التفتت بعض الأعمال السردية اليمنية، التي عُنيت بالهجرة، إلى معضلة اجتماعية، كانت سائدة في اليمن والمنطقة حتى الستينيات من القرن العشرين، وهي مشكلة العبودية والاسترقاق. وإن عملَينِ من جملة أعمالٍ، يقوم الكاتب بدراستها، قاربت المشكلة في حالتين؛ الأولى رواية "سالمين" – عمان 2015، للكاتب الروائي "عمار باطويل"، وتتبعَ فيها حالة المسترقّ القديم "سالمين"، الذي انتقل مع مالكه إلى مدينة جدة، بعد النصف الثاني من الأربعينيات، ورصدَ من خلاله جملة التغيُّرات التي طرأت على طريقة تفكيره وحياته في المجتمع الجديد. والثانية رواية "قرية البتول" – القاهرة 1979، للكاتب الراحل محمد حنيبر، وفيها أفرد مساحة لتقولات حكيمة للمسترقّ "مبروك" المملوك لتاجر حضرمي في مدينة "بورتسودان".
(1) "سالمين" وطريق التهجين الأبيض الطويل
البدوي الجمَّال في وادي "دَوعَن"، "حمد بن صالح" ينتظر حتى تصله أموال والده التاجر المقتول، على أيدي القوات اليابانية في سنغافورة في ذروة الحرب العالمية الثانية، فيقرر السفر إلى مدينة "جَدّة" لبَدء حياة جديدة فيها، ويأخذ معه في سفرته المسترقّ "سالمين"، الذي اشتراه والده صغيرًا من أحد أسواق وادي "دَوعَن" مقابل ثور، فبقِيَ في بيت العائلة يخدمهم؛ يجلب الماء، والحطب، ويهتم بالنخل والمزروعات.
في "جَدّة" نال حريته بقرار من مالكه، الذي صار غنيًّا بفعل متاجرته بالأراضي والعقارات، ومن إحدى مكاسبه الكبيرة، في هذه التجارة، يشتري لعبده المحرَّر الجنسيةَ السعودية بمبلغ كبير جدًّا في تلك الفترة، فأتاحت له عملية التجنيس أن يعمل هو الآخر في التجارة من الأموال التي تحصّل عليها من مالكه القديم، فاغتنى وصار يملك الملايين، ليبدأ بعدها مزاولة فعل الانتقام من تاريخه الشخصيّ، ومن لونه الأسود، أو كما يرِد في النص:
"تحوّل إلى إنسان باحث عن المال في "جَدّة" بعد سنوات العبودية في حضرموت، وأصبح يحقق رغباته الجنسية، بعد ما كان محرومًا من الحرية، تحول إلى تاجر يملك ملايين، وبدلًا من أن يفعل الخير وبناء السدود، أو بناء المساجد، كما هي عادة البعض من أهل حضرموت، إلا أن "سالمين" أراد أن يسوق النساء أمامه كلما سنحت له الفرصة، وأصبح "سالمين" الحضرمي معروفًا في حياة النساء، بحبه لهن وإعطائهن الأموال والهدايا، وخاصة من الجنس المعاكس للونه، الذي يتفاخر باصطيادهن بسهولة. كان يستمتع بهذا التحول الجنسي عندما يخلط الأسود بالأبيض".
ومن صور الانتقام التي مارسها "سالمين" هو جعل الآخرين ينادونه بالشيخ بدلًا من العبد، أو مناداته باسمه جافًّا دون إلحاقه بلقبٍ تشريفيّ، وكان له في ذلك فلسفة في توصيف النفوس بقوله: "البعض من الحضارم، وخاصة ممن ينادونني بالعبد، جعلتُهم ينادونني بالشيخ "سالمين" بدلًا من العبد، فكلمة العبد أرهقت أذني خلال سنوات طويلة. أصررت عليهم أن ينادونني بالشيخ سالمين، هكذا تحولوا وانقلبوا عندما تحوَّل وضعي، وأيقنت أن "الفلوس" تحوِّل فقط النفوس الضعيفة وغير الواثقة من نفسها، أمّا النفوس العظيمة تظل كما هي، لا تتغير ولا تستحقر الآخرين بسبب لون بشرته أو قلة ماله".
