من مراعٍ خطرة إلى أسواق نفطية

العسل اليمني يجتاز القفار والصحاري نحو الخليج
محمد راجح
June 16, 2020

من مراعٍ خطرة إلى أسواق نفطية

العسل اليمني يجتاز القفار والصحاري نحو الخليج
محمد راجح
June 16, 2020

على امتداد الخط البحري ما بين المكلا وشبوة، تتزاحم طوائف النحل على المساحة البرية المتنوعة بين صحراء وتلال مقفرة. وبالرغم من تعرضها للقصف وقسوة الحياة الموحشة في تلك القفار، إلا أن كثيراً منها استمر في جني العسل من تلك المراعي المحفوفة بالمخاطر، ما جعل هذا النوع من العسل يتدفق على المستوى المحلي والخارجي.

  قدرت بيانات صادرة عن وزارة الزراعة والري في العام 2019، أطلعت عليها "خيوط"، إنتاجية اليمن من العسل بنحو (2.400) طن، بزيادة طفيفة عن إنتاجية العام 2018، المقدرة بحوالي (2.380) طن، مع تراجع نسبي مقارنة بفترة ما قبل الحرب، والتي بلغت ثلاثة آلاف طن. غير أن البيانات الرسمية لا تحصي الكمية الحقيقية المنتجة من العسل في اليمن والتي تقدر بضعف الرقم الرسمي.

الحديث عن العسل اليمني الذي أصبح بمثابة "علامة تجارية" لا يقل شأناً عن البن في التعريف باليمن خارجياً. يقود هذا الحديث إلى علامة أخرى فارقة تتمثل بما حبى به هذا البلد من خيرات طبيعية نتيجة تنوع الطقس وتباين المناخ، حيث يعتبر شجر السدر إرثاً تاريخياً لهذه الطبيعة، ومنها تشكلت مراعي النحل التي تتغذى على السدر وأشجار أخرى مثل "السُمر" ومنهما ذاع صيت أشهر أنواع العسل اليمني.

فرض العسل نفسه في طليعة المنتجات الأكثر طلباً في خضم أزمة انتشار كورونا، ليس في اليمن فقط، بل في دول الخليج ودول أخرى في شرق آسيا ممن يصلها العسل اليمني. غير أن ذلك أدّى إلى تضاعف أسعاره محلياً بصورة تفوق قدرات الناس، مع تجاوز سعر الكيلوجرام من بعض الأنواع، خصوصاً السدر "العُصيمي" والشبواني والدوعني، إلى نحو 50 ألف ريال، وبالتوازي مع شكاوى من الغش، والتشكيك بجودة بعض الأصناف.

على الرغم من الصعوبات والتعقيدات التي فرضتها الحرب على تنقل المناحل وصناعة العسل في اليمن وإغلاق منافذ التصدير خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى للحرب، إلا أن ذلك لم يمنع وصول العسل اليمني إلى الأسواق.

الأسواق الخليجية

يعد العسل في طليعة المنتجات اليمنية المطلوبة في أغلب دول الخليج التي استقبلت أسواقها ما يقارب 40 ألف طن من العسل عام 2019، بتكلفة تزيد على 50 مليون دولار (حسب سعر الدولار الرسمي للعام 2019: 440 ريال للدولار الواحد)، وذلك وفق تقديرات البيانات الصادرة عن اتحاد النحّالين اليمنيين ومصدّري العسل، بالتعاون مع دائرة الإنتاج والتسويق الزراعي الحكومية. مع ذلك، فالكميات التي تُصدر بعيداً عن الأطر الرسمية تفوق ذلك بكثير.

وتشير البيانات التي اطّلعت عليها "خيوط"، إلى أن عائدات اليمن من تصدير العسل كانت تصل إلى 15 مليار ريال في 2014، والتي كانت تعادل حوالي 65 مليون دولار في ذلك الوقت، بسعر 225 ريال للدولار الواحد، مع توقعات تشير إلى ارتفاعها إلى الضعف نتيجة انخفاض سعر الريال اليمني مقابل الدولار الأمريكي، والذي فقد ما يقرب من 150% من قيمته منذ بداية الحرب في اليمن، التي دخلت عامها السادس.

