في الهجرات المربكة للألحان

"يا سائق المطر" قصة أغنية في مصر واليمن
جمال حسن
August 25, 2020

في الهجرات المربكة للألحان

"يا سائق المطر" قصة أغنية في مصر واليمن
جمال حسن
August 25, 2020
الصورة ل : عبدالرحمن الغابري

قدّم الفنان اليمنيّ محمد حمود الحارثي أغنية "فضلك يا سائق المطر" من مقام "الراست"، وتم نسبها للتراث اليمني، غير أن أقدم تسجيل لهذا اللحن يعود إلى مصر؛ ففي عام 1943، ظهرت الأغنية باللحن نفسه في الفيلم المصري "رحمة" وغناها محمد الكحلاوي، المشهور بأداء الموشحات الدينية. واكتفت شارة الفيلم بنسب كلمات الأغاني لبيرم التونسي، وألحانها للكحلاوي، والأرجح أنه شمل تلك الأغنية.

  فالأغنية في نسختها المصرية، اعتمدت على ثيمة لحنية شعبية من الموروث، ربما هي حاضرة بين المجتمعات البدوية في سيناء أو في الصحاري الممتدة حول وادي النيل، وهي التي سمعناها بصوت الحارثي، وسمعها المصريون بصوت الكحلاوي. أما قصة الفيلم، فتدور حول مجتمع بدوي يعيش في الصحراء الغربية، وجاءت الأغنية في سياق متعايش مع ثقافتهم.

من المحتمل أن الشاعر بيرم التونسي أعاد صياغة موضوع الأغنية مع الاحتفاظ بمضمونها العام. وهو نفسه مضمون الأغنية في نسختها اليمنية؛ فالأغنية أشبه بابتهال ديني وتضرع لإنزال المطر.

وفي حال اعتمادنا على أقدمية التسجيل، فإن هذا ينزع عن اليمنيين ادعاء امتلاك اللحن ونسبه إلى تراثهم. غير أنه في حال اليمن، لا نستطيع الاعتماد على أقدمية التسجيلات؛ لأنها ظهرت في عدن أواخر ثلاثينيات القرن الفائت، وهي فترة متأخرة عن مصر التي عرفتها عام 1901. كما أن صنعاء التي كانت تحت الحكم الإمامي المنغلق، بدأت فيها التسجيلات بالظهور جديًّا بعد ثورة 26 سبتمبر 1962. 

ومن المستبعد في حالة الحارثي، أنه وظّف اللحن الذي ظهر في الفيلم المصري؛ فليست هناك أيّة سوابق له في الاعتداء على ملكية فكرية، وهو غالبًا ما قدّم ألحانًا تراثية أو لفنانين يمنيين آخرين، فلم يدّعِ ملكة التلحين. من ناحية أخرى، يختلف المنظوم الشعري بين الأغنيتين، وإن كان يدور حول المضمون نفسه. ثم هناك ما يؤكد أن أغانيَ يمنية، عرفها أهالي جزيرة سيناء، مصدرُها اليمن. 

ربما اعتمد الكحلاوي على لحن يعود للجماعات البدوية الساكنة في شبه جزيرة سيناء أو في الصحراء الغربية، التي تدور في مناطقها قصة الفيلم. والموشح يعود إلى مظاهر دينية قديمة تدعو الرب بأن يسوق لهم المطر، من أجل زرعهم وقطعان ماشيتهم، خصوصًا في فترات الجفاف. فالجَلِيُّ أنّ الأغنية ليست في مركز ثقافة التجمعات المستقرة حول وادي النيل؛ فزراعتهم وقطعانهم تعتمد بدرجة أساسية على النهر. 

على خلاف ذلك، فاليمن يعتمد بدرجة أساسية في زراعته ورعيه على أمطار موسمية. ومن ناحية التكوين اللحني، نجد الموشح شديد البساطة، يدور في مساحة نغمية محدودة. لكنه يتوسع عن غناء "الأهازيج" الزراعية البسيطة، وهذا على صلة بطابعه الديني، فهو أقرب إلى تضرُّع استسقاء، وجسّد مقام "الراست" حالة الخشوع والشكوى لأداء هذا التضرع. 

الأغنية في نسختها اليمنية، كما سمعناها من الحارثي، تحمل شكوى واضحة، تطلب الرحمة بحالهم وسقيهم بالمطر. بينما في كلمات بيرم التونسي تكثّفت دلالة الأغنية في ذكر فضائل الإله، واكتفت بالتوشيحة المتكررة، كلازمة للتضرع، لكن من المحتمل أنها إعادة صياغة للمضمون الشعري الأصلي.

