رواية تدين أمراء الحرب

عرس ساخن بدأ بالرقص وانتهى بالبكاء
الغربي عمران
March 23, 2024

رواية تدين أمراء الحرب

عرس ساخن بدأ بالرقص وانتهى بالبكاء
الغربي عمران
March 23, 2024
.

لم يختر الكاتب لأحداث روايته أمكنةً متباعدة ولا زمنًا متسعًا كما في أعماله السابقة، وكأنه دخل مع نفسه في تحدٍّ لإنجاز سبعة فصول، فيما يزيد على المئتي صفحة.

ليلة وأخرى؛ ذلك هو زمن الرواية، قاعة أعراس نسائية وأخرى رجالية، غير أنّ قاعة النساء استحوذت على أكثر أحداث الرواية. ذلك هو الحيز الزماني والمكاني لكل أحداث الرواية التي فازت بجائزة "حزاوي" لعام 2022، والصادرة عنها في طبعة احتفائية.

"إقبال"، أو الرجل المتخفي في ثوب امرأة، الشخصية الأكثر حضورًا في رواية "عُرس على صفيح ساخن"، تلك الشخصية التي تثير التساؤلات منذ أول ذكر لاسمها في الصفحة الأولى وحتى نهاية الرواية، فوجوده وتنكُّره بغرض اختلاس تصويرِ ما يمكن تصويره لنساء العرس في أوضاع يظنّها المجتمع مخِلّة، حيث سيستغل تلك الصور لاحقًا، كما كان يخطط له، لابتزاز من ينجح في تصويرهن خلسة، ولم يكتفِ، بل إنه استغل حرمان بعضهن ليوقعهن بعد أن عمت الظلمة القاعة، وركنت معظم النساء للسكون متجاورات، يبحثن عن النوم في أواخر ليلة مرهقة، جثم خوف الموت على الجميع، إثر استمرار القصف بين الحوثيين وأنصار عفاش، وحجز من في القاعة دون شراب أو طعام، بمن فيهم العروس، ساعات طويلة بسبب مواجهات شرسة طالت جميع أحياء صنعاء.

الكاتب رصد أدقّ التفاصيل لِمَا يمكن أن يحدث لجموع نساء تلك القاعة، التي بدأت أولى ساعاتها بالأغاني والرقص، وانتهت بالبكاء والخوف والجوع والعطش، بعد منعهن من الخروج والعودة إلى منازلهن، لتستمر المأساة بما تخيّله الكاتب من وصف أحوالهن تحت سماع دوي القصف، وتسيد الظلمة، وحاجة بعضهن لتوفير ما يساعد مَن يعانين من أمراض مزمنة، وكذلك الحوامل، وكذلك انعدام الطعام والشراب والأغطية، ما زادهن خوفًا وهلعًا.

نجح الكاتب مشاركة قارئه تلك الأوضاع اللاإنسانية لمئات النساء في قاعة مظلمة، وأثبت قدرته على إخراج رواية مكتملة الأركان، لحدثٍ يعرفُه سكانُ صنعاء، بل وتخيل وقوعه في مدن أخرى حول العالم تواجه صدامًا مسلحًا شرسًا بين قوتين، وما يمكن حدوثه، بعد اختياره لقاعة مناسبات، محدِّدًا عروسًا ومن جئن ملبيات لمشاركتها فرحتها، حالات إنسانية، استطاع من خلال كل ذلك إيصال الكثير مما يمكن قوله في مجلدات.

الرواية حملت العديد من الثيمات، وإن ظلّت الحرب محورها الأساس، وتلك الشقاقات بين بعض نساء القاعة، بين مؤيدات للحوثي، وأخريات لعفاش. وإن كان المحور الرمزي إدانة الرواية لأمراء الحرب، من تقودهم أطماعهم للسيطرة والتسلط، مستعينين بقوى الخارج لاستمرار العبث بالوطن ومقدراته.

فصول الرواية السبعة بعناوينها: ملكة جمال العرس، إنهم يحصرمون الفرح، الأمل المفقود، المحاكمة، فتاة تؤذن لصلاة الفجر، السقوط في الخراء، السماء تمطر وحلًا. تلك الفصول ضمّنها الكاتب مشاهدَ وصفية دقيقة، ولم يكتفِ بما كان يدور داخل القاعة من أنين وشجارات، وسرقات...، بل إنه جعل صومالية، حضرت تبيع اللبان، تتساءل حول مبالغتهن في هلعهن من الحرب، شارحة لهن أنهم في الصومال يمارسون حياتهم، نساء ورجالًا، صغارًا وكبارًا، وسط حرب لا تتوقف منذ سنوات، وتدعوهن إلى الهدوء والتفكير في الخلاص من وضعهن بدل الولولة.

