English