مصادفة الاستماع.. صاعقة الانطفاء

ما يشبهُ الرثاء لسحر عبده
محمد عبدالوهاب الشيباني
August 23, 2020

مصادفة الاستماع.. صاعقة الانطفاء

ما يشبهُ الرثاء لسحر عبده
محمد عبدالوهاب الشيباني
August 23, 2020
ت : رحمان طه

في مطلع فبراير/ شباط من العام 2019، كنت مشاركًا ضمن مجموعة من الشاعرات والشعراء في إحياء يوم الشعر العالمي في "مؤسسة البيسمنت"، وكانت هذه المشاركة الأولى لي، بعد انقطاع طويل، عن قراءة ونشر القصائد – وليس كتابتها طبعًا، ولعبتْ الدور في ذلك الصديقة الشاعرة نبيلة الزبير، تمامًا كما لعبت الدور الأهم في جمع وتهيئة مجموعتي الشعرية الأولى "تكييف الخطأ" للنشر مطلعَ الألفية الثالثة.

قبل أن يحين دوري في القراءة، يومذاك، كنت جالسًا في الصف الأول، في الزاوية البعيدة عن المنصة، بجوار الصديق القاصّ والفنان عبد الفتاح عبد الولي، مستمتعًا بتلك القراءات المتنوعة لشعراء أعرفهم وقرأت لبعضهم، وفي الوقت ذاته، أستمع وأتعرف لأول مرة، على أسماء جديدة، لم تخلُ قراءاتهم من نضوج واضح. كان يقدّم الفعالية وقتَها، وبطريقته المرحة، الصديق الفنان نبيل قاسم، الذي كان يعرف كلَّ المشاركين، ومعظمهم من رواد "البيسمنت"، حيث يعمل، وحين طلب أن تصعد للمنصة الشاعرة والقاصّة سحر عبده، التفت نحوي عبدالفتاح، وقال: "هل تعرفها أو قرأت لها؟" فأجبته بالنفي، فقال: "أنصت إليها جيدًا، يا محمد".

لم أتحقق من ملامحها حين صعدت مكسوّة بالخجل، لكن حين بدأت تقرأ بشكل هامس ناعم، نصوصًا ذات صبغة جديدة، عرفت لماذا طلب مني فتّاح أن أنصت لها جيدًا، وهو المثقف والكاتب المميز.

ثاني أيام الفعالية رأيت اسمها في حائط أحد الأصدقاء، في الغالب عبدالفتاح أو نبيل، فأرسلت إليها بطلب صداقة، فقبلت ذلك بسرعة، واكتشفتُ أنها تعرفني من قبلِ الفعالية التي قرأنا فيها معًا.

بدأت أنبش في منشوراتها باحثًا عن نصوص قد تشبع لديّ فضولًا ما، وقد تعينني فيما أكتب، من وقت لآخر، عن تجارب شعرية مطمورة، في سياق اهتمامي بالتجارب الشعرية الجديدة في اليمن.

اقتنعت جدًّا بما تنشره من نصوص، وخصوصًا لجهة المضامين الجديدة، بلغة شابة غير متعثرة، وتعبّر عن شخصية شعريّة مثقّفة، حتى جاء يوم 31 مايو 2019، ونشرت نصًّا ببناء وزني وقرقعة موسيقية مستهلكة على روي القاف، فأرسلت إليها عبر الخاص، معبِّرًا عن احتجاج مهذَّب على هذه المغامرة، التي قد لا تضيف شيئًا مهمًّا لتجربتها المختلفة. وكان نصّ تلك المحادثة على النحو التالي:

  • "نصُّكِ المنشور قبل دقائق، أظنه لا يضيف لصوتك المتميز شيئًا جديدًا. بحثتِ عن الغنائية و(طرطقة) الموسيقى، كما يفعل مئات الشعراء. حقيقة أنا أحبُ نصوصك التي تكتبينها بدون إقسارات لغوية وفذلكات صياغة وتصنّع.

