التاريخ اليمني بحاجة إلى قراءة مغايرة

كيف لستِّ مئةِ سجينٍ هزيمة جيش الإمبراطورية؟
د. خالد الاهدل
January 13, 2024

التاريخ اليمني بحاجة إلى قراءة مغايرة

كيف لستِّ مئةِ سجينٍ هزيمة جيش الإمبراطورية؟
د. خالد الاهدل
January 13, 2024
.

القارئ المتمعن للتاريخ اليمني في مراحله المختلفة، يجد الكثير من الحفر والفجوات والندوب التي تشوه وجهه، ومصدرها روايات تاريخية زائفة وقاصرة، تم تناقلها وتداولها قرونًا عدة، باعتبارها حقائق ومسلمات تاريخية لا تقبل الجدل والمناقشة.

هذه الروايات الزائفة والقاصرة التي أصبحت تكتسب شرعيتها بفعل النقل والتواتر سنوات عديدة، ويكرسها كتبة التاريخ والمتطفلون عليه حتى الآن– هذه الروايات تكمن خطورتها في تغييب الكثير من الحقائق التاريخية الهامّة أو تشويهها، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تُجمع المصادر التاريخية على أن سيف بن ذي يزن استطاع أن يحرر اليمن من الاحتلال الحبشي بعد استنجاده بكسرى فارس الذي أمده بثماني مئة سجين بقيادة عسكري عجوز اسمه وهرز، وقد غرق مئتان منهم في الطريق، وتمكن سيف بهؤلاء السجناء وبعد معركة واحدة أن يهزم الأحباش وأن يدخل إلى صنعاء ملكًا متوجًا.

والأسئلة الملحة التي تثيرها هذه الروايات في ذهن القارئ الحصيف: هل يستطيع ست مئة سجين يجهلون مسرح المعركة وتضاريس اليمن –ومنذ المعركة الأولى– أن يهزموا جيش الأحباش المدرب والقوي بأفياله وحرابه، والذي استطاع أن يُخضع القبائل اليمنية سنوات عدة؟ 

أليس في هذا تغييبٌ لدور المقاومة الشعبية اليمنية التي تشكّلت منذ اليوم الأول لدخول المحتل إلى اليمن من القبائل الحميرية بقيادة والد سيف زرعة بن عفير اليزني (وهو أصلًا الذي كلف ابنه الذهابَ إلى فارس لطلب المساعدة)، وظلت هذه المقاومة تناضل طوال فترة الاحتلال وتعد العدة لهذه المعركة الأخيرة التي قادها سيف؟

فالحملة الفارسية لم تكن العامل الحاسم في النصر كما تكرسه هذه الروايات القاصرة، بل كانت عاملًا مساعدًا لا أكثر للجيش الشعبي والمقاومة الوطنية التي كان لها الدور الحاسم في النصر؛ لأنهم كانوا هم أصحاب القضية لا الفرس.

وفي العصر الحديث، ظهرت خلال الثلاثة العقود الماضية، الكثير من السير الذاتية والمذكرات السياسية لسياسيين مخضرمين وشخصيات اجتماعية وغيرهم، بعض هذه المذكرات السياسية كانت موضوعية ومتزنة وخالية من المغالطات وتضخُّم الذات، لكن ما يلفت النظر ظهور مذكرات سياسية لبعض مشايخ القبائل في مجلدات فخمة وطباعة أنيقة، يدعي كل واحد منهم وصلًا بليلى، وأنه كان فارس الثورة السبتمبرية وصمام أمانها ولولاه لفشلت الثورة.