وتأتي محافظة حضرموت جنوب شرق اليمن، على رأس قائمة المحافظات اليمنية في إنتاج العسل بكمية قدرت بحوالي 821 ألف كيلوجرام، تليها شبوة 321 ألف، ثم الحديدة (غرباً) بنحو 258 ألف كيلو جرام.

وعلى الرغم من الصعوبات والتعقيدات التي فرضتها الحرب على تنقل المناحل وصناعة العسل في اليمن وإغلاق منافذ التصدير الجوية والبحرية، خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى للحرب، إلا أن ذلك لم يمنع العسل اليمني من الوصول إلى الأسواق، بكميات توازي ما كان يتم تصديره قبل الحرب، واستعادة مكانته  الواسعة في الأسواق الخليجية، وذلك وفق حديث كبير مصدري العسل في اليمن منير الذبحاني.

ويضيف الذبحاني لـ"خيوط"، أن العسل اليمني استطاع أيضاً الوصول إلى أسواق جديدة في شرق آسيا وتركيا وغيرها لكن بكميات بسيطة بسبب الوضع الراهن الذي تمر به اليمن.

ويصل عدد الشركات والمنظمات العاملة في صناعة وتصدير العسل إلى أكثر من 20 شركة ومنظمة، إذ وصلت كمية تصدير الشركات الكبرى في عام 2019، إلى نحو 4 آلاف طن للشركة الواحدة وفق تأكيدات الذبحاني، بتكلفة تقدر بـ10 مليون ريال يمني.

وكان منفذ "شحن" على حدود سلطنة عمان، متنفساً للعسل اليمني للوصول إلى الأسواق الخارجية إضافة إلى منفذ الوديعة في منطقة العبر بحضرموت (شرقاً) على الحدود مع السعودية.

وتشهد أسعار العسل ارتفاعاً كبيراً في الأسواق المحلية، إذ ارتفع سعر الكيلو من 30 ألف ريال إلى 50 ألف ريال، للأنواع المتوسطة بينما تجاوزت أسعار بعض أصناف "السدر" ذائع الصيت الـ 100 ألف ريال للكيلوجرام الواحد.

ويعد العسل من أهم المنتجات اليمنية ذائعة الصيت، بسبب جودته العالية، إلا أن إهمال هذه الثروة الواعدة يضيع فرص استثماره وتطوير صناعته وزيادة إنتاجيته.

 يقول النحال عبدالباقي الشماري إن الحرب أثّرت كثيراً على حركة المناحل، وخلقت صعوبات عديدة في التنقل في المراعي الخاصة بالنحل، إضافة إلى الصعوبات المتعلقة بإيجاد اللقاحات المناسبة لمكافحة الآفات.  

ويعتبر الشماري في حديثه مع "خيوط" أن العسل يعدّ بمثابة منتج سيادي في اليمن مثل البن، ويحتاج إلى المزيد من الاهتمام بإنتاجيته وصناعته، إذ تعد اليمن، كما يرى، بيئة خصبة ومناسبة لتربية النحل بسبب كثرة المراعي وتنوع التضاريس.

 ويحتاج العسل اليمني ليحافظ على مكانته في الأسواق الخليجية وفتح أسواق جديدة في أوروبا وغيرها، إلى اهتمام حكومي بالتنسيق مع القطاع الخاص، حسبما يرى الخبير الزراعي محمد حسن، الذي يرى أيضاً أن وضع خطط مناسبة للارتقاء بهذه الصناعة، يبدأ من إيجاد الوسائل المناسبة لتغذية النحل بما يتوافق مع المعايير الدولية.

ويرى حسن في حديث لـ"خيوط" أن العسل اليمني يعد من أهم المنتجات التي تتوفر فيها مميزات تسويقية عالية، لافتاً إلى أن هناك تزايد كبير للاستثمار في العسل وفي تربية النحل، لكنها في الغالب استثمارات عشوائية.

