البلد المستعصي على الواحدية والمشابهة

ماذا مثّلَ اللون في فلسفة الثقافة اليمنية؟
صهيب الأغبري
January 31, 2023

البلد المستعصي على الواحدية والمشابهة

ماذا مثّلَ اللون في فلسفة الثقافة اليمنية؟
صهيب الأغبري
January 31, 2023

ثقافة اللون الواحد السائد ظلّت بعيدةً عن اليمن لقرون، من لهجة لأغنية إلى زيّ، اختلفت الألوان بكل تدرّجاتها، صعودًا إلى الجبال ونزولًا إلى السهول والصحاري والسواحل، تنوّعت اليمن وتلوّنت بزركشة ثريّة، رسمتْ لوحةَ اليمن الكبير بدهاء وإبداع الاختلاف. برغم ما مرّت على اليمن من محاولات لفرض اللون الواحد، باختلاف هذه الدوافع الشمولية التي فرضها الأمر الواقع عبر العصور، فإنّ دافعًا ناشئًا من الأرض ذاتها، ظلَّ يحفّر ثغرات لنثر ألوان الاختلاف والجمال في ثقافة هذه المحاولات الدخيلة على هذه البلد، مجتمَعًا وأرضًا وهواءً.

اكتسبت اليمن ألونًا من ثقافة شعبها، بل وفي أدبها النابع من أرضها وتاريخها؛ فالبردّونيّ، شاعر اليمن، يؤرّخ لونها الذي ميّزها به اليونان عن بقيّة أرجاء الجزيرة العربية في شعره، فيقول: "يا أمّي اليمن الخضراء وفاتنتي"، وحتى هوائها الذي طالت شفافيته اللون وتخضّب بالألوان في قول شاعرها عبدالله عبدالوهّاب نعمان الفضول: "عدن فيها الهواء ملوّن". وتحيُّنًا لميعاد نضوج شجرتها الأشهر، شجرة البنّ، استعار المؤرخ والشاعر مطهر الإرياني، في وصف خدّ الغواني، اللونَ وحده واكتفى به، ليصف جمالًا أخّاذًا من إنذار نضج الثمر في قوله: "بشاير أوّل ثمر ظهر بلون الخفر على خدود الغواني"، فلغة الطبيعة كما يفهمها الإنسان اليمني هو لونها، فيمثّل اللونُ علاقةَ التفاهم التي تربطه بها. ولِمَا لِلّون إشارةُ اكتمال وفرح كبيرة عند المزارع، فقد عبّر باللون كذلك الشاعر الحميني عبدالرحمن الآنسي، عن تمام الجمال بتبادل الألوان: "فاخضرّ من رملها ثمامه، واصفّر من نخلها العذوق".

فكان بهذا اللون تميّز بارز عبّر من خلاله الإنسان اليمنيّ عن الجمال، وربما طال هذا التعبير خصوصيّة الاختلاف الذي سطع في أرجاء هذا البلد، من الأرض إلى الفِكْر، مكوّنًا لكيان باذخ الخضرة والألوان، ومعبّرًا عن الألفة والتعايش وجمال التمازج اللونيّ الذي ظلّ لقرون مدعاةً للفخر والتغنّي عند الإنسان اليمنيّ. بل إنّ هذا اللون قد سكن أزياءَه، وعبّر عنه في وصف التلاقح بين الطبيعة وزيّ الإنسان اليمنيّ من خلال إبراز انسجام ألوانهما، كما يحيل هذا الشاعر، سعيد الشيباني، بوصفه: "الأخضري من العدين بكّر، مشدّته (عمامته) بيضاء ومشقره أخضر"، ويحتفظ اليمنيّون لما لا يقل عن مئتَي عام، بأبيات تحكي عن هذا الزيّ الملوّن بالطبيعة كما في القصيدة الحمينية الشهيرة التي تردّد إلى اليوم: "يا غصن لابس قميص أخضر مشجّر وطاس"، ويليها بوصفه جمالًا بارزًا من لون العقيق الشهير في اليمن: "يا مبتسم عن عقيق أحمر وأفصاص ماس".

