الوقت بخطوات عجولة (6)

شارع 26 وحارة الأصنج في تعز
محمد عبدالوهاب الشيباني
June 27, 2020

الوقت بخطوات عجولة (6)

شارع 26 وحارة الأصنج في تعز
محمد عبدالوهاب الشيباني
June 27, 2020

من يوم انتقالي من دكان الحاج سعيد عمرو غالب إلى منزل خالي، لم أزل أتذكر أني حملت على رأسي كرتوناً متوسط الحجم، كان بداخله كُتبي ودفاتري المدرسية، وأعداداً من مجلتي “الصقر” و”الرياضي”، ومجلتي “ماجد” و”ميكي”، ومجلد قديم لمجلة “سمير”، كنت أجمعها بشغف نادر، وممسكاً بيدي حقيبة بلاستيكية عتيقة فيها ثيابي القليلة جداً.

 وصلتُ بكرتوني إلى حُجرة في مدخل البيت منفصلة عن الشقة السفلى، حيث كان يسكن عبدالرقيب ابن خالي، مع أحمد ابن خال لي أيضاً، ولا نتفاوت كثيراً في السن، وكنت أتوسطهما في العمر؛ عبدالرقيب الصغير وأحمد أكبرنا.

 يقع المنزل في الحارة التي تعلو شارع 26 سبتمبر، مباشرة من جهة الجنوب والشرق، وتسمى حارة الأصنج نسبة إلى الجامع الذي يتوسطها، وتسمى رسمياً حارة “المستشفى السفلى”، لأنها تشكل الامتداد النازل من حارة المستشفى الجمهوري باتجاه مركز المدينة.

الإحساس بالانتقال من حال إلى حال كان مستطعماً لديّ، وشعوري بالحرية كان قوياً أيضاً، إذ لم تعد تتملكني لحظات القلق من التأخر في العودة إلى الدكان لأي سبب كان. صحيح أنني كنت في الأيام الأولى من إقامتي الجديدة، أمسكُ بنفسي متلبِّساً بالقلق في مشاوير بعيدة عن مربع التحرك التي لم أعتدها، لكنني حينما أخرج من الموقف أضحك قليلاً، وأبدأ بممارسة اكتشاف المكان بكثير من الثقة.

تجرأت بإقامة علاقات جديدة مع أترابي في الحارة والشارع، والذين كنت أعرف بعضهم بالزمالة في المدرسة، وبدورهم عرفوني بأصدقاء لهم في حوارٍ قريبة، كـ”الضبوعة” و”حارة المستشفى” القريبتين، وأغلب هؤلاء كان المشترك بيني وبينهم حب كرة القدم. كنا نتبادل المجلات الرياضية، ونذهب معاً إلى ملعب “الشهداء” لمشاهدة المباريات، أو الذهاب إلى السينما، في فعل حين اقترفته أول مرة، كنت كمن يشرك، ولم أزل أتذكر كيف ارتجفت قدماي وتسارعت نبضات قلبي الصغير وأنا أدخل لأول مرة صالة سينما “بلقيس” لمشاهدة فيلم “أجمل طفل في العالم” بطولة رشدي أباظة وميرفت أمين، بعدما شدتني في “أفيش” الفيلم الموضوع في باب السينما لقطات من مشاهد ساخنة يعرضها الفيلم.

شارع 26 سبتمبر، يمثل روح العصاري الدافئة في المدينة، وكنت أحرص بعد الرابعة عصراً على التهندم بأجمل ما لديّ من ملابس، وأجمل ما لديّ يعني أنها ذات الملابس القديمة والقليلة التي كنت أمتلكها في فترة الإقامة في “المركزي”، لكنها هذه المرة صارت مغسولة، وغير عالقٍ بها روائح الدكان، وصار لدي حذاء بدلاً عن الشبشب البلاستيكي، وصرت أمشط شعري الكثيف والسلس بمشط ناعم في واجهة مرآة عتيقة نصف محطمة كانت موجودة في الغرفة، ثم الهبوط من جهة “مختبر شاهر” ومحل “الدوبي” (مغسلة) القباطي، وصولاً إلى مقهى عبده علي “أبو الخمير”، الذي كان يقع في ركن الشارع الرئيس، عبر درج من أحجار البازلت غير المستوية.

