من أيام حارة الأصنج وشارع 26 لم تزل محفورة في ذاكرتي وجوهٌ محببة لم تمحها الأيام والسنون، منها بائع الجرائد الأعمى، وبائع الخمير، وبائعة البطاط، والمدكِّن الوديع، ومُسِنّة يستهويها الطرب.
"قاسم البصير" بائع الجرائد الأعمى
كان يعرف الناس من روائحهم قبل أصواتهم، بعد صلاة الفجر وبعد خروجه من الجامع كان يمسك بيد (عبده علي) أبو الخمير وينزل معه إلى المقهى لتناول إفطاره من الخمير والشاهي الملبّن، ثم يصعد عقبة العرضي بسيارة (الكدم) التي تكون عائدة من الباب الكبير وباب موسى وسجن الشبكة إلى مطبعة جريدة الجمهورية في العرضي؛ حيث يأخذ حصته من جريدة الجمهورية، قبل أن يعود راجلًا ممسكًا بحزمة الجرائد ويسبقه عصاه.
كان يبدأ، من منتصف العقبة وبالقرب من مسكن الفنان (هاشم علي)، بوضع الجريدة أسفل الأبواب المغلقة لبعض المتاجر والمحلات وعلى الجانبين وينتهي في الثامنة في الباب الكبير. كان له زبائنه، ولا يمنعه أيضًا، مروره في الشارع، من عرض بضاعته الورقية على المارة بالمناداة بصوت جهوري "جمهورية... جمهورية..."
كان يسكن في (صندقة) من الزنك في بقعة منتصف الحارة، بالقرب من دار قديم "يشبه دُور المدينة القديمة كنا نعرفه بدار (شمهان)، كان يقيم بدوره الأرضي مجنون شاب، ولا يرتاح بالجلوس سوى مع قاسم البصير ويحدثه عن عوالمه الأخرى بكل وداعة. في إحدى عصاري صيف 1983 اشتعلت بها النيران... لم أزل أتذكر بكاءه المحروق بصوت عالٍ، وأتذكر أنقاض الصندقة ومحتوياتها المحروقة، ومنها النقود الورقية الكثيرة التي تبقى منها أطرافها، وكان يُعاد أمر إحراقها بفعل فاعل، من أجل الاستيلاء على البقعة. بعد سنوات استحضرت بعضًا مما علق بذاكرتي عنه، وكتبت نصًّا مجمَّعًا من أكثر من حالة تشبهه وتعرفت عليها في أكثر من مدينة... أسميت النص (أعمى يبيع الجرائد، ويأكل الآيسكريم، ويتقدم الجنازات كبهلوان)
بائع الجرائد الأعمى كان يبكي ليرينا ربما دمعًا تذرفه عينان مطموستان، ويسمعنا نشيجًا عاليًا لرجل لم تكن تفارق وجهه المجعّد ضحكة البُصراء
حينما سكبت عيناه المطموستان دمعًا غزيرًا، خالط مخاطيطه ونشيجه العالي. لم يكن بائع الجرائد الأعمى يبكي عُشته الصفيحية المحترقة فقط، ولا ورق النقد الكثيرة، التي أكلت أرقامَها وخيوطها السرّية نار عابثة.
أيضًا لم يكن يبكي: ثلاث "عصي"، هم أولاده في الحياة، ولا كوفيتين مطرزتين، وجلبابًا كان يعدهم للعيد القادم بعد أيام.
بائع الجرائد الأعمى كان يبكي ليرينا ربما دمعًا تذرفه عينان مطموستان، ويسمعنا نشيجًا عاليًا لرجل لم تكن تفارق وجهه المجعَّد ضحكة البُصراء.
ينهض في الرابعة، تقوده عصاه إلى الجامع، ثم إلى مقهى أسفل الدرج، حيث شاهيه الملبن والخمير. وفي السادسة يكون في باب المطبعة منتظرًا حصته من "جمهورية" اليوم، الجريدة التي يتأبط منها كل صباح ما تستطيع حمله يدان ناحلتان منذورتان للتناوب على العصا وأخبار العالم.
