الغناء الصوفي في اليمن

الأثر بين الدولة الرسولية وأحمد بن عيسى المهاجر
جمال حسن
April 15, 2023

الغناء الصوفي في اليمن

الأثر بين الدولة الرسولية وأحمد بن عيسى المهاجر
جمال حسن
April 15, 2023
اللوحة للفنان: هاشم علي

لم تساهم الحركة الصوفية في اليمن، بنشر الغناء والابتهالات الدينية فقط، إنّما جعلت من اللحن أحد الطرق المؤدّية إلى الله، وفي مجالسها تزدهر الألحان بتجاوب بين المنشد والحاضرين، تستحضر شكلًا من العبادة والذكر الديني. وانتشرت مدائحهم النبوية والأذكار لتصبح زاد اليمنيّين من ألحان السماء، يستحضرونها على طريقة الصوفيين في مجالس القات حتى وقت قريب.

وباستثناء حضرموت، التي تحظر جماعاتها الصوفية القات، يحضر تعاطيه بالنسبة لجماعاتها في مناطق اليمن الأخرى. ويصاحب تعاطي القات ترديدُ الابتهالات والأناشيد الدينية، في مشهد طقوسي، خصوصًا في المناسبات الدينية، مثل الرجبية أو الشعبانية، والتي تتزامن مع 27 رجب أو منتصف شعبان.

وعادةً ما تبدأ مجالس الإنشاد الديني في اليمن، بتمهيد يختلف من مكان إلى آخر، وعلى سبيل المثال في تعز وإب، يبدأ بتحميدة، ويكون مطلعها: "الحمد لله والشكر لله، الفضل لله والمنّ لله، وتردّدها المجموعة، بينما يقوم المؤدّي بترديد أدوار يفصلها غناء المجموعة المذكورة سلفًا. وتمتاز التحميدة بلحنين مختلفين. بينما في صنعاء، تستهل مجالس الإنشاد بتوشيحة: "بسم الله بسم الله، الله يا الله، بأول الذكر نبدأ، الله، بالمولى بالمولى، الله يا الله". ثم يتبع ذلك مدائح وموشحات دينية مختلفة، من حيث الأداء. لكن بطبيعة الحال، فألحان المدائح الصوفية في عموم اليمن واحدة.

وعلى الأرجح، كان لتهامة دورٌ في المؤثرات الصوفية، ونقلها الى وسط اليمن وشماله وجزء من جنوبه. بينما -بحسب المراجع- انتقل التصوف من العراق عبر أحمد بن عيسى المهاجر الذي استقرّ في تريم في القرن الخامس الهجري، وتنتسب له كثيرٌ من الأُسَر العلوية هناك. وتريم أهمّ مركز للتصوف في حضرموت حتى اليوم.

بينما كانت تهامة موطنًا لمعظم أعلام المتصوفة الذين عاشوا في اليمن. وعرفت الحركة الصوفية تشجيعًا خلال فترة التواجد الأيوبي في اليمن، واستمرّ هذا العُرف في تشجيع المتصوفة، بوصفها حركة دينية أكثر ارتباطًا بالزهد ولا تطمح للسلطة، خلال الدولة الرسولية التي أعقبت الأيوبيين. وتُعدّ تهامة وحضرموت مركزَي التصوف في اليمن، ولها امتداد وتأثير خارج اليمن. فمثلًا أشعار عبدالرحيم البُرعي، تُغنّى في الحجاز ونجد والشام.

وفي بداية الحكم الرسولي، عاش أحمد بن علوان؛ أحد أهم أعلام المتصوفة اليمنيّين، وما زال ضريحه وقبّته في منطقة يفرس بجبل حبشي مزارًا. كما أنّ سمعته التي تداولها المخيال الشعبي بالكرامات، استمرّ على نطاق واسع في مناطق يمنية عديدة. وترك أحمد بن علوان العديدَ من قصائد المديح الدينية، والتي يُنشدها المتصوفة اليمنيّون.

العهد الرسولي ساهم في ازدهار غناء المدائح الدينية، لاحتضانه وتشجيعه الجماعات المتصوفة في اليمن. بل إنّه على الأرجح، كان لتلك الفترة دورٌ واضحٌ في تشكُّل ملامح الغناء الديني الصوفي وأساليبه في اليمن. وهو ما انعكس بطبيعة الحال على غناء الموشحات الدينية في اليمن بصورة عامة.

ومع أنّنا لا نستبعد وجود مؤثرات عربية، على سبيل المثال: كان للتصوف في حضرموت جذورٌ عراقية، وأيضًا طبيعة التأثير المصري الذي كان واضحًا على البلاط الأيوبي والرسولي، غير أنّ التصوف اليمني، يمتاز بخصوصيته وأصبح له امتداد كبير في الحجاز والشام والمغرب العربي. بينما التصوف في الحجاز ما زال قائمًا حتى الآن بتأثير يمنيّ، قديمًا كان امتداده تهاميًّا، وحاليًّا حضرميّ، وهذا من ناحية الأدبيات الفكرية.