في الغالب كنت أتخذ مساراً باتجاه مدرسة ناصر، لتكون وجهتي الوصول إلى “باب الكبير”، وتحديداً إلى صندقة “علي النهمي” “أبو البطاط”، في مدخل الباب. كان يبيع بطاطاً مسلوقاً، يُحضِّر بهاراتها من الزعتر و”البسباس” (الفلفل الأحمر) بـ”مسحقة حجرية”، تعطيها نكهة رائعة، لم تفارق حواسي حتى الآن. لهذا كنت أحرص في كل زيارة لتعز، المرور عليه للسلام، وأكل البطاطا وإن كنت شبعاناً.

عن علي النهمي وبطاطه اللذيذ كتبتُ في سنوات لاحقة مقطعاً شعرياً ضمن نصٍ أسميته “تعز” تضمنته مجموعتي الأولى “تكييف الخطأ”. هذا المقطع صغته على هذا النحو:

(يا بابها الكبير/ سمِّ الداخلين برطانتهم/ القرويين بدمهم الرهيف/ الجوالين الذين يخبئون أعسارهم اليومية تحت جلود ملفوحة/ واترك “علي النهمي” مبهماً/ يغسل أيامه بأبخرة البطاطا/ وينشِّق خشبتك بطحين الزعتر).

عند الفجر كنا نستيقظ على طرقات الخال لباب الحجرة وهو في طريقه إلى المسجد، فننهض للحاق به، ونصلي بجواره، وإلاَّ تعرّضنا لتقريع مؤلمٍ منه ومن الخالة

كنت أبقى لوقتٍ جوار الباب متأملاً “الصبريات” أثناء استعدادهن لمغادرة المدينة، بعد أن ينهين بيع قاتهن وخضرواتهن في الأسواق القريبة. كانت السيارات “لاند كروزر” العتيقة موديل 75، هي التي تقلّهن إلى قرى الجبل قبل تعبيد الطريق، وكان الموقف الخاص بهذه السيارات يقع جوار “باب الكبير”.

يكنَّ في هذا الوقت قد ملأن قفافهن وصحافهن المعدنية ببضائع مختلفة، ومنها “حلاوة الهريسة” التي تُصنع بإتقان في محل جوار الباب، وكنت ألحظ دوامهن على الشراء، في حين لا تتحرك السيارات، في طابور واحد من ثلاث أو أربع سيارات، إلاَّ بعد أن تتفقد النساء بعضهن البعض؛ بالتأكيد ستكون سيارات غيرها قد أقلّت قبل ذلك بعضهن، وخصوصاً أولئك اللواتي يرتبط تواجدهن بالمدينة بخضار وفواكه البكور.

في طريق عودتي، من جهة “باب الكبير” كنت أجلس قليلاً في “مقهى الإبّي” على كرسي في ناصية الشارع، مستغلاً معرفتي بأحد أبناء عبدالله صاحب المقهى. أتأمل المتسوقات اللاتي يزدحم بهن الشارع الأشهر في المدينة في ذلك الوقت من النهار، حين تكون الروائح التي تُغطي فضاءه خليطاً من البخور والعطور ورائحة الحلويات وعوادم السيارات والبطاطس المقلية.

الشارع بمحلّاته الراقية لبيع الملابس والعطور والذهب والأحذية والحلويات ولُعب الأطفال، كان واجهة للمتسوقات والمتسوقين من أرجاء المدينة، ومكاناً مفضَّلاً للتسكع وللمواعيد العاطفية العابرة، فكان يُعرف، في أوساط العامة، بـ”شارع الحب”.

 كان الذي يثير انتباهي بشدة، أن كثيراً من المتسوقات (المنقبات، المشرشفات، والملثمات) كنّ حين يدخلن المحلات يقمن بنزع لُثمهن أو رفعها قبل السؤال أو معاينة ما يردن شراءه.

بعدها أواصل سيري باتجاه العقبة مروراً بـ”حلويات ياسين”، وعادة ما يكون الحاج ياسين في هذا الوقت بكوفيته الزنجباري وفوطته العدنية وقميصه نصف الكمّ متربعاً أمام المحل بالقرب من كشك التُمبل الهندي، يتبادل الحديث مع المارة الذين يعرفهم. أما دخول مكتبة “الوعي الثوري” وتقليب الصحف فكان أشبه بلازمة يومية، والسبب أن أبناء صاحب المكتبة أصدقائي القريبين، والمرور عليهم للسلام أشبه بواجب. هذا المشوار اليومي بمحطاته كان بالنسبة لي عملاً لإعادة قراءة التفاصيل بوعي طفل يريد إشباع غريزة الفضول فيه، واكتشاف المكان والوجوه.

