عدنيون مَرِحون على طاولة كوتشينة متهالكة

عن المقهى الذي تحول إلى محل صرافة في شارع هائل بصنعاء
محمد عبدالوهاب الشيباني
September 4, 2020

عدنيون مَرِحون على طاولة كوتشينة متهالكة

عن المقهى الذي تحول إلى محل صرافة في شارع هائل بصنعاء
محمد عبدالوهاب الشيباني
September 4, 2020

(1)

بعد حرب صيف 94، بنتائجها ومآلاتها المدمرة، تعاظَمَ الانكسار في نفوس يمنيين كُثر، وتحوّلت أحلامهم في التعافي الوطني، بعد سنوات من التمزّق والتشطير السياسي، إلى هباءٍ تذروه رياح الضغائن، وكان باستطاعة كلّ واحدٍ منّا أن يقرأ تنويعات عدة لهذه الحالة في عيون المئات ممن يعرف من الناس، الذين ينتمون إلى المحافظات والمناطق الجنوبية.

  عاد الكثير من المنكسرين إلى وظائف ديكورية في المؤسسات والوزارات في صنعاء، اشترطها حكام المركز من باب ذرّ الرماد في العيون، وتسويق بضاعتهم كوحدويين أنقياء، مقابل نصف شعب انفصالي!

  من الذين عادوا إلى صنعاء، هناك من حمل من جديد روح عدن المتسامحة، بعد أشهر من مغادرتها بسبب الاستقطابات الحزبية والشحن المناطقي الفاضح في فترة ما قبل الحرب وفي أثنائها، ومن عدن حملوا مرة أخرى روحها المدينية التي تخلقت في التسامح، وحلَّقت بها في فضاء المقهى، بوصفه العتبة الأولى لمنزلة التعدد والقَبول، وهو الذي رسُبَ في وعي العامة في المناطق المغلقة كمنبوذ.

(2)

بدأت الحياة بالتطبّع بحكم قوة العادة وصار مقهى "علي سعيد الصلوى"، أمام محطة البنزين بداية شارع هايل عنوانًا لحالة مختلفة لوظيفة المقهى في الشارع. 

طاولة خشبية مربعة، يتغطى سطحها برقائق "فرميكا" بيضاء متقشرة الحواف، تتموضع في الجهة اليمنى لمدخل المقهى الشعبي، الذي يتوسط محلًّا لبيع العسل وآخر لبيع العطور. الكراسي الخشبية المتهالكة، التي تجاور الطاولة وتفيض عنها لتغطي الرصيف الضيق، كانت مقصدًا سهلًا للزبائن من العمّال الريفيين، الراغبين بالجلوس عليها في أوقات الصباح لتناول إفطارهم البسيط، لكن الأمر كان يتبدل عصرًا حين يغدو الجالسون عليها مختلفين تمامًا، ليس بسحناتهم التي تحيل المتفرِّسين فيها إلى أكثر من جغرافيا وقارة، وليس بملابسهم النظيفة ومظاهرهم المدنية، ولكن بما يضفونه على المكان من بهجة وصخب، تدل عليه "لكنة" شعبية واحدة محببة، يطغى على مفرداتها المرح والفكاهة.

من الرابعة عصرًا يبدؤون بالتوافد إلى المقهى، في وقتٍ يُمضّي معظم سكان المدينة وقتهم، أو قُل يقتلونه، في مجالس القات. وحين يصيرون أربعة، يفتتحون وقتهم بلعب "الكوتشينة" (البطة)، في فعلٍ لا يتكرر في مقاهي المدينة، التي لم تتخلص من سطوة العيب، وإن تكرر في أماكن أخرى، مثل: باحات الأندية الرياضية في "التحرير" و"باب اليمن" وناديي الشرطة والجيش، فلن يتجاوز، هذا الفعل، لعب "الدومينو" و"الشطرنج" الذي اعتاد عليه الناس في تلك الأماكن المسيَّجة والمعزولة.

