الأغاني النكافية في اليمن

أقوال قصيرة لمكونات كثيرة
د. نجيب الورافي
October 27, 2022

الأغاني النكافية في اليمن

أقوال قصيرة لمكونات كثيرة
د. نجيب الورافي
October 27, 2022
Photo by: Mohammed Al-Mekhlafi - © Khuyut

سوف أستعمل مصطلح (نكافيات)، في ضوء معناه اللفظي المعجمي (نكف) و(ناكف)، (ن ك ف)، وهو لفظ ثري المعنى متعدّد الدلالة يتدرج في التدليل من مستوى التعبير عن موضوعات مادية إلى معانٍ مجردة، فهو يعني القطع والمنع في سياق الحزن والوجع والتعب، يعني مسح الدمع والعرق، ويعني الامتناع عن السوء، كالاستنكاف، ويعني داء يصيب حلاقيم الإبل فيفتك بها، ومنه ناكف بصيغة المشاركة، ويعني بادل صديقه كلامًا يضايقه.

يعبر المعنى المعجمي عن ماهية الأغنية النكافية في اليمن، من حيث هو معطى مضموني دلالي ينسجم مع بعدها الشعوري في الدلالة على الحزن والتعب، ومن حيث التدليل على متلازمة حالة مرضية عضال ومميتة. ثم بعدها الاتصالي في تمثيل علاقة المراوحة بين القطع والوصل معًا، فهو لا يعني القطيعة المطلقة، مثلما لا يعني استقرار الحال، وأخيرًا بعدها الجدالي النكائي المتضاد بوضع مفارقة ساخرة بين ما هو كائن وما هو ممكن أو ما يفترض أن يكون، ولو بالشطط والشطح.

يا ليتني براس الجبل مرايةْ

شا عين المحبوب لكل لايةْ

يا ليتني براس الجبل قطيةْ

لا اشتي هدار عمة ولا حليةْ

أغانٍ، تقع ضمن نمط أقوال شعرية قصيرة جدًّا، مجهولة القائل، قد لا تتعدى البيت الشعري ومنمطة لهجةً وتركيبًا ووزنًا وفقَ المتعارف عليه في فنون الشعر الشعبي المماثلة. وعلى الأرجح أنّ وزنها هذا شائع مألوف في الغناء الشعبي اليمني في سياقاته وموضوعاته المختلفة.

ويشار هنا إلى أنّ البردّوني كان قد ذكر، في كتابه فنون الأدب الشعبي، من نمط الغناء الشعبي اليمني في غير المناكفة وحلّل بعض نماذج، تنتمي إلى القالب الوزني والبنائيّ نفسه، في سياقين مختلفين، هما: الاغتراب والمكاشفة.

تطلق النكافيات على التعبير عن لون غنائي شعبي، تتداوله المرأة اليمنية في الغالب كما يتداوله الآخرون أيضًا من واقع خلفية تاريخية ممتدة لهذا الموروث الشفوي غير المدون؛ والنكافيات من المناكفة، وتعني سجالًا هجائيًّا ناقدًا من طرف واحد، هو المرأة في الغالب مقابل طرف مضمر في موقع الخصم الحميم أو اللدود، قد يعني الرجل وقد يعني العالم من منظور خصم أيضًا، فتأتي أقوال المرأة رد فعل مناكفًا له، ساخرًا أو متحيرًا من تصرفاته.

شيبه شمات لا شمّ ريح الشِّتا مات

أمّا العزب يا بنات مثل النمر له تلفات

لا ترتبط طقوس أداء الأغاني النكافية، بوقت معلوم ولا بمناسبة رسمية، وإنّما بموقف حياتي خاص تمرّ به المرأة، وقد يرتبط بأعمالها اليومية في البيت أو في الحقل، فتندفع للغناء بتلك الأقوال المحفوظة بحسب الموقف ومتى دعت الضرورة ذلك؛ أي إنّها بنت حالها وسياقها الذي يستدعي المناكفة.

وعلى الرغم من ضآلة بنية الأغنية النكافية ومحدوديتها على مستوى الأنموذج الواحد، فإنّ هذه البنية حافلة بمقاصد كثيرة، وأهداف متنوعة، بحسب السياق الذي ترد فيه، إذ تتنوع موضوعاتها بين الغصة والتلميح بالفراق والرغبة، ونشدان الجمال والغيرة والمعايرة.

تستند هذه البنية إلى مفارقات ثنائية تناكف بين أضداد وتعكس واقعين في حالة ظهور وإضمار، تقييد وإطلاق، رضا ونفور، قَبول ورفض، امتلاء وخواء، جمال وقبح، كما تستهدف معادلة مقاصد متضادة بين الإثبات والدحض، الإشادة والهجاء، وغيرها.

أبرز تمثلات الثنائية الضدية للمنحى النكافي هو في اشتمال خطاب الأغنية على ضمير خطاب يمثّل قطب مواجهة هو إما اسم ظاهر أو (ضمير متكلم وكاف مخاطب أو غائب) أو إضمار خطاب ضمني، فلكل خطاب نكافي خطاب ضمائر مماثل ومناسب.

