افتتاحية نصف قرن

سبتمبر ثانٍ في اليمن الجديد
عبدالودود سيف
September 24, 2022

افتتاحية نصف قرن

سبتمبر ثانٍ في اليمن الجديد
عبدالودود سيف
September 24, 2022

قبل نصف قرن من الآن، صدرت في صنعاء واحدة من أهم المجلات الثقافية اليمنية، التي بقيَت لعقدين تاليين، الحاضنَ الأبرز لصوت الثقافة الجديد (فكرًا وأدبًا وسياسة)، وكل تعريف بها كان يُربط باعتبارها منبرًا سبتمبريًّا وحاضنًا لصوته التبشيري في عملية التحول التي أحدثتها ثورة سبتمبر في الوعي أولًا.

هذه المجلة صدرت عن وزارة الإعلام اليمنية، ورأسَ تحريرها عند التأسيس شاعرُ الحداثة المختلف، الأستاذ عبدالودود سيف (1946-...)، والذي كتب مقدمة العدد الثاني من المجلة، التي صدر قرار إنشائها من مجلس الوزراء الذي كان يرأسه وقتها الأستاذ محسن العيني، ونصّ على تأسيس مجلة إعلامية تصدر عن وزارة الإعلام، ولمّا تسلّم سيف مسؤوليتها(*)، كتب المقدمة كمجلة ثقافية وحدّد اتجاهاتها وسياساتها، فوافق الأستاذ أحمد دهمش، وزير الإعلام، على رأي رئيس التحرير، وفقًا لمقدمته، وجرى تثبيت اتجاهها كمجلة ثقافية وقتها. 

افتتاحية العدد الثاني صارت مع الوقت وثيقةً تاريخية بامتياز، حيث حددت هذه الاتجاهات، ونعيد نشرها هنا مع غلاف العدد من باب التوثيق لثقافة سبتمبر.

لكن قبل ذلك، أرى تثبيت ما قاله الدكتور علي محمد زيد في كتابه الثقافة الجمهورية عن الحاجة -وقتها- إلى مطبوعات ثقافية للتعبير عن هذا التوجه، [فقد] ظلت الحركة الثقافية تعاني من الركود بعد قيام الجمهورية وانشغال الجميع بالدفاع عنها خلال سنوات الستينيات. ولم يُعطَ للثقافة اهتمامٌ خاص. وظل المثقفون القليلون ممّن تكوّنوا في الداخل فيما قبل الجمهورية يبحثون عن طريق خاص وعن بيئة مناسبة تسمح لهم بالعثور على أنفسهم، واختطاط طريقهم، وامتلاك القدرة على التفاعل مع الواقع الجمهوري الجديد، في حين لم يكن المثقفون القليلون الذين تكوّنوا في الخارج قد وجدوا بعدُ، مكانًا في الوضع الجمهوري الجديد. وكان الصراع السياسي والكفاح من أجل تثبيت الجمهورية والخوف عليها من السقوط تحت حوافر الضغوط والتحديات الهائلة يستغرق كل المشاعر وكل الجهود. وكانت الثقافة آخر اهتمامات السلطات الرسمية الغارقة في مواجهة الحرب الضروس والمعارضة القوية التي أبدتها القوى التقليدية في الداخل، والتي جعلت الجمهوريين يصطرعون فيما بينهم منذ الشهر الأول من عمر الجمهورية، ولا يتوقفون للحظة، للحوار مع بعضهم البعض، وتحديد أولويات تجمعهم معًا للتصدي للحرب الشرسة على الجمهورية الوليدة، ومواجهة التحديات الكثيرة، وتحقيق الاستقرار والبَدء بعملية التنمية المنتظرة. وهكذا كان صدور أية مطبوعة ثقافية في عهد الجمهورية الأولى يُعدّ حدثًا ثقافيًّا مهمًّا. وبثَّ صدورُ كتب تنطق باسم الثقافة الجمهورية الجديدة الفرحةَ في قلوب القرّاء الذين كان عددهم ما يزال محدودًا.

(المحرر) 

الثاني من «اليمن الجديد»

وهو محاولة تضاف إلى محاولاتنا الأولى. وقد تكون مختلفة عنها في بعض الجوانب أو قاصرة، أو متميزة في جوانب أخرى، لكن الأمر الأكيد أنّ كلتيهما نشأتا ضمن اعتبارات واحدة، وتطمحان إلى تحقيق غاية واحدة: وهي الإسهام في صنع بعض ملامح الوجه المستقبلي ليمننا القادم.