في ساعتين يُصرِّف الجريدة كلها بخط سير، يبدأ من رأس العقبة وينتهي بالباب الكبير. يدس لأصحاب الحوانيت المغلّقة العالم (المقرطس) من مواضع يتقنها، ولآخرين يتركه في مواضع مأمونة لا تمتد إليها أيادٍ فضولية.
أما حصاده اليومي فيبدأ بتجميعه بخط سير معاكس يبدأ من الباب وينتهي برأس العقبة، أو قل: يبدأ من جوار بائع الآيسكريم العجوز، وتحديدًا من اللحظة التي يكون فيها قد فرغ من أكل قطعتين من "سكريم البُسكت " بلذة ومهارة، لا يجيدها أكثر الأطفال إدمانًا.
يَعرف الناس من روائحهم، ويعرفهم من أصواتهم البعيدة. لا يتسول هذا الأعمى، ويرافق الموتى إلى حفرهم الأبدية، متقدمًا الجنازات بتهاليل لا تشبه غيرها، لكنها تشبه (قاسم البصير) بكوفيته مأكولة الحوّاف، وكوته الأخضر القصير ، وجلبابه المشجّر.
عبده علي بائع الخمير
لم يزل عالقًا بأذني صوته الجميل وهو يؤم الناس في صلوات الفجر، حينما كان يتخلَّف الإمام، ببنية متوسطة، ولحية خفيفة موزعة على وجه أبيض نحيل، بجلباب أبيض وأحيانًا فوطة وشميز وكوفية بيضاء، كنا نشاهده في الغالب، وهو يقوم بنفسه بتحضير الخمير العدني، ويشرف على طبخ الشاهي الملبن، الذي يجتذب الكثير من الزبائن من أنحاء متفرقة من المدينة، التي كانت صغيرة وقتها.
من مواليد منطقة قدس بمواسط الحجرية أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، عاش في عدن، ومع انفجار ثورة سبتمبر التحق بالحرس الوطني، وفي حصار السبعين كان ضمن قوات الصاعقة التي استبسلت في الدفاع عن صنعاء بقيادة الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب لكنه مع موجة التسريح للضباط الجمهوريين، قام بفتح هذا المقهى المتواضع أسفل الدرج وصار عنوانًا مميزًا في شارع 26.
كان يصعد الدرجات بسرعة فائقة ليلحق موعد الصلاة جماعة، ويعود إلى مقهاه أسفل الدرج ممسكًا بالبصير، يحضِّر "عجنة" الخمير بيديه، وهو من يقوم تاليًا بقليها على الزيت المغلي لتنتشر رائحتها المحببة في الأرجاء.
أذكر ذات عصر كنت أتناول الشاهي بالحليب برفقة ابن الخال عبدالرقيب، فبدأت تُمطر، فاستشعر "رقيب" الخطر، ترك الشاهي وصعد الدرج مسرعًا للوصول إلى البيت، وبقيت أنا أتحدث مع الأصدقاء الذين كانوا معنا، ولم تمضِ دقائق إلا والمقهى قد غرق بالماء المنسكب من أعلى الحارة، فطفت صناديق الشاهي والكراسي وغرقت المؤن، وبقينا محاصرين وغارقين في الماء لساعة كاملة، حتى هبت نجدة أهل الحارة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في مشهدٍ أوجع كثيرًا عبده علي، لكنه لم يفت من عضده؛ إذ عمل طيلة الليل مع الفازعين بتنظيف المكان من مخلفات "السيل" وإصلاح الأعطاب في الأشياء وتهيئة المقهى من جديد لاستقبال الزبائن من الصباح الباكر، وكأن شيئًا لم يكن.
بعد أكثر من ثمانية وثلاثين عامًا طلبت من "رقيب" أن يوافيني بأخباره، فاتصل بي من تعز ومكنني من التحدث إليه... لم يزل صوته متعافيًا، ولم يزل يمارس عمله القديم في عجن وتحضير الخمير، أما الصورة التي وافاني بها لا تزال كثيرة الشبه بصورته المحفورة في ذاكرتي، وإن كانت سنين العمر قد أثلجت على وجهه، وأثقلت قليلًا على ظهره، فبدا بلحية بيضاء وظهر مقوسًا قليلًا.
