من المشاقر إلى الكلاشنكوف

في تحولات زينة اليمني
أحمد ناجي
November 28, 2020

من المشاقر إلى الكلاشنكوف

في تحولات زينة اليمني
أحمد ناجي
November 28, 2020

 لقد توقف سالم عن بيع المشاقر والحبق، وبات يقضي وقته في البيت. قال لي ذات حديث، إن الناس عزفت عن شراء الرياحين، وأنه قضى أيامًا يرى المشاقر تذبل أمامه دون أن يبيع شيئًا. كان سالم صديق طريقي إلى المدرسة، ألتقيه في حي الإذاعة في معظم صباحات صنعاء. يزهر كلما حلت مواسم الأعراس، فهي مواسمه التجارية. إذ يقصده العرسان لشراء مشاقره الملونة التي ترافق أيام أفراحهم. لكن مهنة سالم ذبلت مع مشاقره قبل أعوام. 

    لا سببية واضحة لعزوف الناس عن مواصلة التزين بالرياحين، كل ما أتذكره أن سالم أخبرني أن "الجيل الجديد ليس مهتمًا"، اكتفى بهذا التفسير كسبب لكساد بضاعته ومضى. لكن المتفحص لزينة العرسان في اليمن يكتشف بعضًا من ملامح الجزء الآخر لقصة تلاشي المشاقر؛ في بطاقات دعوات الأفراح -مثلًا- تبدلت الورود التي كانت تظهر كرمز للفرحة أو الزينة. وحلت بنادق الكلاشنكوف محلها. حتى السيوف التي كانت موضة العقود الماضية فقدت شعبيتها، صارت فوهات البنادق الأحدث أحد أبرز تجليات التباهي الاجتماعي في يوم الفرحة. 

    قد لا تكون العلاقة السببية متسقة بين تلاشي المشقر وحلول البندقية، لكن رمزية الزينة بالمجمل هي انعكاس مركّز لثقافة وتصورات الأفراد تجاه قضايا عدة، فلا يمكن النظر للرموز الظاهرة في المناسبات المهمة باعتبارها أدوات عبثية، بل هي خلاصة لفلسفة مجتمع يحاول في كثير من الأحيان نقل المجرد إلى التشيِيْء. من زاوية أخرى، تعبر الأدوات عن حالة سيادة السائد ثقافيًّا أو مجتمعيًّا. لذلك نلاحظ بروز رموز جديدة في العرس اليمني، مثل وضع الأعلام الوطنية أو وضع النشيد الوطني كجزء من فقرات العرس، والأخيرة حالة تعبيرية عن حالة الحنين لحالة الهوية الوطنية المستقرة. 

عند دراسة تأثير الصراع على المجتمع، نذهب دائمًا إلى تتبع التأثيرات المباشرة، باعتبارها سهلة الملاحظة، لكن ما يختبئ في قعر المجتمع من آثار للصراع ينبئ بتكون جبل جليدي، لا نرى منه سوى الجزء الأصغر

    في العودة إلى ظاهرة بنادق الزينة، لا يمكن قراءة ذلك بمعزل عن سياق الفضاء العام في اليمن، والذي بات الصراع ينسج ملامحه بدقه. وبموازاة ذلك، تشكل طريقة التفكير ووسائل التعبير الحسية لدى الأفراد، لذلك عند دراسة تأثير الصراع على المجتمع، نذهب دائمًا إلى تتبع التأثيرات المباشرة، باعتبارها سهلة الملاحظة، لكن ما يختبئ في قعر المجتمع من آثار للصراع ينبئ بتكون جبل جليدي، لا نرى منه سوى الجزء الأصغر. البندق المحمول على كتف العريس، لا يعني بالضرورة أن من يحمله محاربًا، لكنه يجعل شخصية المحارب ورمزيته نموذج الاكتمال. ومعه تصير المواقف عبارة عن بانوراما لمعارك صغيرة، حتى جولات الحب، لا يمكن فصلها عن هذه الرمزية، فهي تكثيف مركز لذكورية المحارب من الزاوية الأخرى. 

    هذه الظاهرة تبدو كتجلٍّ واضح من تجليات العنف الرمزي الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي بيير بيرديو بأنه "عنف ناعم غير مرئي، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية، ويوظف أدواته الرمزية، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني"، كان بيرديو ينقد تأثير المؤسسات التربوية وأنماط التشكل فيها، لكن التماثل التربوي يمكن ملاحظته في الفضاء الناظم لحركة المجتمعات أينما كانت. 

    في الكثير من البيئات اليمنية تبدو طبقة المحاربين كطبقة برجوازية مهيمنة على مفاصل السلطة المجتمعية، بشقيها الرسمي وغير الرسمي، ويتصدر العديد من سلوكيات هذه الطبقة كسلوك نموذج للمجتمع، ومعه يصبح الرمز العنيف واحدًا من ملامح زينة اليمني في يوم فرحه.  


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English