وبمثل ما أنّ كلتا المحاولتين قد تغيّرتا في بعض جوانبهما، فسيظل التغيير صفة تلازم مجهودًا لأعداد قادمة، حتى نتمكن من اختيار الأسلوب النهائي القادر على أداء أغراضها بطريقة مناسبة.

إنّ «اليمن الجديد» إذ تبدأ رحلتها التاريخية في حياتنا ونفوسنا، وثقافتنا اليمنية المعاصرة، تدرك مدى الصعوبات التي تواجهها، ومدى الجهد اللازم من أجل التغلب عليها. وتأتي هذه الصعوبات من أمرين:

  • من طبيعة المهام التي تؤدّيها.
  • ومن طبيعة الظروف التي تحيط بمهمتها.

ومهام اليمن الجديد كغيرها من مهام الكلمة المكتوبة، والكلمة في معناها الأخير: نصف الفعل المنبثق عن إفادتها. بل إنّها تفوقه من حيث إنها تلعب إلى جانب دورها الواضح في الفعل؛ طابع التوجيه. وعلى ذلك فليس ثمّة جدوى لفعل لا يستمد إيقاعاته من إشعاعات الكلمة، كما لا جدوى من فعل تقصر فيه الكلمة عن استيعاب أبعاده.

إنّ الكلمة والفعل أمران يشكّلان في النهاية وجودنا وتاريخنا وحياتنا، ولأنّها على مثل هذا الأثر الضخم، فإنّ الكثير من المهتمين بها؛ قد يضطرون للخروج عن قوانينها، وتتحول في ممارستهم إلى مجرد قوالب تمشط بها رؤوس أو لحى البعض؛ إمّا لأنّهم يعجزون عن استيعاب مدلولاتها أو لأنّهم كغيرهم ممّن يخرجون عن قانون من قوانين الحياة التي يتحركون فيها، وفي كلتا الحالتين، المصيبة عظيمة. 

وإزاء ذلك فإنّا لن ندعي القدرةَ على تميزنا عن هؤلاء، كما لا ندّعي ارتفاع أفهامنا عنها إلى مستوى مدلولاتها الكبيرة؛ لأنّ ذلك لا يتحدد بالرغبة حتى وإن توفّر الوعي، وإنما القضية هنا أقرب ما تكون إلى استحضار هموم الكلمة قبل الإشراع بممارسة مهامها عمليًّا، والحكم من قبل ومن بعد النتيجة.

ذلك ما يمكن اعتباره داخلًا في تحديد نوع المهمة التي نحن بصددها.

****

أمّا إذا مضينا إلى ما بعده، وهو موضوع النقطة الثانية، وبشكل اعتبارات خاصة تحيط بمهام «اليمن الجديد»، موضوع هذه الملاحظات الفعلي، فيمكن تسجيل هاتين النقطتين:

أولًا: ظروف الآونة التي تظهر «اليمن الجديد» في أثنائها.

ثانيًا: الشروط الخاصة التي ينبغي لها التحرك من خلالها.

وفي محاولة إيضاح ما سبق، يمكن طرح الآتي:

بالنسبة للنقطة الأولى: فإنّ الظروف المرحلية التي ولدت فيها «اليمن الجديد» على جانب كبير من الدقة والجسامة. فقد استطاعت بلادنا أن تنجز فترة من حياتها الوطنية خلال ما مضى، وبدأت عمليًّا تدخل أعتاب مرحلة جديدة.

والفترة الأولى -منذ مطالع القرن الحالي وحتى أواخر الستينيات منه- كانت فترة نضال وطني حملت معها الكثير من أعباء الفعل المناقض لإرادة شعبنا وأعباء رد الفعل من قبله، وهذا يلاحظ من صراعنا مع الاحتلال التركي وكيفية مناهضته أولًا، ومن اتخاذ الزعامة الإمامية للأساليب الاستعمارية نفسها ثم رفضها من قبل شعبنا ثانيًا. وقد ترتب على خيبة شعبنا في حكام استقلاله خيبة فاجعة، كان سببها قيام حركتنا الوطنية في الثلاثينيات واستمرارها حتى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، حيث استغرق ذلك مجهود شعبنا لفترة طويلة أضاعت منه ثماره الحقيقية في إسعاد نفسه بحياة هادئة آمنة مطمئنة. وبعد أن استطاع بعرقة ودمائه وبطولاته أن يحقق انتصاره الهائل، لم يكن أمام القوى المستفيدة من ظلمه إلا أن تجره إلى تبعات أخرى أضاع أيضًا معها عشر سنوات من عمره، حتى استطاع مؤخرًا أن يعي حقيقته ويبادر إلى حسم الضياع بطريقة تريحه من ذرّ الدماء.