قبل السادسة أعود إلى البيت من جهة البنك اليمني، مارّاً بجوار “عمارة الغنّامي”، حيث كنتُ أصادف كثيراً حسين عثمان عشَّال، بسحنته المهيبة، وهو في طريقه إلى الجامع، وعودتي في هذا الوقت كانت للجلوس أمام التلفزيون لمشاهدة مسلسلات كرتون الخاصة بالأطفال، والتي لم أزل أتذكر منها “افتح ياسمسم” ومغامرات “عدنان ولينا” ومسلسل “سنان” و”أوسكار” ولاحقاً “جرانديزر”. بعد تناول العشاء نهبط إلى حجرتنا في الدور الأسفل، حيث نبدأ بمراجعة الدروس بقليل من الحماس.

كنت أحتفظ براديو صغير لم أعد أتذكر كيف وصل إليَّ، وكنت أستمع منه لأخبار الرياضة في مواقيت كنت أحفظها بعد التاسعة، وعند الفجر نستيقظ على طرقات الخال لباب الحجرة وهو في طريقه إلى المسجد الذي في الجوار، فننهض للحاق به، ونصلي بجواره، وإلاَّ تعرّضنا لتقريع مؤلمٍ منه ومن الخالة.

أما أنا، فمن المستحيل أن أعود للنوم؛ كنت ألبس بدلتي الرياضية -شورت قصير وفنيلة وجوارب طويلة وحذاء شراعي- وأذهب إلى باحة مدرسة ناصر الإسمنتية للعب كرة القدم مع أتراب من الحارة قبل أن يتوافد الطلاب، وهذا الأمر كان يتم في أيام الدراسة والدوام، أما في أيام العُطل والإجازات، فقد كنت أذهب برفقة نفس الأصدقاء إلى حقول جرداء، تحولت إلى ملاعب في منطقة “عُصيفرة” شمال المدينة، حين لم تكن قد صارت غابة من الإسمنت.

بعد عودتنا كنا نتجمَّع في كثير من الأوقات في مقهى “عبده علي” أسفل الحارة بمحاذاة شارع 26، لتناول الخمير والشاهي الملبَّن، حين كان هذا المقهى بما يقدمه من “خمير عدني” من أشهر مقاهي المدينة، ومزدحم على الدوام.

حين كنت أستكمل دراسة الإعدادية بعد الظهر، كنت أعود للاستراحة حتى الضحى قبل أن أخرج من جديد لإنجاز بعض المهام بطلب من الخالة. أما حين صرت طالباً في “ثانوية الثورة” القريبة من البيت، فقد كنت أعود وأستبدل ملابسي بالبدلة الزرقاء المُعتنى بها والذهاب الى المدرسة، التي افتتحت من جديد، بمبناها الحجري في أول أعوام دراستي الثانوية في موسم 83- 84.

كانت الملامح الآسيوية لهاشم علي، ووداعته وعلاقته البسيطة والمرحة بالناس، تعظم عندي قيمته كإنسان قبل أن أعرف أنه فنان كبير وتعرض المكتبات بعض رسوماته

في تلك الفترة تقريباً، كان لعمي صديق في شارع 26 سبتمبر، يمتلك محلاً لبيع لُعب الأطفال أمام مبنى البنك اليمني. كان يبحث عن عامل لفترة مؤقتة لتركيب اللُعب، ومنها “سياكل” الأطفال (الدراجات الهوائية)، كان لقبه الشرماني وفي أواسط الستينيات من العمر، اشترى تلك العمارة القديمة، التي تنفتح على الشارع الرئيس بمحله ذاك، بعد عودته من رحلة مهجرية طويلة في أكثر من بلد، آخرها كان في إحدى بلدان الخليج. اقترحني عليه عمي ووافق الرجل من ساعته، لأني كنت أمتلك خبرة بسيطة في تركيب اللعب التي كنت أقوم بها في محل عمي في السوق.