شلوك يا الخيبة حقين فراقش

مسرسب الازرة والوجه واقش

وهو ما يؤكّد البعد الجدالي لأغاني النكافيات، ويضع صوت المرأة في قطب المواجهة مع وجودها الذاتي ومع عالمها المحيط، ويفصح عن هذا العالم بصفةِ طرفٍ مناكف ضدي.

1. نكافيات الرغبة

شيبه شمات، لا شم ريح الشتا مات

أما العزب يا بنات مثل النمر له تلفّات

2. نكافيات الشغف الجمالي

شلوك يا الخيبه حقين فراقش

مسرسب الازرة والوجه واقش

شلوك يا الخيبة.. وشلشلوا بك

وادّوا قدح باروت وعشروا بك

3. نكافيات الغيرة الحائرة

عينت لك.. وانت تعين الغير

لا اسْكَنك جنة ولا الحقك خير

4. نكافيات لوامة

تستاهلي يا عين.. يا عدوةْ

كيف تعشقي من كان قليل مروّةْ

*** 

تستاهلي يا عين.... لا بكيتِ

انتِ التي اخترت واللي رضيت

5. نكافيات الغرر

غريتني بالغر.. يا غرورةْ

غريتني يا معقش الصرورةْ

***

غريتني بالعسفجةْ يا قشطةْ

جيبك عطل ما تمتلكش بقشةْ

***

قد قلت لك.. لا تعشقي المعدل

يومين ثلاث قد هو بحالة الجن

***

خدعتني.. الله يخدع بدهرك

ويجعلك مجنون ما تعرف اهلك

6. نكافيات التلويح بالفراق

كنت أحسبك ملكي والملك لله

واليوم.. قنع قلبي والحمد لله

***

كنت أحسبك ملكي وما معيَّا

واليوم... تقلب صورتك عليَّا

***

صاح الملاك من تحت عرش ربي

يا من قنع من صاحبه.. ينبي

7. نكافيات العذاب

سممتني.. والسم ما قطع بي

أني أحمده ربي لي ما فسح بي

***

سممتني.. لك سم ما يداوى 

لك سمّ بين القات والحلاوى

8. نكافيات الغصة والمرارة

قلبي ملان يا أماه سليط تَرْتَر

لو يفتجر يروي العدين ومنزَل

***

قلبي ملان يا أماه حجار صوارغ

لاه من هدار الناس في الشوارع

9. نكافيات الحلم الخرافي

يا ليتني براس الجبل مرايةْ

شا عين المحبوب لكل لايةْ

يا ليتني براس الجبل قطيةْ

لا اشتي هدار عمه ولا حليه

***

خلوني اجزع لي خلف الزريبةْ

يشلني الطاهش.... ولا غريبةْ

10. نكافية جامعة، يترابط القول النكافي ترابطًا عضويًّا، بحيث يشكّل نصًّا جامعًا، تتجه مقاصده الجمعية العامة أيضًا للحجاج والسخرية والهجاء والتهكم والتحقير والإدانة وغير ذلك.

 إنّ ما تناولناه هنا من نماذج سماعية للأغنية النكافية في اليمن، يعد قليلًا ولا يعتدّ به في ضوء ما يتداول شفاهيًّا من زخم كثير لهذا النوع من الأغاني. أيضًا لا يلغي ترجيح ارتباط أداء الأغنية بذات أو بجنس ما، كالمرأة في معظمه، كون النكافية أكثر اتساعًا من حيث بنية واقعها المتسع الذي قد يصل إلى المجتمع اليمني وذاكرته الثقافية التاريخية، ومن حيث تجاوز مقاصده وجود الذات الفردية إلى الوجود الاجتماعي بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية.

ولأنه كذلك فإنّه بمضمره الكثير رهين سياق استعماله الخاص، فقد يتجاوز بأهداف خطابه ومقاصده مشكل وجود ذات مفردة ويتعدى واقعها، فيستعمل في سياق النقد السياسي والاجتماعي، لا سيما ذلك النوع غير المقيد بلفظ يميز نوع خطابه، فنحن نقول حين تخيب اختياراتنا لسوء التقدير والنظر الدقيق:

تستاهلي يا عين لا بكيت

انت التي اخترت واللي رضيت

ونخاطب السياسي الانتهازي الذي تخلى عن وعوده وخذلنا وباع قضايانا:

كنت أحسبك ملكي وما معيا 

واليوم.. تقلب صورتك عليَّا

يتكشف هذا النص الجامع عن مقاصد كلية تلخص إشكال المجتمع اليمني عبر تاريخه الطويل واستغلاله من قبل قوى القهر والاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليبحث عن حلول وهمية خارج إرادته وقوته كاللجوء إلى الغيبيات، ومنها عدل الإله وقوته واحتمال الإنصاف لديه، أيضًا يتكشف اختلال بنية الوعي من خلال مضمر الإيمان بقوى غيبية أخرى يراها في موقع الفاعلة الخارقة، كقوى الجن التي يستمدها ويستمنح تعاونها للأخذ بظالميه.

الأغاني النكافية نصٌّ غناء شعبي تراثي موسع، قابل للإضافة في كل عصر، مبطن بمضمر، ثري الدلالة، متنوع المقاصد، كما أنه من حيث منظوره النكافي الضدي يتصل بعضه ببعض، كأنما هو نص جامع متناغم.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English