وقد كانت محصلة السبعين عامًا من الدأب والانتظار، كفيلةً بأن تسلمه إلى طريق الهباء، لكن كأي شيء في عمر الشعوب، ذلك لم يثنِ عزيمته، وخرج من بعدُ يبحث في ركامه الكبير عن طريقة جديدة يكتشف فيها حياته وعمره الجديد، بعد أن استطاع تحقيق غايتين كبيرتين: اقتلاع الحكم الإمامي البغيض، وطرد المستعمر من جنوبه. وها هو قد بدأ الطريق الجديد وما زال مع ذلك السؤال يدوي في دوامات البقايا:

من أين؟ وكيف؟

***

وفي خضم ذلك تأتي «اليمن الجديد»، ودورها هنا كغيرها من وسائل الكلمة أو الفكر، الأداة التي تسعى إلى تشخيص الحاجة وربطها بالفعل.

كيف نستطيع تحديد دور «اليمن الجديد» ضمن ما هو واقع؟

هذه هي القضية. وفي الإجابة عن هذا التساؤل، تتحدد النقطة الثانية، ما سبق الإشارة إليها.

وفي الواقع أنّ مهام «اليمن الجديد» مهام متعددة إلى جانب أنّها تسير في ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه التعليمي (أَو التثقيفي)، والاتجاه التوجيهي، والاتجاه النقدي، تمامًا ما تشكّل اتجاهات الصحافة الأساسية إذا استثنينا الاتجاه الإعلامي، وهو ما لا يتناسب تمامًا مع طبيعتها كمجلة شهرية.

 أما عن مهامها، فبعضها اجتماعية:

ووضعنا الاجتماعي شائك ومعقد، والخوض فيما يتصل منه بدور «اليمن الجديد» سيتحدد من معرفتنا لطبيعية تكونه.

والمعلوم أَنّ موروثنا الاجتماعي موروثُ عشراتٍ من السنوات المظلمة، وانعكاساته في حياتنا وتربيتنا ونفوسنا فوق أن ندركه بسهولة أو نقدر أن نخلص حياتنا القادمة من آثاره. ولذلك فإنّ الجهد ينصبّ هنا على محاولة الكشف عن أكثر الظواهر السالبة أثرًا وتواجدًا في حياتنا الاجتماعية ثم نعمل على تجاوزها، كما نحاول في الوقت نفسه تنقية الظواهر الخيرة، ونعمل على وصلها بحياتنا القادمة.

ومثل هذه العملية ليست من السهولة بحيث إنها ستتم بيسر، وإنما تتطلب إلى جانب التخصص في معالجتها قدرًا كبيرًا من الحرص الذي يجنبنا من الوقوع في مزالق النقل "المعلب" لحياة غيرنا الاجتماعية.

إنّ دور اليمن الجديد يظهر هنا من محاولة المبادرة للإسهام بما يحقّق الوعي الناضج في عمليات التحول الاجتماعية، سواءً أكان ذلك بالتعريف ببعض المفاهيم الاجتماعية المتقدمة من حيث هي مفاهيم نظرية تساعدنا عند مواجهة قضايانا الاجتماعية الخاصة، أو من خلال الاجتهاد في الكشف عن بعض ما يتصل بمجتمعنا للعمل على تغييرها أو تطويرها أو المحافظة عليها، أو من ناحية ثالثة من خلال متابعة بعض الظواهر السلوكية في حياتنا اليمنية المتعددة المناطق، لوصلها ببعض، من أجل خلق المجانسة في نمط حياتنا عند الضرورة.