بطاط الشريفة وأغنامها
ببنيتها الصغيرة ووجهها المدور الأبيض، بأسنانها المذهبة ولباسها التعزي القديم (الزنة البلدي الملونة، والسروال الطوي المزركش بثنايا أسفل الساق، والمقرمة السوداء المخططة بالأحمر، وصندلًا بلاستيكيًّا مطرزًا بوردة على سطحه الأملس) كانت تخرج من بيتها المجاور لجامع الحارة بعد صلاة العصر تمامًا، حاملة على رأسها وعاء معدنيًّا متوسط الحجم شديد اللمعان "دست"، ويتبعها ولداها؛ الأكبر حاملًا وعاءً بلاستيكيًّا أحمر اللون "بالدي"، والأصغر حاملًا وعاء صغيرًا من المعدن عليه غطاء بذات القالب.
أما وعاء المعدن الذي على رأسها فبداخله كمية من شرائح البطاطا المسلوقة المغمورة بالماء الدافئ، التي كانت قد أنضجتها ظهرًا، وتركتها تتفاعل مع بعضها، حتى تأتي بها وقد اكتسبت طعمًا شهيًا.
أما الوعاء البلاستيكي "البالدي" الذي يحمله الولد الأكبر، فبه عشر من الصحاف المعدنية صغيرة الحجم مغموسة، مع ملاعق معدنية صغيرة، في ماء نظيف. أما الوعاء المعدني الصغير المغطى "الكاتورة" الذي يحمله الأخ الأصغر فيحتوي على السحاوق الأحمر الحار (طماط مهروس مع قليل من الفلفل الأخضر والثوم والملح والكزبرة).
حين تحط من على رأسها "المكوفى" الدست اللامع على العتبة الأسمنتية، يكون معظم أطفال الحارة أمامها بانتظار أن تبدأ وليمتها اليومية. تعرف أسماء الأطفال، وتهددهم أنها ستشكي المشاغبين منهم لأمهاتهم، لهذا كانوا يقرفصون أمامها بهدوء ونظام حتى تفرغ من غرف بعض الشرائح المسلوقة بمائها إلى الأواني الصغيرة، ثم تسكب عليها ملعقة من السحاوق، بالسعر الذي يحدده الطفل "ربع ريال أو نصف ريال".
بعد أن ينهي كل طفل أكل وجبته الصغيرة، تقوم بغسل الإناء الصغير "المطيبة" في الوعاء البلاستيكي، وتحضيره من جديد لطفل آخر ينتظر دوره.
بعض الأمهات يقمن بإرسال أطفالهن، ومعم أوانٍ لشراء بطاط الشريفة؛ لجودته وطريقة تحضيره، ولا تنسى من يستدين منها، وعليهن إرسال ثمن ما أخذن بسرعة، وإلا تعرّض أطفالهن لتقريع الشريفة أمام أقرانهم.
هذه هيئة الشريفة ووظيفتها عصرًا، أما صباحًا فقد كنا نشاهدها وهي تُخرِج أغنامها من زريبة بمحاذاة بيتها القديم المتهالك، وتسرح بها في أطراف الحارة لالتقاط أرزاقها من العشب القليل في المساحات المفتوحة بالقرب من مقبرة حارة المستشفى ومدرسة ناصر. وحين تعود بها في التاسعة تلبس شرشفها القديم وتنزل إلى السوق المركزي لشراء الحشائش الخضراء للأغنام والبطاطا ولوازمها للأطفال، قبل أن تعود لتنظيف البطاطا وتقطيعها، ثم تضعها في إناء على وقيد من الحطب في مطبخ البيت القديم.
