"وَا ازْيَب قرّ" لعبدالله غدوة

الشاعر الذي جعل من الرمل ورودًا، ومن الورد نرجسًا
حميد عُقبي
March 24, 2023

"وَا ازْيَب قرّ" لعبدالله غدوة

الشاعر الذي جعل من الرمل ورودًا، ومن الورد نرجسًا
حميد عُقبي
March 24, 2023

سيكون من المهم جدًّا أن نتوقف مع تجربة الشاعر التهاميّ اليمنيّ الراحل عبدالله حسن غدوة، ونحن نحاول التبحر والتحليق مع الشعر الشعبي التهامي. تهامة اليمن أنجبت مئات الشعراء المهمين جدًّا والذين أثَّروا على غيرهم، ولكن للأسف لا يحظى هؤلاء بأيّ اهتمامات نقدية وبحثية، ونادرًا ما نجد مادة أو بحثًا جيدًا عن هذه الإبداعات، الكل يتجه إلى الشعراء الذين ينتمون لمدن المركز، أو الذين كانوا يتحملون مسؤوليات بالدولة، وربما هذه مشكلة عربية بامتياز، وليست فقط يمنية.

نضجت تجربة شاعرنا غدوة بداية الستينيات، وظلّ مبدعًا ومتدفقًا بشعرية رقيقة مدهشة إلى وفاته عام 2007، وقد عاش سنواته الأخيرة متعبًا ومريضًا، ولم يجد أيّ اهتمام من أحد، وهذا شأن مبدعي تهامة ورموزها الذين لم يكونوا يومًا في حسابات أيّ حكومة يمنية، منذ قيام ثورة سبتمبر ثم الوحدة وإلى هذه اللحظة.

كتب غدوة بالفصحى والشعبي، وغنّى له كبار فنّاني اليمن، وكتب عنه الأستاذ عبدالباري طاهر في مقدمة ديوان دبابيس:

"عبدالله غدوة شاعر شعبيّ وغنائيّ من طراز فذّ ومتميز، ويمتلك مقدرة فائقة على استلهام فلكلور الصيّادين، وأغاني تهامة، وهو كمبروك سرور، وابن هتيمل، وكعلي باري، وكالقارة، والخفنجي، والسيد شعيب، والقردعي، وامبريق، وأبو عامر، وابن غازل، وسحلول؛ شعراء شعبيون تزخر بهم الأرض اليمنية، وديوانهم الشعبي جزءٌ أصيل من الهُوية العربية اليمنية، وقد غنّى له كبار الفنّانين، أمثال الأستاذ محمد مرشد ناجي، والأستاذ أحمد فتحي، وغيرهما، وأشعاره الشعبية أغانٍ بالفطرة الذائقة؛ فحسه الغنائي، وروحه الشديدة الحساسية الفنية تجعل من أشعاره الشعبية أغانيَ للبحارة والزراع. إنّها أغانٍ تمور بالحركة، وتصطخب بالموسيقى، ويفوح منها عبير البن، والكاذي، ونكهة وديان تهامة ومرتفعاتها، وروح إنسانها المبدع والخلّاق".

كما أشاد به شاعر اليمن الكبير عبدالله البردّوني، في مقدمة ديوانه "أغاني للبحر"، ويرى البردّوني أنّ عبدالله حسن غدوة يتميز بندرة المعاني، ومزجه بين العامية الفصحى مزجًا عجيبًا متناغمًا، "ولقد تفرّد عبدالله حسن غدوة باقتناص الأفكار الساردة، بفضل لغته التي يجعل من الرمل ورودًا، ومن الورد نرجسًا".

سوف أذهب مباشرة في هذه المادة إلى قصيدته الشهيرة "وَا ازْيَب قر"، وقد غنّاها الفنّان أحمد فتحي، وتم نسب القصيدة أول مرة للشاعر محمود الحاج؛ ممّا جعل غدوة يعترض، ثم تمّ في نسخة ثانية وضع اسمه مع اسم محمود الحاج، بدعوى أنّ الحاج قام بتعديل في القصيدة، ويبدو أنّ التعديلات لم تعجب عبدالله غدوة.

الريح الباردة الشتوية التي تهب على تهامة ملهمة لشعراء تهامة، وأنضجت مدرسة ولونًا شعريًّا بديعًا يُسمى (الوزبة)، الذي يعدّ من أروع وأجمل الألوان الشعرية الشعبية التهامية الحية والنشطة جدًّا إلى يومنا.