لأول مرة صار لي دخل مادي من عملي، ومنه اشتريت مسجلة صغيرة بلاستيكية بيضاء صينية بسماعة دائرية تتركب في الأذن، واشتريت مجموعة من أشرطة الكاسيت منها مجموعة عبدالحليم حافظ الغنائية، والتي كانت أشبه بـ”مانفستو” العشاق المراهقين في الشارع والحواري، وكانت المسألة لديّ مرتبطة بتوهمات عابرة، ظننتها عشقاً لبعض الفتيات في الحارة، كنا نتبادل نوعاً من الاستلطاف. اشتريت من هذا الدخل أيضاً بعض الملابس بموضة ذلك الوقت لتتناسب مع وجودي الدائم في الشارع المكتظ بالنساء والعشاق.

لم يستمر عملي في المحل سوى أشهر قليلة، فبعد أن قمت بتركيب تلك اللعب وعرضها بفوائض في واجهات المحل، الذي كان يديره المالك بنفسه، استدعاني عمي وسلمني بقية مستحقاتي مع مكافأة صغيرة، وأخبرني أن صاحب المحل سيطلبني كلما احتاج إليّ، وهو أمر لم يحدث، إذ قام بعد فترة قصيرة بتغيير نشاط المحل إلى مفروشات بالتشارك مع أحد أقربائه. خرجت من هذه التجربة بخبرة جديدة، واكتشفت عوالم أخرى.

في هذه الفترة تقريباً، بدأت ترتسم في ذهني ملامح الفنان الكبير “هاشم علي عبدالله الدويلة”، الذي كان يسكن في منتصف عقبة شارع 26، قبل تقاطع جولة “فندق الجند”، إذ كان كثيراً ما يمر بمحاذاة المحل في خروجه من البيت باتجاه السوق، أو في عودته قبيل الظهر، بـ”قاته” وبعض الجرائد التي يشتريها من مكتبة “الوعي الثوري”. كانت ملامحه الآسيوية ووداعته وعلاقته البسيطة والمرحة بالناس تعظم عندي قيمته كإنسان قبل أن أعرف من المرحوم عبده محمد مقبل صاحب المكتبة أنه فنان كبير وأشار إلى صور لبعض رسوماته كانت تعرضها المكتبة.

لم أزل أتذكر ما كان يسمى بحوش عمارات الغنامي، التي كانت نابتة في منتصف شارع 26، بمربع واحد، محاطة بأربعة شوارع أهمها الشارع الرئيس الذي تطلّ عليه من الجانب الشرقي والجنوبي، وهذه العمارات بنيت في وقت مبكر من الستينيات، وكانت في إحدى ردهاتها تعرض أفلام سينمائية كما كان يقال لنا، قبل أن تفتتح السينمات الرئيسة في المدينة، واحدة منها كانت في المحيط وهي “سينما بلقيس”.

في هذه المباني كانت تسكن بعض الأسر التي نزحت من مدينة عدن بعد حركة التأميم مطلع السبعينيات، وما كان يميز هذه المباني “المحوَّشة” أنها كانت تنفتح على مخرجين: شمالي وجنوبي، يتيحان لأطفال السكان، بهيئاتهم النظيفة، اللعب في الردهات الإسمنتية للمدخلين، دون الحاجة إلى الخروج إلى الشوارع المحيطة. كان الفضول يقودنا في بعض المرات إلى الدخول للباحة الأمامية لتتبع الروائح الزكية المنبعثة من الشقق، التي كانت خليطاً من البخور العطري القوي ومُنكِّهات الحلويات، والأهم مشاهدة الأطفال والفتيات بملامحهم وهيئاتهم النظيفة وهم يلعبون بدراجاتهم وكراتهم التي تشبههم في نظافتها.

كان في مقابل المباني مبنى من دور واحد على هيئة دكاكين تنفتح إلى الشارع الفرعي إلى الجهة الجنوبية للعمارات، وكانت عبارة عن معهد لتعليم الطباعة على الآلة الكاتبة واللغة والسكرتارية، وكانت تدل عليه لوحة صغيرة من الحديد موضوعة بشكل جانبي يمكن للصاعد والنازل من الشارع قراءتها من أحد الجانبين “المعهد العلمي لتعليم الكتابة على الآلة الكاتبة”، ما كان يشدّني للمكان هي تلك الطقطقات المنبعثة من آلات الطباعة التي يتعلم عليها شبّان وشابات، يتوافدون إلى المكان عصراً وهم بكامل أناقتهم. كان الاسم يولِّد لديّ إحساساً جميلاً، ومغايراً لذات الاسم الذي يحمله المعهد الديني في منطقة المُصلى “مدرسة التحفيظ” والذي انتظمت فيه لعامين.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English