المدكَّن الخارج من نصوص محمد عبد الولي
حينما أعدت قراءة قصة "على طريق أسمرا" بعد ثلاثين عامًا من قراءتي الأولى لها، قفز إلى بالي مدكن حارتنا الوديع، وتخيلته قد تخلى عن تلك القناعة الصلبة التي كانت برأسه عن مسألة عودته إلى أرض الوطن حينما سأله الراوي في النص: ألا تفكر في العودة إلى اليمن؟
فكَّر طويلًا، وقال:
- اليمن... لقد نسيتها. إنني أنتظر الموت فقط. لن يعرفني أحد هناك إذا عدت، ثم ما الذي سأحمله لهم بعد غياب عمر كامل؟! لا سوف أبقى هنا حتى النهاية، لا أحد بقي معي هناك. لن أعود... قد يعود أبنائي يومًا ما إذا عرفوا أن أباهم كان غريبًا، وقد لا يعودون. قد يظلون مثلي غرباء.
لكنه عاد مع أطفاله وأمهم، بصورة المدكن ذاته، الذي كان في منطقة معزولة على طريق أسمرة، ولم يكونوا يعرفون حرفًا عربيًّا، لكنهم في السنوات الأولى انطلقت ألسنتهم بلهجة المدينة التي أجادوها. سكن الحارة، وفتح دكانًا أسفل نصف العمارة التي اشتراها بالقرب من الجامع، كان يبيع به كل ما يحتاجه الأطفال من الحلويات والبسكويت والمشروبات الغازية، ويتعامل مع أطفال الحارة بكثير من الوداعة والصبر. كان جلوسه في الدكان للتسلية أكثر من التكسب والاتجار، كان يغادره قبل الظهر إلى السوق، ويعود بقاته وفاكهته، وبعد أن يصلي ويتناول غداءه يتموضع في الركن الضيق للدكان، وأمامه مداعته القصيرة "النارجيلة"، ثم يبدأ بتناول القات، ويضبط أثير الراديو الصغير على محطة أفريقية، وحين تأخذه النشوة يبدأ، وبصوت خافت، الغناء باللغة السواحلية، وكأنه يسترجع كل شجنه القديم.
"مُجلَية" التي تطوف المنازل لسماع الأغاني
امرأة في الستين من عمرها، كانت تسكن، مع زوجها المسن وحفيدتها، بيتًا صغيرًا قديمًا في مدخل الحارة الشمالي الضيق المحاذي لمبنى البنك اليمني المطل على شارع 26 سبتمبر. كانت تخرج من بيتها في الرابعة بلباسها المميز (زنة بلدية خضراء مشغولة بمطرزات من الخيوط اللامعة على الصدر، وسروال طويل بثنيات مطرزة من الأسفل، ومقرمة هندية ملونة)، تلبس "شبشبًا" بلاستيكيًّا، وعلى رقبتها الضامرة ينطوي عقدًا قديمًا من كرات الفضة اللامعة، ومن الرقبة يتدلى خيط سميك لمفتاح أصفر، وتضع خلف أذنها غصنًا من الريحان، لتبدأ بالطواف المجدول على بيوت الحارة التي بها تليفزيونات ملونة، من أجل مشاهدة الفنانين الذين يعرض لهم تلفزيون صنعاء أغانيَ طربية تتناسب وأجواء المقايل في هذا الوقت، وإن كانت تميل أكثر إلى أغاني السمة والسنيدار والآنسي.
كانت تتفاعل مع أغانيهم إلى درجة الذوبان، فتأخذها النشوة أحيانًا، فتقوم بأداء جزءٍ قصيرٍ من رقصة على إيقاع الأغنية التي يبثها التلفاز... كن نساء الحارة يحببنها لروحها المرحة، وفي المناسبات يحمّلن أطفالهن شتى أنواع الهدايا والمأكولات لتوصيلها للجدة مجلية، التي كانت تضعها في غرفة مظلمة، يتعذر لاحقًا على الأطفال العثور على الأواني التي أوصلوا بها الأكل لها.
هي من نواحي "عُتمة"، واستقرت بمدينة تعز مطلع الخمسينيات، بمعية زوجها الذي كان يعمل في سلك الإمام، ولم تغادرها إلا إلى القبر، بسبب حادث تعرضت له في أحد شوارع المدينة.