في مقاربة نفسية لـتكوين "سالمين" وسلوكه، وأيضًا لمهارة وذكاء التقاط الكاتب، يرى الكاتب السوداني "عزّالدين ميرغني" وجود "نماذج لها في الكثير من البلدان والمجتمعات العربية، فتلك من الشخصيات المسكوت عنها وخاصة في الكتابة الروائية العربية. ويمكن أن تدخل هذه الرواية في مدرسة الواقع الاجتماعيّ العربيّ التاريخيّ. ورغم تاريخيّته، فما زال هنالك من يعيش مرارته ويكتوي بناره، وهو ضحية لواقع تاريخيّ لم يختَره ولم يشارك في صنعه. ولم تخلُ فترة الاسترقاق التي عاش فيها "سالمين"، من خدوشٍ نفسية وعقد مستحكمة في داخله، وقد أفلح الروائي في تجسيدها برمزية عالية".
في واحد من تحليلات شخصية "سالمين" يرى أنه "لم يتذوق بحق، التناغم والتصالح مع هُويته، فهو محسوب على الحضارمة، لكنه يبدو، في حقيقة الأمر، أنه ليس منهم؛ لأن هذا الانتماء العِرقي لم يرفع من داخله الإحساس بالعبودية. إنّ الثراء الفاحش الذي حقّقه، ونيلَه حريتَه في "جَدّة" لم ينقله إلى عالم التحرر من العبودية إطلاقًا، والحضارمة ظلوا ينالون منه ويتفوهون بعبوديته، وعمّقوا جرح الإحساس بها. إن هُوية "سالمين" هُوية مضطربة وممزّقة فهو لم يتذوّق طعم الانتماء للأسرة، ولا طعم الانتماء للمكان الذي استقر فيه. ففي "دَوعَن" كان عبدًا، وفي "جَدّة" أصبح حرًّا، ولكن البشر لم يُقِرّوا له بالحرية بسبب لونه الأسود. اختُزِلت إنسانيته في لونه الأسود، فالبشر في شوارع "جَدّة" ينظرون إليه بوصفه عبدًا، وليس "سالمين" الذي أصبح ثريًّا وحرًّا، والقادر على استباحة أجساد النساء البيض بمالِه ليحصل على المتعة البيضاء". كما يذهب إلى ذلك د. عبده عبدالله بن بدر.
بقي "سالمين" طويلًا يحثّ أولاده وأحفاده على التزوّج بالنساء البيض، بغض النظر عن أصولهن وأوضاعهن الاجتماعية والمادية، حتى يستطيع نسله في المستقبل التخلّص من اللون الأسود:
"لا تتزوجوا سودة أو عبدة مثل عرقكم، ومن لا يسمع نصيحتي لا أعرفه ولا يعرفني ومتبرئ منه إلى يوم القيامة، وإن نوى أحدكم الزواج، عليه أن يتزوج بيضة ولو من أسر وعوائل فقيرة، أهم شيء السواد لا يظهر على عيالكم، وإذا ربي طوّل بعمري بغيت باشوف عيالكم، غير عن بقية أبناء السود".
مسترقّ التاجر "باعبود"، أكثر وعيًا بكينونته، وله فلسفته الناقدة للنص وظاهرة العبودية بشكل عام. أما المسترق "سالمين" فمتشبعٌ بعقدة اللون والتاريخ، فيعمل بكل الوسائل لتجاوزهما، كمحمول ثقيل ومؤلم، بواسطة ثروته الطائلة
"مبروك" الحكيم الذي يعي كينونته كإنسان
في رواية "قرية البتول"، للراحل محمد حنيبر تظهر شخصية العبد "مبروك" الذي يمتلكه التاجر الحضرميّ "محمد باعبود" في بورتسودان، بأنه "رجل ناهز منتصف العقد الخامس من العمر، متوسط الطول والبدانة، يغلب على شكله الملامح الزنجية، وكان يرتدي جلبابًا أبيض، وعلى رأسه طاقية مكاوية ذات لون سمني، ومطرزة من أعلاها لأسفلها بالحرير الأبيض. ورغم ذلك العمر الذي قطعه، فقد كان قويّ البنية، كما لو كان ما يزال في نهاية العقد الثالث من عمره"، يقول عن نفسه: "أنا مجرد عبد، اشتراني سيدي "محمد باعبود" من السعودية، لأكون في خدمته هو وأفراد أسرته، وطالما أنّ هذا وضعي؛ فماذا سأطمع في الحياة غير الصحة؟".