أنقل لكم قصيدة "وَا ازْيب قر"، للمبدع الراحل عبدالله حسن غدوة، كاملةً ويمكنكم سماع الأغنية تلحين وغناء الفنان اليمني أحمد فتحي، حيث من السهل البحث عنها وسماعها على قناة يوتيوب فتحي، وهي ذائعة الشهرة، وبالنسبة لي كمتذوق، أجد أنّ أحمد فتحي فعلًا خسر الكثير بالتعديلات، والتي لم تكن كضرورة موسيقية.

وا ازْيِب قر وا ازيب قر ** مال امبحر ما استقر

ما له هايجو استمر ** واليوم مركبي شمر

وامبتان له حزر ** يا خوفي إذا عبر

يقلب به على امحجر ** وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر

ليلي طال واستمر ** لا نجمة ولا قمر

واللي في حلاه مر ** وقت رجل امبقر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** طال العزف بالوتر

يا حانيش يا زقر ** وا ازْيَب قر وا ازْيب قر

وأنا عاشق امبحر ** حبيته من أمصغر

في حِلي وفي أمسفر ** ألقى فيه ما أمر

وأقبل منه ما خطر ** حتى لو يكون خطر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** دنيا كلّها عبر

وانا اشكي من امضرر ** من زرقاء في النظر

جاري مايها انهمر ** قالوا استعمل امقطر 

ذا في الأرض كم فحر ** لا إسعاف له حضر

وعليه أعدموا الإبر** حتى مات واندثر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** وا امنامس إذا انتشر

يسري أحمر امشرر ** حمى تقتل البشر

ساقتهم إلى امحفر ** زمرًا بعدها زمر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** قال لي امّوج في السحر

وا سامر بلا سمر ** حرق عينك امسهر

محبوبك عليك نشر ** كمغر نوق كد نفر

لا ودع ولا حضر ** أو حتى أتى اعتذر

كنت غاثيو هجر ** وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر

-------

تأملات جمالية

كما نعلم، الأزيب: هي الريح الباردة الشتوية التي تهب على تهامة، وكانت ملهمة لشاعرية شعراء تهامة، وأنضجت مدرسة ولونًا شعريًّا بديعًا يُسمى (الوزبة)، الذي يُعدّ من أروع وأجمل الألوان الشعرية الشعبية التهامية الحيّة والنشطة جدًّا إلى يومنا.

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** مال امبحر ما استقر

ماله هايجو استمر ** واليوم مركبي شمر

"وا": أداة نداء، أي: أيّها الأزيب توقف واهدأ؛ لأنّك سبّبت هيجان البحر. "مال" بلهجتنا التهامية، تأتي استفهامية، أي: لماذا؟ وبمعنى التعجب والاستنكار. "ما له هايجو استمر": هنا تكرار "مال" مع إضافة هاء الضمير الذي يعود للبحر، وكأنه يصف حالة هيجان البحر ويسأل الشاعر نفسه وغيره، وهو كذلك يضع نفسه ضمن دائرة الخطر فهو ليس مجرد متفرج خارجي، بل بوسط هذا المناخ حيث مركبه بالبحر ومركبي بالتأكيد لا توحي بمجرد مركبه، بل هو أيضًا، فالمشهد الدرامي ينشط، ويتصاعد بقوة حيث يأتي بعدها التحركات الدرامية المتنامية، فماذا يحدث؟

وامبتان له حزر ** يا خوفي إذا عبر

أي الحوت الكبير، انتبه له، "حزر" أي: نظر، "يا خوفي" من القادم "إذا عبر" نحونا أو عبرنا نحوه، المشهد معقد؛ خصوصًا ونحن في جو عاصف ومقلق.

يقلب به على امحجر ** وازيب قر وازيب قر

سوف يقلب به على الحجر، وهنا تحذير إلى الأزيب ويعيد المناشدة وأمره بالتوقف.

ليلي طال واستمر ** لا نجمة ولا قمر

"ليلي طال واستمرّ" في ليل مظلم لا نجمة ولا قمر، وكما أشار الشاعر الكبير عبدالله البردّوني، فشاعرنا غدوة يمازج بكيمياء بديعة بين الفصحى والعامية، وهو في كل أحواله يحافظ على رونق المشهد، ولا تهبط قصيدته إلى القاع، تستمر في تدفقاتها وهديرها الصوريّ ودلالاتها المتعددة البديعة، سهلة الحفظ وقوية المعنى.

واللي في حلاه مر ** وقت رجل امبقر

عودة للعامية، "واللي في حلاه مر"، أي: الذي في حلاوته صار مرًّا. "وقت رجل امبقر" كأنّه يقصد برجل أي رضاعة، نقول الجدي يرجل، أي: يرضع، وكذلك العجل، أهي صورة مرارة يشعر بها العجل خلال الرضاعة، أم ربما رجل البقر أي الخسارة والخيبة؟

يا حانيش يا زقر ** وا ازيب قر وا ازيب قر

"حنيش" و"زقر" من الجزر اليمنية بالبحر الأحمر، ومعروف أن إريتريا احتلتهما في التسعينيات، وهذه القصيدة كُتبت قبل هذا الاحتلال، كما كانت القصيدة هذه ضمن الشواهد والأدلة على يمنيّة حنيش وزقر، في المحكمة الدولية وضمن الأدلة اللامادية.