لم يكتفِ بما يدور بداخل القاعة، بل ذهب يصف لقارئه ما يدور في أحياء المدينة من انفجارات وحرائق، حال دون وصول ذويهن إليهن، بل وما زاد من قطيعتهن تعطل الخدمات الهاتفية، ليمسين وكأنهن يدرن على جرم فضائي بعيدٍ عن الأرض. وباختياره حفلَ عرس ورمزية ذلك، ثم ألا تكون البطولة لامرأة بعينها، بل لجموع من النساء تجمعن، ليس في بيت أو حي أو منطقة أو محافظة، بل ليمن في مساحة لا تتجاوز الأمتار القليلة- كل ذلك له أبعاده ودلالاته العميقة والمتعددة، فالنساء دومًا هن الجمال والعطاء والسلام، بكل ذلك وبكل ما يمثّلنه من وطن يتوق للسلام والعدل والحرية.

رواية اعتمد الكاتب فيها على الوصف بدرجة أساسية، ليقرّب لقارئه كل ذلك التنوع والزخم، ثم الحوار المتبادل بين شخصيات العمل، مُظهِرًا تنوع المشارب والطبائع والهموم والآمال، معوّضًا بذلك ضمور تنامي الأحداث لمحدودية المكان، وخفوت تطور الشخصيات، لضيق الحيز الزماني الذي اختاره لسرد ما دار في تلك القاعة. مع ذلك لم تخلُ الرواية من التشويق، وتعدّد وتنوع التساؤلات، تلك التي ظلت دون أجوبة، وقد تتعدد بتعدُّد قرّاء الرواية، وتنوع مشاربهم ودرجات وعيهم وثقافاتهم. جانب آخر تمثَّلَ في نجاح جذب تعاطف القارئ مع جموع نساء القاعة، بعد تعدُّد المخاطر عليهن، وسط وضع يكتنفه غموض، ظل القارئ يستدعي آمال نجاتهن وخروجهن وعودتهن لأسرهن، بل وإلى أفق الحياة الرحب. 

اصطخبت الرواية بأسماء عديدة، مثل: نهلة (العروس)، إقبال (الذكر المتنكر بملابس نسوية)، نوال (الصحفية التي وجدت حضورها وسط تلك الأحداث فرصة لتدوين كل ما يدور ويقال)، مجيب (العريس)، فاطمة (أخت العروس)، الحارث، زينب (الصومالية)، وديعة (من نال منها إقبال وعرفت بكونه رجلًا)، سامية، تامر، محمد، أم فاتن، عامر (الطفل)، سارية، حمامة (العرافة)، نسرين، رانيا، وجدان، سميرة، سعيدة، صباح، أمة الرزاق... إلخ تلك الأسماء، ورغم كثرتهم فإنّ "إقبال" بغموض تنكره ودناءة نواياه، ظلّ مثار الاهتمام، وكانت نهايته مروعة بعد أن اكتشفنه.

الرواية حملت العديدَ من الثيمات، وإن ظلّت الحرب محورَها الأساس، وتلك الشقاقات بين بعض نساء القاعة، بين مؤيدات للحوثي، وأخريات لعفاش. وإن كان المحور الرمزي إدانة الرواية لأمراء الحرب، مَن تقودهم أطماعهم للسيطرة والتسلط، مستعينين بقوى الخارج لاستمرار العبث بالوطن ومقدراته.

قبل نهاية كلماتي القليلة في حق رواية مدهشة وعميقة، يمكن التنويه إلى أنّ للكاتب إصدارات متنوعة تربو على عشرة أعمال أدبية، توزعت بين الشعر والقصة والرواية، وكذلك البحثية، وأذكر هنا الروايات، ومنها: يوم مات الشيطان، زهر الغرام، زُربة اليمني، تعرية. 

في مجمل رواياته السابقة، تعدّدت الأمكنة، كما أنّ أحداث كلٍّ منها تغطي سنوات، وبعضها يعالج حيوات أكثر من جيل. أما هذه الرواية كما ذكرنا، فقد تميزت بتجربة جديدة تُحسَب له، وهي محدودية الزمان والمكان، وبحسب علمي؛ قد تكون هذه الرواية هي الأولى يمنيًّا بهذه الخصائص، وأظهَرَ الكاتب قدرات على إنتاج عمل روائي لافت، فيه يُظهِر بصمته الخاصة.

رواية مثّلت أنين وطن ينزف منذ سنوات، إذ تلخص من خلال جموع نساء يقعن في ضائقة وفقدان أمل، صرختهن تشير للظالمين في الداخل والخارج، عملاء قوى مجاورة، كما تدين القيادات العربية ومجتمعاتها من يشاركون في ذبح وتجويع هذا الشعب، مستمرين ببذل أموالهم لإذكاء الصراع. وتلك القوى الإقليمية والدولية التي لا هَمّ لها إلا نفوذها وحماية مصالحها، غير عابئة بدماء الأطفال وأشلاء النساء ومجتمع يتوق للحرية والحياة بكرامة.

•••
الغربي عمران

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English