  •  شكرًا على كلامك أستاذ محمد، أنا لا أعتبر نفسي شاعرة، ونصوصي لا يراها سوى عددٍ قليل من الأصدقاء، ولكن لماذا لا تحب الشعر الموزون؟

  •  ليست المسألة حب أو كره...؛ المسألة عندي، ماذا يضيف النص لتجربة الشاعر/ة... أيضًا سأقول لك شيئًا؛ أنا مثلًا قرأت مئات النصوص التي تُكتب بذات الطريقة التي كتبتِ بها نصّك، وتجعلني في النهاية أشعر أني أقرأ نصًّا متشابهًا واحدًا، ولشاعر واحد يكرر نفسه على الدوام؛ فأين صوت سحر الخاص؟

  أنت هكذا تحملني مسؤولية...، المسؤولية التي أهرب منها باقتصاري على هذا العدد القليل من المتابعين على صفحة "الفيس بوك" الخاصة.

 بقيت أتابع باهتمام ما تنشر، من نصوص شعرية وقصصية وقراءات في الفن والسينما، حتى وجدت، قبلَ فترة ليست بالطويلة، نصَّها المدهش، غير المعنون، الذي تقول فيه:

 «في طفولتي..

اشترى أبي لأختي (عروسة باربي)، 

واشترى لي كتاب (كليلة ودمنة)

قال لي: ضعي خطًّا تحت الكلمات التي لا تفهمينها؛ لأشرحها لكِ.

حين كبرنا قليلًا

أهداها عمي أساورَ ملوّنة

وأهداني مجلة أطفال..

كانت أمي تعلّمها الطبخ

حين أجلس مع والدي ليشرح لي كتابًا لـ"كولن ولسون"..

الآن..

أختي تعيش مع رجلٍ يقول لها: "أحبكِ.." كل يوم

وأنا أعيش مع كومةٍ من الكتب

أضع كل تلك الخطوط تحت كلمة: "الحب"»

القاعدة الشائعة في طباع البشر أن الخوف من تقدّم السنين بهم هي السمة الغالبة، ويصير الحنين للطفولة والشباب هو المشغل الفطري للبهجة عندهم. لكن في نص سحر عبده، ستنقلب الآية تمامًا

الثلمة التي يحدثها هذا النص في مدركات قارئه لا يمكن أن تُنسى، أو تطوى مثل أي مرور عابر، ليس لجهة المفارقة الشعرية، التي دأب شعراء الحداثة الألفينيّون الاشتغالَ عليها كجزء من خصوصيهم وهويتهم في الكتابة، وليس للغة المتماسكة المقتصدة القادرة على توصيل ما تريده الشاعرة بأقل الكلمات وأكثرها سلاسة، وإنما أيضًا بالوعي العالي بإذابة الفواصل بين جنسين من الكتابة الأدبية هما القصّ والشعر، كما تقترحها الكتابة النصوصية الجديدة، في سياق الاشتباك الناعم بين الأشكال.

نصٌّ ينهض على حكاية تصير اختزالًا لسيرة مثقلة بحمولة نفسية شديدة اللمعان؛ طفلتان بتكوينين ثقافيين مختلفين، الأولى تُهدى لعبة، والأخرى كتابًا. يصير بعد رحلة الأيام في عمريهما الطريين، أن التي تُهدى لعبة باربي وأساور ملونة وتتعلم الطبخ من أمها وقت انشغال الأخرى بتهجي كلمات الكتب، تعيش حياتها خفيفة مطمئنة. أما تلك التي تُهدى كتاب "كليلة ودمنة" التراثي، ثم كتب الوجودي الكبير "كولن ولسون"، فتعيش الحياة ثقيلة، أو يُستعصى على مدركاتها كلمة مثل "الحب"، التي تنفق الكثير من وقتها لوضع خطوط كثيرة تحتها. 

 رحيلها الصاعق في 28 يوليو/ تموز 2020، جعلني أعيد قراءة بعض نصوصِها، ملبوسًا بالتعاطف والفضول معًا، بعد أن وافتني صديقةٌ لها بما طلبت من نصوصها، ومنها نصٌّ بغير ما عنوانٍ، كالعادة. هذا النصُّ يصحُّ، في القراءة، أن يكون اسمه "المغادرون"، ويمكن أن يكون "انتظار"، وربما أيضًا "مقعد":

«كلهم غادروا..

كنت وحدي على مقعد في الطريق

انتظرتُ

انتظرتُ كثيرًا..

إلى أن أتى بعد صبري أخيرًا..

على مهله..