 وبعضها مهام ثقافية:

وفي إطار ما تقدّمَ ذكره عن الاتجاهات الثلاثة، فإنّ «اليمن الجديد»، تضع في اعتبارها أو ينبغي لها أن تضعه، محاولةَ تنمية وتشذيب ونقد ما يصل من مظاهر هذا الجانب بحياتنا الجديدة، ولو اقتضى ذلك نقل بعض الآثار المناسبة من النتاج الثقافي إلى قارئنا اليمني؛ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كالترجمة من لغات يتيسر علينا النقل منها، حتى نستطيع بذلك تغطية بعض الجوانب التي تعوزنا، وتؤثّر في حياتنا الثقافية تأثيرًا يكون ذا مردود.

ومن ذلك أيضًا مهام تتصل بتأريخنا: 

وجميعنا نعلم تقريبًا، مدى الفاجعة التي أصيب بها تاريخنا وأصبنا بها، حين استطاع أعداؤنا أن يصرفونا عن تاريخنا فذهبت مصادره، إما ضحية النهب الأجنبي أو وقوعها فريسة الغبار والنسيان في مخابئها، أو تشويهه على يد بعض محترفي الدجل. ونحن نعلم من جهة أخرى أنّ التاريخ فوق ما يُعتبر أبًا شرعيًّا لحاضرنا ومستقبلنا هو كذلك الوسيلة الوحيدة التي تحقق من خلالها معرفتها لأنفسنا. ولن نخطو في حياتنا القادمة خطوة واحدة مستقيمة ما لم نتحقق أولًا من اتجاه سير تاريخنا اليمني ومعرفة الأمور الفاعلة في تطوره، وكيفيات انعكاسها في نفوس من سبقونا. وهذا يتطلب بالتأكيد أكثر من التنقيب والبحث والتحليل حتى نستطيع وصلها بحياتنا ومستقبلنا على نحوٍ واعٍ ومدرك.

ويتحدّد دور «اليمن الجديد» هنا على أساس أن تكون منفذًا يقرّب بين العالَمَين بأسرار تاريخنا وبين الغالبية من أبناء شعبنا ممّن لا تتاح لهم عملية متابعته، كما أنه مطلوب منها إذا واتاها الاطراد، محاولةُ الإسهام المباشر بما يمكن من وسائل الرعاية وتشجيع العَمَلَين على قدر إمكاناتها.

*******

إنّ ما تقدّم أمورٌ تدخل في مهام «اليمن الجديد»، وقد أردت من الإشارة إلى بعضها مجردَ التنبيه، حتى تكون في علم القارئ المهتم بذلك أو الكاتب الذي قد تدفعه المشاركة فيقدم بعض ما لديه، أو للقائمين على أمورها، إن حاضرًا أو مستقبلًا. ولأنها -أي المجلة- في موضع احتكاك مباشر بين القارئ والمعنيين بما يكتب فيها عمومًا، فإنّ في التشديد على طرح بعض النقاط السريعة، مساهمة إلى حدٍّ ما في إنجاز سيرها على طريق أعتقد أنه ناضج. 

بقي أن أشير إلى أنّ «اليمن الجديد»، وإن كانت قد أعِدَّتْ منذ البَدء، على أن تكون مجلة وسيطة في محتوياتها، وفي طرائق عرض هذه المحتويات، بمعنى أنّها ليست مجلة متخصصة في جانب معين حتى تفرد الصفحات الطوال لموضوع بذاته، ولأنها ليست خفيفة، أقول بالرغم من ذلك ستفتح صدرها لكلّ ما يأتيها من دراسات، حتى وإن خالفت طبيعتها المعدَّة لها، شريطة رجاء تحقق الفائدة.

وأعتقد أنه ليس من الضروري أن أذكّر المعنيين بأمر الكلمة في هذا البلد، بأنّها ستكون عند حسن ظنهم إذا ما أرادوا المشاركة: بالكتابة، وبالتوجيه والنقد والإضافة، فهمُّنا أولًا وأخيرًا محاولة إنجاز أمر، حتى وإن كان بسيطًا.

فلعله سيكون شيئًا في واجهة يمننا المستقبلي المنشود.

عبدالودود سيف

مايو 1972

(*) صدر القرار رقم (36) لسنة 1972، تحت توقيع وزير الإعلام، أحمد دهمش، بتاريخ 4 مايو 1972، بتعيين السيد عبدالودود سيف مسؤولًا عن مجلة اليمن الجديد، ماليًّا وإداريًّا وفكريًّا، بدرجته حتى تعيين هيئة تحرير للمجلة المذكورة ، ويعمل به من تاريخ صدوره.

•••
عبدالودود سيف

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English