وكما أنّه لم ينعكس هذا الاقتناع والإيمان الواعي أو غير الواعي، عن اللون باللفظ أو بفنّ الكلام فقط، أو بالخيال الذي يحنّ لأشكال الجمال، بل تجاوز بأن قلّد الإنسان اليمنيّ الطبيعة التي تحويه بألوانها. فتطوّرت الأزياء في اليمن بسلاسة مع محيطه، فكانت تتلوّن جيدًا بألفة ناعمة مع طبيعتها التي تحويها، خصوصًا في أزياء النساء، مضيفة فنًّا سخيًّا كانت روّاده نساء يمنيّات يتلوَّنَّ بأقمشة وحليّ ومستحضرات ملوَّنة من الهُرد والحنّاء والخِضاب، كُنَّ يضعنها على أجسادهنّ لإبراز جمالهنّ. كانت هذه العادات الفنيّة مألوفة ومنسجمة مع تمايز المناطق بألوانها المختلفة، التي تُعبّر عنه من خلال ألوانها. 

لم تختبئ هذه الألوان وراء جدران، ولا داخل أكوام الحرام والعيب، بل ظهرت للأعيان بكل استقبال أليف، لم يختلط بالغريزة الأولى معدومة التشذيب بالفِكْر المهذب بالعقل ولا بنزعات التحكّم غير المبرّر. فظلّت تبرز في دورها كتعبير إنساني، ينعكس من الطبيعة إلى الفنّ ومنه إلى استقبال الجمال، وهكذا، فيؤدّي وظيفته الأولى في اكتساب الثقافة نوعًا من التقبُّل للاختلاف من امتزاج كلِّ هذه الألوان في كلِّ نواحيها. 

والحديث عن الأزياء في اليمن، يقودنا إلى سمة ظاهرة ما زالت تعيش إلى اليوم، هي أنّ هذه الأزياء التي تنتعش ألوانًا وحياةً، هي نفسها الألوان التي تنعش وتكسو واجهات مبانيه جنوبًا وشمالًا، فما زالت مبانيه الملوّنة حاضرة إلى اليوم في معظم مدنه التاريخية؛ مؤكدةً اهتمام الإنسان اليمنيّ منذ القدم بإبراز وإغناء روحه الحيّة دائمًا بالألوان، في كلِّ ما حوله من مسكن وملبس ومعاش وكلام. وأن الإغناء اللوني كان نظريته الأكثر اكتمالًا وإقناعًا عنده في التعبير عن الجمال. فخاض اللون ثقافته، وكسا تنوّعها في كل نواحيها.

لم يميّز اللون مناطق اليمن وثقافاتها فقط، بل أبرز اختلافها وتنوّعها، ومثّل اكتمال مشهد هُويتها. وإن تخيُّل فرض لون واحد لها سيكون بمثابة تعتيم لهويتها، وانتزاع لميزة الاختلاف والتنوّع. فقد انغمست هذه الثقافة بتراثها المادّيّ واللامادّيّ بالألوان تعبيرًا، ولغةً، وإبرازًا للجمال. وحصلت على قابلية بإجماع الإنسان اليمنيّ عبر العصور، كونها قد أسّست لمزاجه، ومثّلت فرصه القليلة في التعبير عن ذاته. فنما شعوره الدائم بأهميتها، وبتقبّل الاختلاف من خلال غنائه بالألوان، وارتدائه لها، بل وكلامه بها. وكانت مجتمعةً ترسم تنوّعًا واختلافًا يؤهّل لفرصٍ أكثر للتعايش والانسجام. فلا تعرف هذه الأرض لونًا واحدًا فقط، ولم تتعوَّد ثقافته على لونٍ سائد، بل طالما كانت حشدًا من الألوان، ترسم لوحة اليمن كلّها. 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English