وحين يصل الوقت إلى صلاة المغرب، يضجّ الرصيف بثرثرات عشرين شخصًا، يتحلّقون حول طاولةٍ يلعب عليها أربعة أشخاص، تبادلوا أدوارهم مع لاعبين آخرين صاروا يجلسون على بقية الكراسي، ويتحلّق، حول الجالسين على الطاولة وحولها، مارةٌ مندهشون يريدون إشباع فضولهم بالأسئلة عن اسم اللعبة واللاعبين، وكيف تُلعب وما علاقتها بالقمار والحرام، وما إلى ذلك من الأسئلة التي تكشف وعي أصحابها حيال فكرة اللعب في المقهى!

أما الرائحة التي ستغطي المكان في هذا الوقت، عادة ما تكون خليطًا من عوادم السيارات المزدحمة في الشارع، ومن زيتٍ يتقلب عليه خبز المقهى، ومن أدخنة سجائر رخيصة تنفثها أفواه بعض المتزاحمين حول الطاولة، وربما من بخور خفيف يتصاعد من محل بيع العطور وأدوات تجميل النساء في الجوار.

يختلفون وهم يلعبون أو يتناقشون، ويصل صراخهم إلى السماء، ويتطلب الأمر أحيانًا تدخُّل "علي سعيد" صاحب المقهى لتهدئتهم، وإن لم يستطع يقوم بتهديدهم بالطرد وإلغاء طاولة اللعب

عدنيو الشارع المَرِحون، وأصدقاؤهم الذين يأتي بعضهم من أحياء بعيدة في المدينة إلى المقهى في العصاري، يكونون قد تخلصوا من براويز و"ميكانزمات" الوظيفة الرسمية في جلوسهم على طاولة بسيطة في مقهى ليس له اسم، وإن كان معروفًا عند مرتاديه بمقهى "علي سعيد" الذي يقع إلى الغرب من الجهة غير المسكونة من فندق البانوراما ومحطة البنزين أول شارع هائل من جهة الزبيري. 

المارّة العفويون باندهاشهم وفضولهم، وأحيانًا بتنصيب البعض أنفسَهم حرّاسًا للفضيلة حين تتجاوز لغتهم النصح إلى الإفتاء بتحريم اللعب، لا يعرفون في الأصل عن الجالسين شيئًا، فهم من وجهة نظرهم ليسوا سوى مجموعة من الرجال الفارغين الذين يقتلون وقتهم بما لا ينفع ولا يفيد.  

لا يعرفون أن الرجل الأسمر مصبوغ الرأس، ويتعالى صوته بـ"العرعرة" (الشتائم الودية) لمن يحوطه من اللاعبين، هو وكيل الوزارة، الذي وافق على صرف موازنات خمسة من الاتحادات الرياضية صباحًا، وهو يرتدي بِذلته الرسمية برباط عنق فاخر، وهو هنا بفوطته العدنية العادية ومشدّته المزركشة والمعطرة، متخلصًا من ورطات اللغة المتخشبة، متيحًا للسانه العفوي أن يستبصر مواضعه في "الحش" (النكات) و"العرعرة" والضحك بدون مصدات للوقار والعيب المزيف، ولا يتأفف أحد من رذاذها الأحمر المتطاير من الفم المحشو بورق "التمبل" على قمصان الجالسين بالقرب منه. 

الرجل الأبيض بصلعته المميزة الذي يناط به صباحًا، وبتكليفٍ من وزير المالية شخصيًّا، تحليلَ أرقام موازنات الدولة في قطاع الموازنة في مبنى "الصافية" المتجهم، يصل إلى المقهى بأقلامه الملونة لحساب أرصدة اللاعبين من "بنوط الكوتشينة" (الأرقام التي يحصل عليها اللاعب)، بمثل دقة الحساب الختامي الذي يعمل على سجلاته الكبيرة متعددةِ الخانات، عشراتُ الموظفين تحت إمرته.  