محمد الكحلاوي
ما يجعلنا نميل إلى أن الأغنية تعود للتراث اليمني، هو ارتباطها بالثقافة الزراعية والرعوية، المعتمدة على مياه المطر، لكن البدو الرحّل المنتشرين في سيناء وصحاري مصر، ترتبط حياة الرعي لديهم بالأمطار الشحيحة

كما تظهر السمات المشتركة في استخدام الألفاظ؛ ففي أغنية الكحلاوي يقول: "يا رافع السما، تروي العطشان من ضما"، بينما في الأغنية التقليدية، التي سمعناها بصوت الحارثي نجدها: "بالاسم يا رافع السما، وفالق الحب والنوى". 

  وهناك في كلمات بيرم جاءت: "خليت الإبل والغنم، يرعى من الدار والشجر"، وذلك ما تمحورت عليه بدرجة أساسية أغنية الكحلاوي؛ فذكر الفضائل كدلالة تكتفي بالتضرع من أجل نزول المطر. بينما في الموشح اليمني، نجدها: "اسقي الإبل والغنم"، وهي دعوة صريحة من أجل نزول المطر. وفي بيت آخر يقول: "عفوك ويسّر لنا المطر"، ثم نجد شكوى واضحة: "هذي عبيدك فيها الضرر".

في الأغنية التقليدية التي تعتمد على لحن واحد، نجد عددًا من المقاطع، ينقسم كلٌّ منها إلى بيتين، وتنتهي بلازمة مكررة: "فضلك يا سائق المطر، شكرًا يا سائق المطر"، وهي اللازمة الشعرية التي تظهر دون تغيير في أغنية الكحلاوي. لكن الأخير استخدم فواصل موسيقية، وحوّلها إلى أغنية، وهو ما استدعى هذا التكثيف، لتكون ثلاثة مقاطع، هي: المذهب وغُصنين. على عكس أغنية الحارثي، ذات الطابع اللحني المتكرر في مقاطع عديدة.

اعتمد الكحلاوي على اللحن نفسه في غناء المذهب ولازمة الدعاء المُكررة، بينما صاغ لحنين مختلفين في الغصنين؛ الأول جاء بنسق التوشيحة التي يبدو عليها أثر الموشحات الشامية، الممزوجة بأسلوب الغناء البدوي المصري، دون إغفال العلاقة المشتركة بين بوادي مصر والشام. ثم ينتقل في الغصن الثاني إلى صيغة موّالٍ ذي طابعٍ مصري، يستمد فيه أشكال اللحن البدوي. كما أن اللحن يشهد توسُّعًا نغميًّا واضحًا، مقارنة باللحن في صيغته اليمنية، إضافة لتصعيده درجات عالية.

وتلك الإضافة اللحنية حرّرت الكحلاوي من قيود الشكل التقليدي للغناء، دون إغفال براعته؛ إذ كان إضافة للحن تقليدي، بحسب اعتقادنا، دون أن ينزع عن اللحن وحدته. على أن وجود هذا اللحن في مصر واليمن يقودنا للتساؤل حول صلات ثقافية قديمة بين البلدين، لا يمكن إغفالها. 

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى محاولة استيلاءٍ على اللحن، حين أعادت فرقة "A-WA" لمغنيات إسرائيليات تقديم هذا اللحن، باعتباره موروثًا لليهود اليمنيين. ويمكن الإشارة لمقالة سابقة للفنانة الفلسطينية ريم الكيلاني، عن محاولة سرقة الفرقة، المكوَّنة من ثلاث مغنيّات إسرائيليات ذات جذور يمنية، لهذا اللحن. كما أنهن اعتمدن على كلمات بيرم التونسي، وليس على الكلمات التي جاءت بصوت الحارثي. مع الإشارة إلى تحويل اللحن من مقام "الراست" إلى "العجم"، كما أشارت الكيلاني. وهذا التطفل يمكن نزع البُعد الديني عنه، لكنه إرهاص ثقافي، والقصة هي: كيف يمكن لثقافةٍ نَسبُ شيءٍ لنفسها بهذا النوع من التبسيط، مع الإخلال في كل الأبعاد لأغنية لم تشهد جدلًا أو نزاعًا بين مصر واليمن، بل تعبيرًا عن صلات ثقافية مشتركة! كما أن الجماعات التي لديها اعتداد بجذورها، لا ينبغي أن تلغي ثقافة محليّة تواجدت ضمنها.

ما يجعلنا نميل إلى أن الأغنية تعود للتراث اليمني، هو ارتباطها بالثقافة الزراعية والرعوية المعتمدة على مياه المطر، لكن البدو الرحّل المنتشرين في سيناء وصحاري مصر، ترتبط حياة الرعي لديهم بالأمطار الشحيحة. ومن ناحية أخرى هناك ما يجعل اللحن ذا سِمَة مصرية. على الأقل، ليس فيه طابع الموشحات الدينية الصنعانية، وذلك لكونه أشبه بمناجاة بسيطة. وصعوبة الجزم في أصل هذا اللحن، مرتبطٌ بشحّة التفاصيل التي لدينا، فلا نعرف سوى القليل عنه.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English