مهمة شاقة

يخوض النحّالون اليمنيون غمار مهمة شاقة محفوفة بالمخاطر في إيجاد مراعٍ خاصة بالنحل، ومن ثم ضرب خيامهم لأيام طويلة في مناطق غير صالحة للحياة البشرية، كما هو الوضع في أودية حضرموت وشبوة، في المساحة الجغرافية الفاصلة بينهما. أما المناطق الممتدة من شقرة حتى زنجبار في أبين (جنوب)، فيواجه النحّالون مخاطر اشتباكات عسكرية متقطعة بين القوات التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، والمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي أعلن مؤخراً "الإدارة الذاتية" للمحافظات الجنوبية.

 يتحدث في هذا الخصوص أحد النحّالين في هذه المناطق المقفرة، (فضل عدم ذكر اسمه)، عن رحلتهم الشاقة في رعي النحل فيها. وفي حين قال إنهم تكيفوا مع صعوبة العيش في المنطقة، لكنهم وجدوا صعوبة أخرى في التكيف مع المخاطر الأمنية والعسكرية التي لطالما رافقتهم كثيراً في أودية حضرموت وشبوة (جنوب شرق) بشكل خاص، وتكبّدوا حينها خسائر فادحة، ليس في الأرواح والممتلكات، بل على المستوى النفسي الذي رافقهم في رحلاتهم هذه المحفوفة بالمعاناة والمخاطر.

ويضيف لـ"خيوط" أنه رغم استقراره منذ عامين في منطقة شقرة الساحلية شرق أبين، إلا أنه بدأ يشعر باقتراب الخطر بسبب التوترات الأخيرة منذ منتصف مايو/ أيار 2020، الأمر الذي أجبره وآخرين على النزوح إلى مناطق أخرى مثل المسيمير في لحج (جنوب)، بينما اتجه البعض الآخر إلى أودية سيئون بحضرموت وحريب في مأرب (شمال شرق).

وألحقت العمليات القتالية في اليمن بـ"صناعة العسل" خسائر فادحة، إذ لم يتوقف الأمر عند الخسائر في الأرواح والممتلكات، بل ضيّقت الحرب الخناق كثيراً على مراعي النحل، التي إما داهمتها المعارك كما حدث في الساحل الغربي، أو كانت عرضة للقصف كما حدث خلال فترات الحرب في حجة وصعدة (شمال).

تعتبر أودية شحوح بحضرموت، ويشبوم في شبوة، وحريب في مأرب وشقرة في أبين، من أكثر الأودية كثافة بأشجار السدر حيث يقدر عدد الأشجار في كل وادٍ بحوالي 5 آلاف شجرة، وتعد منطقة "عين" بمحافظة شبوة من أكثر المناطق ازدحاماً بطوائف النحل.

الشجرة التي تُشكل ملامح الإنسان اليمني

تعتبر أودية شحوح بحضرموت، ويشبوم في شبوة، وحريب في مأرب وشقرة في أبين، من أكثر الأودية كثافة بأشجار السدر حيث يقدر عدد الأشجار في كل وادٍ بحوالي 5 آلاف شجرة. ويأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد الأشجار وادي الرقعي في محافظة حجة، ووادي تيم في محافظة لحج (4000) شجرة. بينما توجد في وادي مذاب بمحافظة صعدة أقل عدد من أشجار السدر (1500 شجرة) وهي كبيرة الحجم مقارنة بحجمها في الأودية والمناطق الأخرى.

وتوصلت دراسة صادرة عن مركز نحل العسل بجامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا، أعدّها رئيس المركز محمد سعيد خنبش، أُطلعت عليها "خيوط"، إلى أن وادي الرقعي بمحافظة حجة يعتبر من أكثر المناطق ازدحاماً بطوائف النحل (12000 طائفة)، يليه وادي حريب في مأرب، وعين في شبوة، ويوجد في كل منهما 10 آلاف طائفة .أما أقل المناطق عدداً في طوائف النحل فهو وادي مذاب في محافظة صعدة (2000) طائفة.