الأستاذ المشارك في كلية الطب، الذي لا تكفّ أيادي طلابه ومرضاه الذين يمرون في الشارع عن تحيته والسلام عليه، يتحول في المكان إلى شخص مختلف تمامًا، فبساطته وشعبويته على الطاولة، تجرفان المتعرِّف الجديد عليه إلى اعتقاد مخادع ومظنة ساذجة بأن الذي أمامه، بشاربه الكثّ ولغته البسيطة المَرِحة، بالكاد موظفٌ في دائرة حكومية هامشية، وليس أستاذ البيولوجيا المقتدر في كلية الطب والمختبر المركزي.

خبير الزراعة الوسيم، الذي يستجلب من تاريخ عدن تعددها العرقي والديني، التي مدت عروقه اللينة وبشرته البيضاء ببعضها من جهة الأم، يحضر بحكايا فتوحاته الجنسية والمالية بعفوية نادرة، تصير مادة دسمة لـ"الحش" المكثّف، حتى من أولئك الذين دفع، وبطريقة كاريكاتورية، ثمن مشروباتهم قبل مغادرته.

  رئيس التحرير بصرامته الصحافية والإدارية ومزاجه السياسي الحاد، يجيء إلى المقهى وقد أعد مادة للفكاهة عن المفاهيم الأيديولوجية، التي لم يزل بعض محرري الصفحات الداخلية في الصحيفة الحزبية التي يديرها، يفرضونها عليه، بحكم الأسبقية الحزبية، وإلا شُكِّكَ بنقاوته الحزبية.

  أستاذ الأنشطة التربوية بطوله الفارع، وتاريخه المهني الطويل الذي ابتدأه في كلية بلقيس في العام 1961، ويوقِّع على أعمدته الرياضية باسمه الخُماسي، يترك كل تاريخ "مَخَالِق" (شهادات ميلاد) المدينة "الكوزموبوليتيّة" و"جباليتها" (القادمين من الجبال)، حين تبدأ أصابعه النحيلة السمراء في البحث المكرور عن الجوكر الغائب، دون أن ينتبه لوجوده البارز بين أوراق "الكوتشينة" العشر التي تمسك بها يداه الجافتان.

  رئيس لجنة الحكام في اتحاد كرة القدم، كان يضبط الحاضرون إيقاعهم على رصانته ومغامراته المحسوبة بدقة، لهذا هو أقل الجميع مجازفة حينما يشتري ويبيع ورق اللعب، تمامًا بطرق حساباته السياسية ذاتها في الاصطفاف مع أطراف الصراعات المزمنة هناك، التي زامنها منذ صراع الجبهتين في أزقة "الشيخ عثمان" المتربة في العام 1966.

  ضابط الجوية النحيل الذي توسمت فيه الأم نباهة جدّ العائلة فسمّته على اسمه، كان حينما يصل تسبقه غمامة الضحك، مثل عطر قديم، لكنه منذ انتقل إلى مسكنه البعيد بعد تعيينه سكرتيرًا ومتحدِّثًا بلسان "الشيخ" رئيس الاتحاد، لم يعد يُرى إلا على صفحات الجريدة الحزبية ككائن تبشيري بالغد الأفضل الذي سيأتي به رئيسه الشاب، الذي لم يركل كرة في حياته، لكنه الآن "يكاوش" (يجمع) عشرات الملايين التي تصل كدعم لاتحاد الكرة من الفيفا.

النقابي الذي سرَّعت مصافي الـ"بي بي" من نضجه السياسي قبل أربعين عامًا، وأسبغت عليه لقبًا من أحد مكرورها في أسماء الوقود، كان يعاير ورق اللعب بأدوات "طرمبات" الوقود ذاتها في المحطات التي يفتش عليها، وهو يرتدي نظارته الطبية بعويناتها السميكة الأقرب لقيعان الكؤوس الزجاجية غير المغسولة في المقهى. 

  سائق "البيجو" على خط صنعاء- عدن، يحرص على أن تكون رحلة صعوده من عدن صباحًا، حتى يصل إلى صنعاء في وقت مثالي، ليترك "بابوره" (سيارته) طراز 504 في طابور الانتظار في "الفرزة" (الموقف)، ثم يحشر جسمه السمين في باص صغير ليصل المقهى، وفي جعبته عشرات الحكايا التي جمعها من ركاب "بابوره" العتيق.  

