سفير بين أربع عواصم (1-3)

عمارة الحكمي- اليمني الشاعر، المؤرخ والسياسي
علي الضبيبي
July 23, 2020

سفير بين أربع عواصم (1-3)

عمارة الحكمي- اليمني الشاعر، المؤرخ والسياسي
علي الضبيبي
July 23, 2020

لأكثر من عقدين من الزمن، في أواخر عهد دولة الفاطميين بمصر، ظلّت شخصية عمارة اليمني تحتل موقع النجم داخل قصور وقاعات وأروقة ذلك العهد الفخيم (1151-1174). 

السياسي الشاب، القادم من اليمن الممزق يومها، قصد القاهرة، سفيراً لشريف مكة- القاسم بن فليتة. لحظة استقباله داخل قاعة "قصر الذهب"، أدهش العرش الفاطمي، وهو يرتجل قصيدة عصماء أمام الخليفة الفائز، ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك، وكبار رجال البلاط.

وفي مقام دولة تعظّم الفنون والآداب والعلوم، افتتن الشاعر بكل ما شاهده ورآه، انبهار الآتي من بلاد قاحلة، ليس فيها أنهار ولا مدن ولا قصور ولا تقاليد رسمية بهذا المستوى الرفيع. 

القصيدة:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم         حمداً يقوم بما أولت من النعمِ

ومنها:

قرّبنَ بعد مزار العز من نظري           حتى رأيتُ إمام العصر من أممِ

ورحن من كعبة البطحاء والحرمِ          وفداً إلى كعبة المعروف والكرمِ

فهل درى البيت أني بعد فرقته            ما سرت من حرمٍ إلا إلى حرمِ

حيث الخلافة مضروب سرادقها          بين النقيضين من عفوٍ ومن نقمِ

وفي القصيدة يقول:

أرى مقاماً عظيم الشأن أوهمني          في يقظتي أنها من جملة الحُلمِ

يومٌ من الحلم لم يخطر على أملي       ولا ترقت إليه رغبة الهممِ

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها           عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمي

ومن القصيدة أيضاً:

خليفة ووزيرٌ مدّ عدلهما                  ظلاً على مفرق الإسلام والأممِ

زيادة النيل نقصٌ عند فيضهما           فما عسى تتعاطى منَّة الديَمِ

ويحدثنا عمارة الحكمي– اليمني، في كتابه "النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية"، أن السامعين طربوا لهذه القصيدة بشدة، وكان الصالح بن رزيك، يستعيدها مراراً في حال النشيد. 

وإذا كانت هذه القصيدة، قد أسست لعلاقة متينة ومستدامة بين صاحبها والعرش الفاطمي، الذين خلعوا عليه الخلع الفاخرة، وأكرموه بآلاف الدنانير، بدءًا بالخليفة الفائز ثم وزيره (الملك الصالح)، والسيدة الشريفة بنت الإمام الحافظ، حيث حُمل المال إلى منزله، وأُطلقت له من دار الضيافة رسوم لم تطلق لأحدٍ من قبله، وخصّه الصالح بن رزيك بمجالسته ومؤانسته، فإن القصيدة، على المستوى السياسي، الذي قدم من أجله، قد مهّدت لحل نهائي ناجز للأزمة، التي نشبت بين مكة والقاهرة، بشأن كسوة الكعبة، وقضية الحجاج المصريين.

ولد عمارة الحكمي، المعروف في مصر والعالم العربي بـ"اليمني" (نجم الدين)، في تهامة اليمن، وتحديداً في قرية "الزرايب"، القريبة من وادي سهام إذا اخترق بلاد "العبسية" باتجاه البحر. درس في "زبيد"، في آخر عهد بني نجاح، وبفعل نبوغه ونباهته المبكرة، فقد انتُدب مراراً لحلحلة تعقيدات ناشبة بين النجاحيين وبني زريع في عدن، ثم بين المملكتين معاً وبين أمير مكة القاسم بن فليتة.

