حضارة قامت على الزراعة والتجارة والعمارة

لماذا شح تاريخ اليمن القديم من الإسهام الفكريّ والفلسفيّ؟
سمية الصريمي
May 12, 2024

حضارة قامت على الزراعة والتجارة والعمارة

لماذا شح تاريخ اليمن القديم من الإسهام الفكريّ والفلسفيّ؟
سمية الصريمي
May 12, 2024
الصورة لـ: حمزة القديمي - خيوط

عُرِف اليمنُ بأنّهُ أحد مواطن الأقوامِ الساميةِ ومنبعٌ لحضاراتٍ عدة، سباقة لِمَا يُعرَفُ بثلاثيةِ الزراعةِ والتجارةِ والعمران، حيث ازدهرت عمارتُهم وشيدوا المعابدَ وبنوا السدودَ وصيّروا من الرمالِ والجبالِ أراضيَ ومدرجاتٍ خضراء.

لكن حين يتم فحص البُعد الفكريّ والفلسفي للحضارةِ اليمنيةِ في الأدبِ والفلسفةِ والدِّينِ وعمومِ الفكر، تكادُ تجدهُ متواضعًا إلى حدِّ القولِ الشائعِ إنّ الحضارةَ اليمنيةَ لم تولِ الجانبَ الفكريَّ اهتمامًا، وانكفأت على ميادينِ التجارة والزراعةِ والعمارة. وهو ما أشار إليه المؤرخُ والشاعرُ عبدالله البردّوني في كتابهِ (اليمن الجمهوري): "تفرّدت اليمنُ بحضارةٍ عمرانيةٍ وزراعيةٍ لم يكن وراءها نظرٌ فكريّ، فلم يَثبُتْ في تاريخِ العهودِ المعينيةِ والسبئيةِ والحميريةِ، آثارٌ فكرية شبيهة بالحضارةِ اليونانيةِ والفرعونيةِ والبابليةِ والكنعانية، وإنما كانت رغدًا زراعيًّا وفنًّا معماريًّا".

أنظمةٌ قانونية وحُكمٌ متقدم

يقول عارف المخلافي، أستاذُ فلسفةِ التاريخ بجامعة صنعاء، لـ"خيوط": "صحيحٌ أنّ الحضارةَ اليمنيةَ تخلفت عن حضاراتِ اليونانِ والشرقِ القديم، كمِصر والعراق وسورية في الأدبِ والأسطورة، لكن حينَ ننظرُ لتأخرِ الكتابةِ في اليمنِ القديمِ، سنجدُ أنّ الناسَ اهتموا بالحياةِ العامةِ والعسكريةِ والدينية؛ لأنهم كانوا يحفظونَ ويتناقلونَ القصصَ والأساطيرَ والشعر مشافهةً في أسمارِهم وأعيادِهم، ولم يهتموا بتدوينها".

ويضيف المخلافي: "لا يقتصرُ الفكر على القصصِ والأساطير والأدب، الذي امتازت به الحضارات الإغريقية والفرعونية وحضارات الشرق القديم، بل يشمل مجملُ ما خلّفهُ الإنسانُ عمومًا، والإنسان اليمنيُّ خلّف من الإبداع الكثير في مختلفِ المجالات، كمعارفه المتعلقة بالفلك والتحنيط والأعشاب الطبية، إلى جانب معارفه المرتبطة بأنظمة الحكم وقوانينها". 

ويؤيدهُ عبدالله أبو الغيث، أستاذُ التاريخِ القديم بجامعةِ صنعاء، الذي تحدث لـ"خيوط" قائلًا: "كان للحضارة اليمنية إنتاجٌ فكريٌّ زاخرٌ، حيث عرفَت الفكرَ الديني الراقي الذي بالإمكان ملاحظته في المعابد التي أقامها اليمني القديم، والتي تميزت بالفخامةِ والرموز ذات الدلالات الفكرية مثل معبد أوام بمأرب، وكانت المعابدُ الرئيسيةُ تقامُ خارجَ أسوارِ المدن؛ لاستيعابِ الزوارِ في مواسم الحَجّ، الذي اتضحَ من النقوشِ أنه أحد الشعائرِ الدينية اليمنيةِ القديمة، إلى جانبِ الأنظمةِ القانونيةِ وأنظمةِ حكمٍ متقدمة قياسًا على غيرِها من الحضارات".

هذا الإرثُ الحضاري والامتدادُ الإمبراطوري، يراهُ الباحثُ محمد المقبلي، في تصريح لـ"خيوط"، أنه لم يكن ليتم إلا بأساسٍ فكريٍّ ونظري، وأنّ البردّونيّ في زمنِ كتابةِ اليمنِ الجمهوري، فاتَهُ الإشارةَ إلى افتقادِ اليمنِ للبحثِ في التراثِ اللامادي.

ما يشير إلى إسهام متنوع

ولعلَّ اكتشافَ قصيدةِ "ترنيمة الشمس" في سبعينياتِ القرنِ الماضي، في وادي «قانية» بناحية السوادية- محافظة البيضاء (وسطَ اليمن)، بواسطة العالِم يوسف محمد عبدالله، وهي قصيدةٌ حميريةٌ منحوتةٌ على الصخر، أفصحت عن وجودِ أدبٍ يمنيٍّ قديم، كما يضيف المقبلي: "مخطوطات البلد وإرثه وكتب مهمة مثل سرائر الحكمة لأبي الحسن الهمداني وأجزاء من الإكليل تم إخفاؤها، وبالرغم من ذلك، تم العثور على نقوشٍ تباعًا وبشكل تدريجي، دلّت جميعها إلى وجود أساسٍ فكريٍّ للحضارة اليمنية"، وينوه المقبلي إلى نقشٍ قتبانيّ يفيد بأنه إذا تزوجَت القتبانيةُ من غيرِ القتبانيّ فلأولادِها ولزوجِها ما للقتبانيين، وهو أولُ قانونٍ للمساواة بين الجنسين في الأرض؛ بحسب المقبلي.