وانا عاشق امبحر ** حبيته من امصغر

في حِلِّي وفي امسفر ** ألقى فيه ما أمر

واقبل منه ما خطر ** حتى لو يكون خطر

يُعدّد الشاعر خطاباته للبحر، ويوضّح العلاقة الحميمية والوجدانية والجسدية، وربما يمكننا أيضًا أن نشعر أنّ البحر دلالة للحبيبة، وكثيرًا ما يحكي الشاعر التهامي عن عنصر طبيعي كالبحر ليسرد حكايته العاطفية وما يحدث له مع حبيبته.

واقبل منه ما خطر ** حتى لو يكون خطر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** دنيا كلّها عبر

وانا اشكي من امضرر ** من زرقاء في النظر

جاري مايها انهمر ** قالوا استعمل امقطر

يحلو لي تذوق هذه القصيدة بروحها العاطفي الرومانسي، وليس مجرد وصف لحالة الطقس والبحر، ومن هذا الإحساس تحدث الانقلابات الجمالية، فكل شيء حسيّ يتحوّل لميتافيزيقي أو عاطفي.

وانا اشكي من امضرر ** من زرقاء في النظر

جاري مايها انهمر ** قالوا استعمل امقطر

يشتكي الوجع، والوجع هنا هو: أوجاع داخلية وجسدية ظاهرة، أورثه وجع العيون والدموع والبكاء، والذي يأتي من الشوق والحنين، وهل استعمال قطرة العين سوف تشفي العاشق الولهان؟!

ذا في الأرض كم فحر ** لا إسعاف له حضر

وعليه أعدموا الإبر ** حتى مات واندثر

وا ازْيَب قر وا ازْيَب قر ** وامنامس إذا انتشر

يسري أحمر امشرر ** حمى تقتل البشر

يواصل الشاعر ببراعة، مزجَ أمورٍ حياتية صغيرة وقضايا وجدانية وعاطفية، وهو في ظلّ هذه المناخات الهائجة والخطرة.

"وامنامس إذا انتشر"؛ أي مثلًا هنا البعوض المنتشر في تهامة، والذي يسبب مرض الملاريا، والنامس أيضًا هو المخبر السياسي، والذي يتخفى في زي مجنون أو شحات أو يأتي كمسؤول مدني، وهذا التنوّع والمزج الساحر فيه كذلك رأي الشاعر السياسي، وكان أغلب الشعراء والمبدعين وما يزالون، يلاحقون سياسيًّا ويزج بهم في السجون، ويتم التضييق عليهم ومحاولة إجبارهم ليكونوا مدّاحين وأبواقًا للساسة، ولذلك يلجأ الشاعر للقصيدة العاطفية، وهي لا تخلو من النقد للواقع ونقد للحاكم.

حمى تقتل البشر فهل مجرد مرض الملاريا أم النظام؟

ساقتهم إلى امحفر ** زمرًا بعدها زمر

ساقتهم إلى الحفر جماعات تلو جماعات، يتولد هنا الشعور بالقهر من الظلم، وهو ليس ظلم النامس أي البعوض، والملاريا لعل ملاريا اليمن الأخطر هي أنظمته الاستبدادية، وهنا واقعنا اليوم يشبه الأمس، وبالتأكيد أكثر قسوة وفظاعة.

هذه الوزبة أو القصيدة ما تزال طرية عطرة، كأن عبدالله غدوة ينشدها لنا الآن، فيجد المتلقي نفسه جزءًا من هذه الدوامة والصراعات، وهي بالتأكيد أكثر تأثيرًا على العشاق، هي قصيدة عشق بامتياز، وقصيدة سياسية، وقصيدة للصيادين ينشدونها للبحر والموج والطير.

مسكين الشاعر الرائع عبدالله غدوة، حتى إنّنا لا نجد له صورًا، فقط وُجدت صورة واحدة بعد بحث مرهق، فالرجل عاش شاعرًا ولم يكن بوقًا، ويستحق أن نتوقف مع إبداعه في وقفات جمالية تأملية، ونأمل أن يعاد له الاعتبار، ويُعاد طباعة ديوانه، وربما ترك أيضًا دواوين لم تُنشر، ومثل هذه الأيقونات ستظلّ خالدة ومضيئة، سواء هبّ الأزيب أو قرّ الأزيب.

•••
حميد عُقبي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English