مقعدٌ آخر»

بعيدًا عن فكرة المفارقة التي ينهض عليها، أو فكرة المباشرة بمحمولات الوحدة مثلًا، يرمي أمامك النصُّ القصير، جملةَ مفاتيح للقراءة، ومنها أن الحياة المؤلمة هنا هي في أقسى إسقاطها الرمزي، وهي جملة المغادرين بلا اكتراث. أما المقعد على الطريق، فليس سوى تلك الأيام التي نبددها بالمكوث، لهدف الانتظار وحده. وبعد الأيام التي ولّت، لن تأتي سوى أيام أخرى، وعلى مهلها، على هيئة مقعدٍ، سيقعدُ عليه منتظرٌ آخر، وهو العمر.

هنا نصّ ثالث، هو الآخر لا يحمل عنوانًا، واقتراحاتُ عنونته، في سياق القراءة، صعبةٌ جدًّا لمراميه المتعددة:

«حين تظهر الشعرة البيضاء الأولى في رأسي، سأبدأ بصبغه باللون الذي أحب.

حين تظهر التجعيدة الأولى، سأتوقف عن البحث عنها في المرآة كل يوم.

حين تبدأ مفاصلي بالتهالك، سأبحث عن فيديوهات اليوغا التي أجّلت ممارستها.

حين يصبح ابني شابًّا، سيُمْكِنني أن أطلق سراحه ولا أقلق عليه.

حين يناديني الشباب في الشارع "يا خالة"، لن أعود خائفة من تحرشهم.

حين يصبح في قلبي عددٌ كافٍ من الجراح..

سأكون مع رجل يقبّلني في كل عيد ميلاد لي، بعدد الشموع على الكعكة»

مظنّة القراءة لهذا النص تجعلني أقول متردِّدًا، أنّ ما تريد الشاعرة قوله فيما كتبت: لا شيء في المستقبل يخيفها، فهي مستعدة لكل مفاجآته، حتى تلك التي لا يرغبُ الكثيرون التفكير بها، مثل الشعراء البيضاء الأولى التي ستنبت في رأسها، ستحفزها لصبغه باللون الذي تحب، وهي كامرأة تستطيع صبغه متى شاءت، وكيفما شاءت، قبلما تنبت الشعرة البيضاء، لكنها تتحفز لمقابلتها لتبدأ بممارسة ما تحب فعله. 

وما تنفقه من وقت طويل أمام المرأة لتتبع التجعيدة الأولى قبل ظهورها، ستستثمره في شيء آخر؛ لأن الأمر سيصير اعتياديًّا، وستصير الدهشة مجرد ذكرى. تأجيل ممارسة اليوغا، حتى تتبدى التهابات المفاصل مع التقدم في السن، ومع ذات التقدم، ستُطْلِق ابنها الشاب، ولن تتضايق حين يناديها الشبان في الشارع بالخالة، لأنها لن تعود للخوف من تحرشهم. مع الندوب والجراح الكثيرة التي يتطرز بها القلب ويتخم بها، ستكون مع الرجل الذي يقبّلها بعدد السنين التي تذكرها بها أعياد الميلاد. 

 القاعدة الشائعة في طباع البشر أن الخوف من تقدّم السنين بهم هي السمة الغالبة، ويصير الحنين للطفولة والشباب هو المشغل الفطري للبهجة عندهم. في هذا النص، ستنقلب الآية تمامًا؛ الانتظار للشعرة البيضاء، والتجعيدة، والتهاب المفاصل، ومنع الشبان عن التحرش بها، والرجل الذي ستزيد عدد قبلاته مع جريان السنين، كلها أشياء قد تجعل الحياة أكثر بهجة.

لكن القدر وحده كان له رأي مغاير في ذلك المستقبل حين اختطف سحر، وهي تتجاوز منتصف الثلاثينيات بقليل، قبل أن تحقق حلمًا طالما يهرب منه الكثيرون من البشر. وأيضًا قبل أن تقول كيف بددت السنوات الخمس التي كانت من المفترض أن تصل بهن إلى الأربعين:

«خمسة وثلاثون عامًا؛

خمس سنين عشت فيها أميرة في قصر لم أعد أتذكره.

خمس سنين بعدها تم دعكي في الشارع لأنسى السنين الخمس الأولى.

خمس سنين بدأت أجمع أسئلتي التي لا إجابة لها.

خمس سنين هربت من الأسئلة إلى الأحلام.

خمس سنين حاولت تحقيق الأحلام، فسقطت في خيبة عميقة.

خمس سنين حاولت فيها إنقاذ نفسي.

وخمس سنين كانت كافية لأدرك أن لا جدوى من ذلك»



إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English