نشأ عمارة داخل هذا المناخ المضطرب، وبدأ يعي نفسه سياسياً داخل بيئة شديدة التعقيد والتوتر، حيث انقسمت اليمن بعد أفول عصر الملكة أروى بنت أحمد الصليحية إلى خمسة مراكز متناحرة: النجاحيين في زبيد (العودة الثالثة)، بني زريع في عدن الذين أخذوا يتوسعون إلى إب لأول مرة، دولة بني حاتم في صنعاء التي بدأت تنكمش بظهور الإمام أحمد بن سليمان من شمالها (صعدة)، ومن الوسط انبعثت دولة علي بن مهدي، الذي سيطر على جبلة، وأرعب الجميع، بعد أن أصبح نفوذه يتسع من تهامة إلى أبين.

ويبدو أنه بسبب معرفة سابقة جمعت عمارة الحكمي بابن مهدي، قبل إعلان دولته، ومستوى العلاقة الجيد بين عمارة وسبأ الزريعي، تحفزّت في أذهان حكام زبيد بعض الهواجس والشكوك تجاه الرجل الذي أحس بالخطر، داخل مجتمع مليء بالحسد والريبة، وقرر الرحيل متظاهراً بالحج، ومن مكة إلى مصر، في مهمة مبعوث رسمي.

كان مجلس الملك الصالح طلائع بن رزيك، عامراً بالأعيان والأدباء والعلماء والساسة، فانتظم عمارة اليمني في سلكهم، ونال حظوة عنده وعندهم 

وبين تنقل الأمكنة وتعدد المهمات، يظهر الجانب المغامر في شخصية عمارة الحكمي، الذي مارس التجارة في تنقلاته بين عواصم اليمن والحجاز، ثم أصبح يعيش، لاحقاً، على راتب الضيافة ووجاهة الأدب والشعر، عندما استقر مقامه في القاهرة.

في البيئة الجديدة، أمضى عمارة الحكمي، أكثر من عشرين عاماً يرفل في نعمة لا حدود لها دون آبهٍ بالحساد والمنتفعين والنمّامين من الموظفين والخدام والشعراء، الذين يحضرون دوماً في بلاط الملوك والحكام ويتحلّقون حولهم، والذين صادفهم أثناء مكوثه في مكة وقبل ذلك في زبيد.

 ورغم التناحر الذي عصف بوزارة العرش الفاطمي، وخلخل نظامها، لا سيما في السنوات العشر الأخيرة، إلا أن مركز عمارة اليمني لم يهتز. ظل راتبه سارياً وامتيازاته تأتي، حتى بعد اغتيال صديقه الحميم، وزير الخلافة الملقب بـ"الملك الصالح" طلائع بن رزيك، ضمن مؤامرة قاسية، شاركت فيها الأميرة "ست القصور". أعقب الصالح بن زريك في الوزارة ولده الذي تلقب بـ"العادل"، فانتقم سريعاً من قتلة أبيه، واستوى ليعاود السير على نهج والده المعروف بالعطاء. لكن الزمن لم يسعف الوزير الجديد (بن رزيك الابن)، عندما خالف وصية أبيه بأن لا يعترض الوالي على أعمال الصعيد (شاور بن مجير السعدي) المعيّن من قبل الأب، وما هي إلا أيام على عزل عامل الصعيد القوي، حتى تقدم الأخير إلى القاهرة بجموع غفيرة، وألقى القبض على العادل بن رزيك ثم قتله، ليستلم الوزارة مكانه، بعد أن فتك بأسرته وقتل الكثير منهم، ونهب أموال بني رزيك وواحاتهم، ليطوي (شاور) على يده صفحة هذه الأسرة التي ذاع صيتها في أرجاء مصر والعالم الفاطمي.

كان مجلس الملك الصالح طلائع بن رزيك، عامراً بالأعيان والأدباء والعلماء والساسة، فانتظم عمارة اليمني في سلكهم، ونال حظوة عنده وعندهم. وكان الصالح رجل دولة حصيف بعيداً عن خشونة الوزراء، شاعراً محباً للأدب وأهله، وقد عاش عمارة في كنفه راضياً مكرماً لا ينقصه شيء.