وتعد منطقة "عين" بمحافظة شبوة من أكثر المناطق ازدحاماً بطوائف النحل، مقارنة بأشجار السدر (3.3 طائفة/ شجرة)، يليها في ذلك وادي الرقعي (محافظة حجة)، ثم وادي تيم (محافظة لحج) حيث كان عدد الطوائف 3.0 و2.5 طائفة/ شجرة على الترتيب.

وتعتبر منطقة الأصابح في محافظة تعز (جنوب غرب) أقل المناطق ازدحاماً بطوائف النحل مقارنة بأشجار السدر (0.9 طائفة/ شجرة). ويلاحظ أن إنتاج طائفة النحل من العسل في هذه المنطقة مرتفع (3.8 كجم/ طائفة) مقارنة ببقية الطوائف الموجودة في المناطق الأخرى. وجاءت طوائف (مذاب) صعدة ثم (كيرعان) حضرموت في المرتبة الثانية والثالثة، حيث بلغ متوسط إنتاج الطائفة الواحدة من العسل 2.7 كجم- 2.3 كجم على الترتيب .في حين أن أقل الطوائف إنتاجاً للعسل كانت في منطقة عين بشبوة (1.1 كجم لكل طائفة)، وكان متوسط إنتاج الطائفة الواحدة من العسل متساوياً (1.6 كجم) في وادي تيم في لحج، والرقعي في حجة، وكذلك في وادي شحوح بحضرموت وحريب في مأرب، 2 كيلوجرام.

أما متوسط إنتاج طوائف النحل في وادي يشبوم "شبوة" كان 1.8 كجم، ويعود ذلك إلى ازدحام طوائف النحل في هذه المنطقة، وعدم تناسب أشجار السدر مع الأعداد الكبيرة من طوائف النحل.

وحسب نتائج الدراسة فإن هناك علاقة تميل إلى الانخفاض بين الحمولة الرعوية لطوائف النحل (نسبة عدد طوائف النحل إلى زيادة الحمولة الرعوية لطوائف النحل في المنطقة)، وكمية إنتاج الطوائف من العسل، إذ أن زيادة الحمولة الرعوية لطوائف النحل في المنطقة يتبعه نقصان في كمية إنتاج الطائفة من العسل.

وإلى جانب كونها المصدر الأفضل للعسل اليمني واستخدامها كمصدّات رياح، لأشجار السدر عدة استخدامات اقتصادية مثل إنتاج الأخشاب والأوراق والثمار.

وتبين معادلة خط الانحدار أن إنتاج طائفة النحل من العسل ينقص بمقدار 0.8 كجم عند زيادة الحمولة الرعوية لطوائف النحل بمعدل طائفة واحدة لكل شجرة، أي أن إنتاج الطوائف من العسل ينخفض بمقدار 41.3% بزيادة عدد طوائف النحل بمعدل طائفة واحدة/ لكل شجرة.

كما أن أعداد أشجار السدر في معظم الأودية والمناطق لا تتناسب مع أعداد طوائف النحل، ما أدى إلى انخفاض إنتاجية الطائفة الواحدة من العسل. ويعود عدم التوازن بين أعداد أشجار السدر وأعداد طوائف النحل إلى الزيادة السنوية الكبيرة في أعداد طوائف النحل، وتناقص الأشجار بسبب عدم إجراء عمليات الزراعة والتنمية للأشجار، بالإضافة إلى عمليات التدهور المستمرة.

وخلصت الدراسة إلى أنه من أجل إحياء زراعة أشجار السدر والحفاظ عليها، يتوجب مساعدة أصحاب مزارع أشجار السدر كبيرة المساحة في إصلاح قنوات الريّ بالسيول وحمايتها من الانجراف، وتشجيع إقامة الجمعيات المتخصصة أو ذات العلاقة بحماية المراعي بشكل عام وأشجار السدر على وجه الخصوص، وتجميع وتوثيق المشاريع والدراسات التي أجريت على هذا النوع من الأشجار، وإجراء المزيد من الدراسات لحصر الأضرار التي تتعرض لها، وتوعية المزارعين بأهمية الأشجار كمصدات رياح.

•••
محمد راجح

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English