كما أنّه على صعيد الغناء الصوفي في اليمن، سنرى أنه اقترح لنفسه خصوصية يمنية، يمكن ملاحظتها في كثير من الثيمات اللحنية؛ فمثلًا، يمتاز الغناء الصوفي في اليمن، والديني على حدٍّ سواء، بترديد ثيمة "الله يا الله"، للمجاوبة بين أشطار يردّدها المؤدّي الرئيسي. ليس مجرد ذلك فقط، إنما اتخذت الألحان خصوصية يمنية من حيث نسيجها اللحني أو طبيعة ألحانها، وأيضًا ما تعتمده من إيقاعات.

ويمكننا القول إنّ الحركة الصوفية نسجت ألحانها على الأغلب من مصادر محلية، دون استبعاد انتقال ألحان من مصادر خارج اليمن، خصوصًا أنّ أعلام الحركة ورجالها، عُرف عنهم تنقّلهم خارج اليمن، إضافة إلى هجرة عكسية من خارج اليمن، جاءت من المغرب العربي، والعراق ومصر، واستقرّت في اليمن.

وتشترك ألحان الغناء الصوفي في اليمن، مع مثيلتها في العالم العربي، بترديد كلمة "الله" وتتجاوب بها المجموعة بين أشطار الغناء في بعض الأناشيد. لكنّه بصورة عامة اتخذ أسلوبًا يمنيًّا، بما في ذلك استخدام "الله يا الله"، المذكور سلفًا، فالاقتراح الصوتي حتى في الإلقاء الأقل تلحينًا لكلمة "الله"، يستند إلى صيغة يمنية.

الحركة الصوفية في اليمن، خاطبت المجتمع المحلي، مثلها مثل الحركات الصوفية في البلدان الأخرى. وبالتالي، اعتمدت على أدوات محلية في ترنيمها الروحاني. لكنها بصورة عامة حملت طابعًا مشتركًا للغناء الصوفي في العالم العربي، باستخدام ألحان بسيطة يسهل على المجاميع ترديدها، سواء تلك المنتمية لهم، أو بوصفها ثقافة طقوسية للأذكار الدينية يمكنها الانتشار في الأوساط المجتمعية الواسعة.

بينما يمكن للمؤدّي الرئيسيّ أن يمتاز بقدرات أوسع في الإنشاد، ويتيح له مساحة من التطريز والارتجال باستعراض صوته، وإن بحدود منخفضة، فطبيعة اللحن تظلّ بسيطة. لكن المؤدّي يتطلب أن يكون صوته مميزًا. ولا تُعرف تلك المجالس بانضباط أو صرامة بالنسبة لأداء المجموعة، فتتداخل الأصوات مع بعضها، الكبار والأطفال والشباب.

ووفقًا لبعض التسجيلات المُتاحة، لمنشدين تقليديين، سنلاحظ أنّ الأسلوب التقليدي، اتسم بطابع أقلّ حركة، وأكثر انغماسًا في الترنيم، الذي يبدو متمهلًا بغنائيته ويميل للحضّ على الخشوع، فيبدو أقرب لتلاوة مترنمة. ويمكن ملاحظته في تسجيل: "يا صحيح الفؤاد قلبي جريح" على مقام الحجاز، وهو من شعر أحمد بن علوان. وأيضًا يمكن ملاحظته لبعض موشحات جابر رزق التي احتفظت بنسقها التقليدي.

طقوس الإنشاد في المناسبات الدينية انتشرت في تهامة وتعز والمناطق الوسطى وبعض مناطق الجنوب اليمني، خلال فترة الحكم الرسولي؛ ولأنّ الرسوليّين حالة سياسية ممتدة من حكم الأيوبيين، فالأخيران شجّعوا الصوفية لتكون إطارًا تستبدل به تمدُّد التشيع الفاطمي في مصر واليمن والشام.

لكن التسجيلات الحديثة، تحاول مواكبة الميول السائدة في ذائقة الاستماع لدى الجمهور. على سبيل المثال، تسجيل لمديح: "يا أيّها النبي الكوكب الدري"، تعود كلماته لأحمد بن علوان، يتضح هذا الاختلاف مقارنة بما سبق ذكره، سواء في تسريع رتمه، وأيضًا في الطابع الإيقاعي. واستمرار اللحن على خلفية تشكُّلها ترديد المجموعة "الله الله" بتتابع، على نسق الغناء الصوفي العربي. 

قد لا نستطيع تتبّع سيرة تاريخية للطقوس الصوفية، وانتشارها في كثير من المجالس اليمنية. لكن على الأرجح، أنّ بعض رجال المتصوفة انتشروا في مناطق وقرى يمنية، وشاعت عنهم كرامات، جذبت المجتمعات المحلية نحوهم.

ومن وجهة نظري، قد تكون طقوس الإنشاد في المناسبات الدينية، مثل الموالد والرجبية والشعبانية وليالي رمضان، خصوصًا في العشر الأواخر، انتشرت في تهامة وتعز والمناطق الوسطى وبعض مناطق الجنوب اليمني، خلال فترة الحكم الرسولي؛ ولأنّ الرّسوليّين حالة سياسية ممتدّة من حكم الأيوبيّين، فالأخيران شجّعا الصوفية لتكون إطارًا تستبدل به تمدّد التشيع الفاطمي في مصر واليمن والشام.

فهل تعود الأساليب التقليدية المعروفة للغناء الصوفي في اليمن إلى فترة الرسوليين، أو أنّها تغيرت مع انحلال الدولة التي ازدهرت خلال القرن الثالث عشر والرابع عشر في اليمن؟

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English