ألا تؤدي هذه المذكرات إلى تزييف الحقائق التاريخية المرتبطة بالثورة السبتمبرية، ومِن ثمّ تخلق وعيًا مشوهًا ومزيفًا لدى الأجيال اليمنية الشابة؟ 

وهل آمن هؤلاء المشايخ أصلًا بالثورة وبحتمية التغيير الذي كان ينشده الشعب اليمني في ذلك الوقت؟ أم كانت الثورة مناسبة للفيد والسطو على قصور أبناء حميد الدين ونهب محتوياتها المنهوبة أصلًا من الشعب؟ ألم تكن الثورة مجرد طريق للسلطة والثراء غير المشروع، وغيرها من المميزات التي لم يستطيعوا تحقيقها في ظل حكم بيت حميد الدين؟ أليس هؤلاء المشايخ هم من قاموا بوأد الثورة وسحل الثوار وتشريدهم والزج بهم في السجون بعد خمس سنوات فقط من عمر الثورة؟

أقسام التاريخ لا شأن لها بالتاريخ، فهذه الأقسام لا تصنع مؤرخين بل تفرخ كادرًا وظيفيًّا همه الأساس الحصول على درجة وظيفية، وبعد تخرجه تنقطع صلته لا بتاريخ اليمن فقط، بل بتاريخ العالم أجمع.

وفيما يتعلق بثورة أكتوبر63، نجد الكثير من الكتابات تختزل أسباب الثورة في المواجهة المسلحة بين الإنجليز والشهيد راجح لبوزة في جبال ردفان، وتُغيّب هذه الكتابات عامل الوعي الثوري الجماهيري الذي تشكّل بفعل الدور الذي مارسته المنظمات السياسية (الجبهة القومية وجبهة التحرير) ونقابات واتحادات العمال، وهو الوعي الذي تجسد في العمل الثوري والكفاح المسلح وحرب الشوارع في عدن؛ الأمر الذي أجبر المحتل على الجلوس على طاولة المفاوضات.

والسؤال الملح: ألا يقتضي هذا الاختزال والتغييب والتشويه لكثير من الحقائق التاريخية الهامة في تاريخنا اليمني، قراءةً أخرى تزيل عن وجهه الحفر وتملأ الفجوات وتضع النقاط على الحروف؟ 

والسؤال الأكثر إلحاحًا: من هم الذين تقع على عاتقهم مسؤولية مراجعة التاريخ اليمني وتقديمه إلى الأجيال الجديدة بصورة نقية ومشرفة؟ بلا شك أنّ هذه المهمة لا يمكن تحقيقها من خلال جهود فردية مبعثرة، وإن كنّا نفتقر –الآن– حتى إلى هذه الجهود الفردية، فضلًا عن الجهود المؤسسية.

فمراكز الدراسات والبحوث اليمنية في كلٍّ من صنعاء وعدن، بدأت بالترنح المالي والإداري منذ العقد الأول من الألفية الثالثة، قبل أن تقفل أبوابها في منتصف العقد الثاني من هذا القرن الذي نعيشه؛ بسبب حالة الحرب والفوضى التي تلف البلاد شمالها والجنوب.

أما المؤسسات الأكاديمية اليمنية، ممثلة في أقسام التاريخ في كليات الآداب والتربية، فأغلبها –إن لم تكن جميعها– لا شأن لها بالتاريخ، فهذه الأقسام لا تصنع مؤرخين بل تفرخ كادرًا وظيفيًّا همه الأساس الحصول على درجة وظيفية، وبعد تخرجه تنقطع صلته لا بتاريخ اليمن فقط بل بتاريخ العالم أجمع، ويكفي أن أستشهد بقسم واحد، هو قسم التاريخ في كلية تربية زبيد جامعة الحديدة، الذي فتح أبوابه عند مطلع الألفية الثالثة وأغلقها قبل خمسة أعوام من الآن، وتخرج منه أكثر من ألف وخمس مئة طالب وطالبة يفترض أن يكونوا -أو نصفهم على الأقل- مشاريع مؤرخين ومؤرخات.

فأين ذهبت هذه المخرجات؟ نجد 90% منهم في بيوتهم يلوكون البطالة والإحباط، وانقطعت صلتهم حتى بالمعلومات التي حصلوها في سنوات الدراسة، و10% حالفهم الحظ وحصلوا على وظيفة مدرس وراحوا يستظهرون مقررات مادة التاريخ مساء ويقذفون بها وجوه طلابهم صباحًا بحركة آلية وظيفية تكرّه الطلاب في هذه المادة.

فهل نعيش في هذه الحقبة الزمنية أزمة وجود مؤرخين حقيقيين؟

•••
د. خالد الاهدل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English