تؤكد الشواهد الكثيرة والشعر والكتابات التي تركها عمارة الحكمي-اليمني، أن الرجل حزن بشدة وأصيب بصدمة عنيفة، لما حل بأصدقائه آل رزيك، حيث أحاطته اللوعة من كل جانب أسفاً على تلك الأسرة التي عاش في كنفها معززاً مهيباً مرموقاً. وقد تتابعت نكبات هذه الأسرة، رفيعة الشأن، التي كان نفوذها أقوى من نفوذ الخليفتين نفسيهما (الفائز ثم العاضد)، الأسرة التي احتضنته وفتحت أمامه جميع القصور ورتبت له وضعاً لم يحصل عليه أحد من قبل، حيث المزايا والإعانات المتتابعة وسِلال الحلوى الفاخرة، التي كانت تتدفق على منزل عمارة اليمني، في الأعياد شأنه شأن رجال النسق الأول في الدولة الفاطمية. 

لكن عمارة ظل وفياً لكل هذا الكرم؛ لقد تعامل بشهامة، ولعب دوراً في إنقاذ عدد من شبان هذه الأسرة المطاردين، من خلال دور الوساطة والضمان لدى هذا الوزير الجديد، الذي فتك بآل رزيك دونما رحمة، ثم إن عمارة دافع عن تاريخ هذه الأسرة بقوة ونظم أفضل المرثيات الشعرية عليها بكل شجاعة.

شخصية عمارة اليمني، الشاعر والسياسي، اتصفت بالوفاء والشجاعة. فقد وثق في كتابه "النكات العصرية"، وهو يصف جانباً من نكبة بني رزيك، بعد اغتيال الأب ثم لحقه الابن بعد أكثر من عام

بعد مقتل الوزير طلائع بن رزيك (الأب)، وتمكن ابنه (العادل) من الظفر بقتلة أبيه، سانده عمارة مساندة اليمني الأصيل، وكان راضياً بحالة التشرد التي عاشها بقية المتهمين، وفي ذلك صدّر قصيدة طويلة جاء منها:

ضاقت بهم سعة الفجاج وربما       نام الولي ولا ينام الثارُ

ولما نقل العادل بن رزيك (الابن) تابوت أبيه إلى "القرافة"، كان ذلك مثار لنظم أشعار عمارة وتجديد أحزانه، فقال:

ما أوحش الدنيا غديّة فارقت        قُطباً رحى الدنيا عليه تدارُ

خربت ربوع المكرمات لراحلٍ       عمرت به الأجداث وهي قفارُ 

نعش الجدود العاثرات مشيعٌ        عُميت برؤية نعشه الأبصارُ

ومشى الملوك بها حفاة بعدما       حفّت ملائكة بها أنوارُ

فكأنها تابوت موسى أودعت        في جانبيه سكينةٌ ووقارُ

وتغاير الهرمان والحرمان في       تابوته وعلى الكريم يغارُ

غضب الإله على رجال أقدموا     جهلاً عليك وآخرين أشاروا

لا تعجبا لقُدار ناقة صالحٍ          فلكل عصر صالح وقُدارُ

وقد شهد عهد الملك العادل (الابن)، عدداً من الحوادث والأحداث الداخلية والخارجية، فاشترك عمارة اليمني فيها كلها، ووقف على خباياها وسجلها في أشعاره وقيّدها أيضاً في كتاباته "النكت".

والحق أن شخصية عمارة اليمني، الشاعر والسياسي، اتصفت بالوفاء والشجاعة. فقد وثق في كتابه "النكات العصرية"، وهو يصف جانباً من نكبة بني رزيك، بعد اغتيال الأب ثم لحقه الابن بعد أكثر من عام، وتلك الحوادث العاصفة التي تتابعت على هذه العائلة. يقول عمارة: "ثم دخلت قاعة السر من دار الوزارة، وفيها طي بن شاور، وضرغام، وجماعة من الأمراء، ورأس رزيك بن الصالح بين أيديهم في طست، وما هو إلا أن لمحته عيني، ورددت كمي على وجهي، ورجعت على عقبي، وما ملأت عيني من صورة الرأس. فأمر طي من ردني، فقلت: والله ما أدخل حتى تغيب الرأس عن عيني، فرفع الطست. قلت: لا خير في شيء يؤول الأمر بصاحبه من الدست إلى الطست، ثم خرجت، وقلت:

أعزز عليّ أبا شجاعٍ أن أرى      ذاك الجبين مضرجاً بدمائه

ما قلبته سوى رجال قلبوا          أيديهم من قبل في نعمائه".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English