التخييل والابتكار عند الفنّان ياسين غالب

تجربة تشكيلية قامت على إحساسٍ جماليّ بالأشياء
د. آمنة النصيري
September 16, 2023

التخييل والابتكار عند الفنّان ياسين غالب

تجربة تشكيلية قامت على إحساسٍ جماليّ بالأشياء
د. آمنة النصيري
September 16, 2023
.

مثّلت تجربة الفنّان التشكيلي والمهندس المعماري الراحل (ياسين غالب) حالةً فنية شديدة الخصوصية، فعلى الرغم من عدم تمكّنه من الحصول على دراسة أكاديمية للفن، حيث اتجه إلى التخصص في مجال العمارة, فإن أعماله أهّلته للاستمرار كفنان محترف.

من خلال بحث ذاتي، اجتاز الرسّام خطوات واسعة خلال سنوات قليلة، وركّز بشكل خاص على البحث في مجال التقنيات، محاولًا التوصل إلى ابتكار تقنية تجمع عدة خامات ومواد لونية تسهل عليه كفنان صياغة موضوعه بحرية أكبر, فصار يستخدم خليطًا من الألوان المائية, والأحبار الملونة, وألوان الزجاج, والصمغ, داخل العمل الواحد.

كما امتلك الفنّان بعض الخبرة في مجال تقنيات (الجرافيك) التي اكتسبها من زملائه المتخصصين، ومن حضوره ورش العمل التشكيلية؛ لذا فقد أنتج عددًا من الأعمال المطبوعة وأعمال الحفر المختلفة، غير أنّه مع ذلك بقيَ أكثر ميلًا لاستخدام تقنياته المختلطة، ربما لأنه قام بتوليفها من مواد محلية تيسّر له الحصول عليها وبتكلفة غير مرتفعة، كما أنّ هناك تلقائية واضحة في توليف تلك المواد، هذه التلقائية تنسجم إلى حدٍّ كبير مع أسلوب الفنان في التعبير القائم على تركيب الموضوعات في عفوية وبساطة بالغتين؛ فقد تعامل مع العمل الفني الذي ينتجه من خلال خبرة متنوعة اكتسبها بجهده الذاتي، كما أوضحنا، ولم تخضع لقوننة مدرسية، أو لأي قالب أكاديمي أو مذهبي بعينه؛ نجده يختار من أشكال التعبير ما يروق له، ويعتمد في تشكيل اللوحة على موهبته وإحساسه الجمالي بالأشياء وبالعالم، وقد تجلّى ذلك واضحًا في العديد من أعماله الفنية، بَدءًا بتلك الوجوه التي أكثرَ من رسمها في بداية التسعينيات، والتي كانت عبارة عن أشكال إنسانية ذات تفصيلات غريبة ومشوهة أحيانًا، إلا أنّ هذه التشوهات ناتجة عن تحويرات ومبالغات. 

بين التزيين والحروفية

في تركيب الملامح كان يمنحها جاذبيتها وخصوصيتها؛ فالعيون المنحرفة والخطوط الذائبة المتداخلة, التي تضيع معها حدود الملامح, خلقت حالات وجدانية متباينة ومتنوعة, وكان بالإمكان أن يطور تجربته ويعمّقها بهذا الاتجاه, حتى يمتلك تجربة فريدة في تصوير الوجه البشري، والتعبير عن العالم من خلاله، كالذي نجده لدى فنّان عربي كبير، مثل (مروان قصاب باشي)، إلا أن (ياسين) قرر أن يمارس اكتشافه ويعطي لوحته طابعًا متنوعًا بسيطًا يحرص فيه على تأكيد القيم الجمالية بعيدًا عن تعقيدات المحتوى؛ حتى إنه في كثير من الأعمال اللاحقة، أصر على أن يجعل من التحليل الحروفي، والزخرفي، إلى جانب الموتيف الشعبي، منطلقًا لصياغته التشكيلية.

اعتمدت أعماله على تكييف الخامات وفق تصورات مدهشة، قام فيها بتطويع القطع لبلورة أشكال ذات بناءات متماسكة وموحية، لكنها تخضع لإنشاءات تجريدية، وهو ما أكسبها جماليتها.

واهتم بأن يشكّل ويعيد صورة الحرف خارج إطار وظيفته؛ بل إنه -أي الحرف- أصبح مفردة جمالية، تدخل في بناء العمل، وهذه الصياغة تتسق كثيرًا مع المفاهيم الجرافيكية المعاصرة، وما يسمى مجازًا بـ(الصياغة العربية للوحة)، التي يحاول الفنّانون من خلالها التوصيل إلى فهم مرتبط بالموروث البصري والشفهي للإنسان العربي، وإن كان (ياسين غالب) في معالجته هذه قد ظلّ قريبًا من الطابع التزييني، إذ إنّه لم ينشغل بالولوج إلى الأبعاد الرمزية وشتى الدلالات الأخرى, التي يُعنى بها بعض فنّاني "الحروفيات" العرب.

في معظم أعمال الفنّان في السنوات اللاحقة، أبدى اهتمامًا خاصًّا بالعمارة اليمنية التقليدية، وهي سمة موجودة في نتاج غالبية فناني الجرافيك اليمنيين، وليس في الأمر غرابة، فهذا الفن المعماري العريق شديد الفرادة والثراء، يفرض نفسه على موضوعات الفن التشكيلي، حيث يصعب تخيل فنّان يعيش وسط هذه العمارة المدهشة ولا يقوم باستلهامها في لوحاته بأي أسلوب فني يختاره، علاوة على ذلك فالفنان المعماري (ياسين غالب) شغوف بصنعاء القديمة، مهجوس بجمالياتها وآليات الحفاظ عليها من العوامل المناخية وتدخلات الإنسان المدمرة, وقد أفنى سنوات من عمره يعمل في مشاريع ترميم المنازل القديمة والمحافظة على حياة المدينة التاريخية، من هنا يمكننا أن نفهم وجود هذا التأثير المعماري ضمن نتاج الفنان المولع بصنعاء.

التكييف المدهش للخامات

في سنواته الأخيرة، اتجه الفنان نحو تقنية مبتكرة بالنسبة للوسط التشكيلي المحلي، ومغايرة لكل اشتغالاته، حيث راح يؤلف أعمالًا بصرية من مواد يجمعها من البيئة المحلية، بقايا أخشاب وقطع معدنية وبلاستيكية من السيارات ومختلف الأجهزة، يشكّل منها منحوتات ذات جاذبية عالية.

كما اعتمدت أعماله على تكييف الخامات وفق تصورات مدهشة، قام فيها بتطويع القطع لبلورة أشكال ذات بناءات متماسكة وموحية، لكنها تخضع لإنشاءات تجريدية وهو ما أكسبها جماليتها، فهي محملة بالإشارات ألا أنها لا تفصح عن مضمون محدد، هي أشكال قائمة على الإبهام إلى حد كبير، تدفع بالمتلقي إلى عقد المشابهات بينها وبين تراكيب بصرية كثيرة, ومع ذلك تبقى عصية على التفاسير المباشرة.

رحل الفنّان (ياسين غالب) عن هذا العالم في العام المنصرم، بصورة مفاجئة وصادمة، لكنه ترك أثره في حركة الفن التشكيلي اليمني, وخلّف تجربة إبداعية لم تسمح لها الظروف والمتغيرات، وكذلك الموت، أن تأخذ مساراتها التي كان الفنان يرتئيها ويحلم بها.  

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English