بعد جرعتين سعريتين، وتدهور العمل في المقهى في أوقات ما قبل طاولة "البطة" (الكوتشينة) وبعدها، باع "علي سعيد الصلوي" مقهاه لوسيطٍ جشع، الذي باعه بدوره لصرّاف، فحوّله المُلَّاك الجُدد، ومعه محل بيع العسل، إلى محل صرافة

عدن بكل تعددها، هنا على طاولة متواضعة متهالكة في مقهى شعبي؛ فالصومالي الذي يتشارك مع نجم السينما الأبيض اسمه، تدل عليه بشرته الداكنة وتقاطيعه، لكن عدن ستحضر في لسانه الوردي وطريقة تعامله مع الأشياء. وبمقابله صومالي ثانٍ تنقَّت بشرته من بعض السواد حتى صار بسحنة سواحلية، لكن ما سيدلّ على جذره الصومالي لقب العائلة الكبير. المتحدرون من أصلاب رجال قذفت بهم أرياف الحجرية إلى مدينة الماء والنساء منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وعدَّنهم الوقت وطباعه، تدل عليهم أسماء الحجرية العتيقة في الجد الثالث من "الهزععة"، و"المكردة" و"البجششة" (إشارات إلى أسماء من قبيل: هزّاع، مُكرِد وبجّاش). 

  التقاسيم الهندية والشعر الأسود السلس على رأس المدير الرياضي، لا تستقيم وانتسابه العائلي لإحدى مناطق "سلطنة العقارب"، المشهود لرجالها بالحنكة والشجاعة، كما يحلو لـ"المناجمين" (المزّاحين) قولها حين يداعبونه.

  اللكنة الجبلية الصرفة وعجمة ذي إصبع الحميرية لبعض القرويين المتعصبين لفك الارتباط، ليس بمقدورها محو المسحة التي مررتها مدينة الماء على رؤوس بعض من تعلّموا بمدارسها واستنشقوا هواءها.

  يختلفون وهم يلعبون أو يتناقشون، ويصل صراخهم إلى السماء، ويتطلب الأمر أحيانًا تدخُّل "علي سعيد" صاحب المقهى لتهدئتهم، وإن لم يستطع يقوم بتهديدهم بالطرد وإلغاء طاولة اللعب، التي لا تدرّ عليه -مع كل هذا الازدحام- سوى القليل من المال مقابل الشاي والخبز الذي يتناوله اللاعبون في ساعاتهم الخمس التي يقضونها على الطاولة، ويقتسم المبلغ الزهيد الخاسرون من اللاعبين، لكنهم سيحضرون في الغد وقد نسوا خلافاتهم مثل أطفال ظرفاء.

(3)

  بعد جرعتين سعريتين، وتدهور العمل في المقهى في أوقات ما قبل طاولة "البطة" (الكوتشينة) وبعدها، باع "علي سعيد الصلوي" مقهاه لوسيطٍ جشع، الذي باعه بدوره لصرّاف، فحوّله المُلَّاك الجُدد، ومعه محل بيع العسل، إلى محل صرافة معروف، يزدحم في رواقه يوميًّا مئات المُودِعين والساحبين والمحوّلين والمرسِلين من أموال، عوضًا عن مزدحمين فقراء كانوا يمضون محلّقين حول طاولة متهالكة، يجلس عليها رجال عدنيّون مَرِحون، يبثّون البهجة في الأرجاء.

  في هذه اللحظة بدأ الشتات الكبير، وتشتت معها كثيرٌ من اللائذين بالمقهى، الذين مرَّنوا أنفسهم طويلًا كيف يصطادون من فضاء طاولة يشغرها رجال مرحون، كِسَرًا أخرى للبهجة. 

  لم يعد شتات العدنيين وحدهم، بل صار شتات كل المدن والمناطق في اليمن، التي رتقت شروخها الوطنية على طاولات متهالكة أخرى في مربع مساحته أقل من الكيلو متر.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English