الحضارة اليمنية لم تنَل نصيبًا وافرًا من البحثِ والتنقيبِ بإجماع مختصي التاريخ لإبراز الإرث الفكري، وربما الفلسفي الذي قد يُعثرُ عليه في المخطوطاتِ والنقوشِ المطمورةِ تحت رمال الصحراء.

في سياق متصل، أشار المخلافي إلى أنّ اليمنيين القدماء دوّنوا القوانينَ لتنظيمِ حياتِهم، إذ كنّا نعرفُ قانونًا واحدًا في مملكةِ قتبان، لكن تنقيباتِ البعثةِ الأميركية لدراسةِ الإنسانِ بمعبدِ أوام في مأرب، كشفت عن قوانينَ متطورة، وتراتيلَ دينية بشكلِ قصائدَ غير (ترنيمةِ الشمس)، وأيضًا حروف بخطِ المسندِ في (ريبون) بحضرموت، و(يكلا) بمأرب، تدلُّ على معرفةِ الكتابةِ منذُ القرنِ الثالث عشر قبلَ الميلاد، وهذا تاريخٌ يسبقُ ما هو معلومٌ بحوالي خمسةِ قرونٍ؛ أي إنّ تاريخَ اليمنِ لا يزالُ في باطنِ الأرض، حدّ تعبير المخلافي. 

ويضيف المخلافي: "لقد أقام اليمني القديم أكبر معمل طبيعي لإجراء سلسلة تجارب من أجل الوصول إلى هندسة دقيقة وبناء عظيم كسد مأرب، فقد كشفت تنقيبات البعثة الألمانية للآثار عن سبعة سدود صغيرة سبقت بناء سد مأرب، وأكّدت البعثة أنها لم تكن عبثية، بل كانت تجارب حقيقية لقياس مدى تقبل الحواجز والمصدات المائية لتدفق السيول العاتية".

سَبْق علمي وإرث مطمور

الجدير بالذكر أنّ ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، كانوا قد تداولوا، قبل أشهر، تسجيلًا مرئيًّا، للباحث في التاريخ الإسلامي، عبدالرحمن الخالدي، يقول فيه: "وقع في أيدينا أنا والأستاذ محمد الغولي- محافظ المتحف في القسم الإسلامي بالمجلس الوطني، مخطوطٌ كان الإجازة فيه سنة ٤٦٥ هجرية، كتب في اليمن بصنعاء، نص على: "إذا وقع الجدري بأرضنا كان العجائز يأتون بحصان، يربطونه ثم يزلقون في وريده شيئًا من بذور الجدري ثم يريحونه أربعين يومًا ثم يمصلون دمه ويتركون الدم حتى يمصل ثم يزرقون به الأطفال، فلا يصابون بالجدري"، ما يعني أنّ الحضارة اليمنية كانت سباقة أيضًا في عمل اللقاحات. 

لعلَّ قلّة الأبحاثِ الاستكشافية، وأحيانًا عدم دقةِ نتائجِها، دفعت الكاتبَ زيد بن عنان في كتابِه (تاريخ اليمن القديم)، إلى رصدِ البعثاتِ والوصولِ إلى نتائجَ لم تكن مثمرةً في مُعظمِها، إذ يقولُ عنان في كتابه: "الآثارُ والنقوشُ التي عثرَ عليها المستشرقون في اليمن ليست كافيةً بحيث يُطمَأنُّ إليها؛ لأنّها ليست كما جرى في مصر وغيرها بإشرافِ هيئاتٍ فنيةٍ، وإنّما هي أعمالٌ فرديةٌ مبعثرة هنا وهناك".

أما الباحث في علمِ تاريخِ الأديانِ والحضارات، خزعل الماجدي، فيصفُ الحضارةَ اليمنيةَ عبر حديثهِ على قناة فرانس 24، بأنّها عانت من إهمالٍ شديدٍ من مؤرخي الحضارات، إذ يدغمونها دغمًا، فيما يسمى بما قبل الإسلام، قائلًا: "الحقيقة هي ليست هكذا، فهي حضارةٌ مميزة جدًّا، ولها كلّ عناصرِ الحضارة بشكلٍ مكتنز تدعمها الآثار وكتابات المسند والزبور، وفي الحقيقة هي حضارة كبيرة، لكن للأسف الشديد ضاعت في تسلسل الحضارات عبر مؤلفي الحضارات، خصوصًا الغربيين.

إذن، فيما يبدو جليًّا أنّ الحضارةَ اليمنيةَ لم تنَل نصيبًا وافرًا من البحثِ والتنقيبِ، بإجماع مختصي التاريخ لإبراز الإرث الفكريّ، وربما الفلسفي الذي قد يُعثرُ عليه في المخطوطاتِ والنقوشِ المطمورةِ تحت رمال الصحراء. 

•••
سمية الصريمي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English