هذه الشخصية المختلفة، وإن بدأ استنباتها في آخر فصول الرواية عرضًا، تؤدي وظيفة قيمية مهمة، وتشير إلى ظاهرة اجتماعية في فترة زمنية من تاريخ اليمن والمنطقة. التاجر حضرميّ يزاول تجارته في السودان، وله عبدٌ اشتراه من السعودية. هذا العبد يعي كينونته بقدرٍ عالٍ من الثقافة. وله تفسيره لظاهرة الاسترقاق، وله أيضًا تحفّظه على النص الدينيّ، وإن جاء من باب التمنّي باستنزال نصّ يُجرِّم ظاهرة الرق.
"أصحاب الكلمة الماضية في هذه الحياة هم أصحاب المال أمثال سيدي. أما أمثالك من الناس البسطاء فأوضاعكم لا تختلف عنّا كثيرًا، فجميعنا مسخرون لأصحاب الكلمة الماضية. والفرق بيننا وبينكم، أننا كعبيد نباع ونشترى بصورة مباشرة، أما أنتم فتبتاعون وتشترون بصورة غير مباشرة تحت وطأة الحاجة. كنت أتمنى من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لو أنه طلب من ربه آية قاطعة تُحرِّم الرِّق، كتلك الآية القاطعة التي نزلت في تحريم الخمر؛ لأن استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان أشدّ بلاء في نظري من شرب الخمر، ولكن الدين للأسف ترك الخيار لأصحاب الكلمة الماضية بين أن يحتفظوا بعبيدهم أو يحرروهم مقابل ذلك من حسنات في الآخرة. ولذلك نجد معظمهم فضَّل الاحتفاظ بعبيده وجواريه على حسنات الآخرة؛ لأنهم كأغنياء يستطيعون أن يكسبوا حسنات من مصادر أخرى تغنيهم عن حسنات هذا المصدر".
وفي مكان آخر من النص يقول "مبروك":
"أنا وأمثالي من العبيد يستطيعون أن يدخلوا إلى أماكن في خدور النساء، تُحرِّم على غيرهم دخولها، وهم لذلك يعرفون أدق أسرار أسيادهم، بل أن بعض الأسياد قد يشركون عبيدهم في المشورة في أمر ما، أو في حبك الحيل والدسائس لأمر آخر. والعبيد هنا قد يتصرفون بذكاء أسيادهم، إن العبد إنسان، وقد يمتلك من القدرات الخاصة ما لا يمتلكها سيده".
هنا العبد بقدراته العقلية، وائتمانه على أسرار الأسياد يصير سيدًا بقيمة معنوية ما؛ لأن الأسياد بانكشافهم يتحولون إلى عبيد بفعل سطوة مسترقيهم، الذين يحفظون كل أسرارهم.
(***)
المقتربات والتشابهات القليلة التي تتيحها هذه القراءة العابرة، تقول إن مالكَي العبدَينِ، هما تاجران من حضرموت، ويعيشان في ذات الفترة المتقاربة، وهناك عبدان باللون الأول ذاته، استملكه رب العائلة الذي يعمل بالتجارة في جنوب شرق آسيا، وأبقاه في مسكن العائلة في الوادي لخدمتهم، وتاليًا صار جزءًا من ميراث الابن الذي هاجر إلى مدينة "جَدّة" في السعودية، على الضفة الشرقية من البحر الأحمر، والثاني اشتراه، من السعودية، تاجرٌ حضرميّ يزاول مهنته في مدينة "بورتسودان" على الضفة الأخرى من ذات البحر، ولهما خصائص التسمية نفسها، غير أن ثقافة كل واحد منهما تختلف كلية عن ثقافة الآخر. فمسترق التاجر "باعبود"، أكثر وعيًا بكينونته، وله فلسفته الناقدة للنص وظاهرة العبودية بشكل عام. أما المسترق "سالمين" فمتشبعٌ بعقدة اللون والتاريخ، فيعمل بكل الوسائل لتجاوزهما، كمحمول ثقيل ومؤلم، بواسطة ثروته الطائلة، التي راكمها من عمله في التجارة في مدينة "جَدّة"، في بداية تشكّلها كجغرافية نفطية.