الموسيقى والسينما

تعارض الموسيقى كإبداع مع الحسية البصرية
جمال حسن
February 3, 2022

الموسيقى والسينما

تعارض الموسيقى كإبداع مع الحسية البصرية
جمال حسن
February 3, 2022

منذ فترة مبكرة في السينما، لعبَت الموسيقى التصويرية دورًا مهمًّا في صناعة الفيلم. وعندما كانت السينما ما تزال صامتة، كانت فرقة أوركسترا تقوم بأداء حيٍّ للموسيقى في مقدمة السينما. واعتمدت الأفلام على مؤلفات كلاسيكية قديمة أو على مؤلفات خاصة بها، وأصبحت الموسيقى جزءًا مهمًّا من صناعة الفيلم ونجاحه. 

لكن هل يمكن للموسيقى فعلًا أن تعبر عن هذا المحتوى الدرامي؟ أو أن المزيج البصري والسمعي يمارس تأثيرًا انطباعيًّا نفترض من خلاله، أن الموسيقى المصاحبة للمشاهد، تحمل في ذاتها تصويرًا للمشاهد. عبر تاريخ السينما تفاعلت مشاهد مختلفة مع مقطوعات متكررة وأدَّت التأثير نفسه. مع أن هناك سمات تعبيرية تحددها المشاهد أو الصورة وحركة الكاميرا في نوع الموسيقى التي يمكن استخدامها، ويكون الإبداع التصويري نابعًا من تقدير المؤلف، وبالتالي يتكون هذا الانطباع بالنسبة للمشاهد، كذكرى عابرة حين يتوافق الاستماع لأغنية مع حدث أو ذكرى في حياتنا، فيحدث شكل من التآلف اللحني مع الموقف العام، ويختلط في الذكريات.

أثار التعبير الموسيقي خلافًا بين الموسيقيين والنقّاد منذ مطلع القرن العشرين الفائت، لكنه أيضًا موقف يتماهى مع رؤيتين؛ إحداها ترى الفن للفن، وأخرى تنظر له كمحاكاة للواقع أو يهدف إلى رسالة عامة يمكن أن تتسع على عدد لا متناهٍ من الأفكار والقضايا. وعمليًّا ظهرت الموسيقى التصويرية بتأثير من أفكار الموسيقيّ الألماني ريتشارد فاجنر، والذي تبنّى عصر الدراما الموسيقية معلنًا عن موت السيمفونية، وتحديدًا بعد السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.

لكن اتصال الموسيقى بالدراما يعود إلى عصر الدراما الإغريقية، حيث كان للموسيقى حضورٌ باستخدام القيثارة الكلاسيكية والغناء في المسرح اليوناني، وفي أواخر عصر النهضة في إيطاليا، ظهرت ملامح الأوبرا بهدف إحياء الدراما اليونانية. وبلغ المفهوم التعبيري للموسيقى ذروته خلال العصر الرومانتيكي، وكان لا بد للسينما أن تجعله مفهومًا عضويًّا في صناعتها الدرامية. لكن هل تعني الموسيقى ذلك، هل كانت تعبيرًا حقيقيًّا عن الصورة، أو أنه انطباعٌ غرضه إيصال مستوى تأثيري معين وسط الفيلم.

وبعيدًا عن تباين الرؤى إزاء الممارسات التعبيرية للموسيقى، هل نستمع للموسيقى فعلًا داخل الفيلم، أو أنها تتزين بالمشاهد البصرية. لقد استمعت لموسيقى فيلم "العرّاب" الشهير، قبل مشاهدة الفيلم. كانت تباع ضمن أعمال رومانتيكية. لقد تم حجب جائزة الأوسكار للموسيقى؛ لكون مؤلفها الإيطالي نينو روتا سبق أن قدّمها لفيلم إيطالي بعنوان "فورتشنيلا"، للمخرج الإيطالي الكبير فيدريكو فيليني. ربما كان ذلك تاكيدًا على أن الموسيقى التصويرية تحمل مفهومًا فضفاضًا للتعبير، بحيث يمكن للعمل نفسه أن يناسب أفلامًا مختلفة.

تباين المفهوم التعبيري للموسيقى من شخص إلى آخر لا يغير قدر الصورة السينمائية التي أصبحت الموسيقى تعبيرًا عضويًّا في خطها الدرامي، وما زالت بعض الأفلام تحيلنا لتحفها الموسيقية.

أتذكر أني حين شاهدت الجزء الأول لفيلم "شارلوك هولمز" في دار سينما، عشت لحظة استمتاع بالموسيقى التصويرية أجبرتني على الابتعاد عن الخط الدرامي للفيلم. وبالفعل نحن في العادة، نستمتع بالموسيقى كجزء من الموقف الدرامي، لكن في لحظة إعجاب مفرط، عليك أن تتخلى قليلًا عن المشاهدة. في الرواية مثلًا، لا يمكن للأدب أن يكون بصريًّا، وهي عقدة أخرى دفعت مارسيل بروست ليجعلها أزمة لدى شخصية لعمله "البحث عن الزمن المفقود"، حين وجد أن لوحة يتطلبُ التعبير عنها في الأدب مساحةً أكبر بكثير من الكلمات. ولعل ذلك ما تحاول قوله الموسيقى في المسرح الدرامي؛ تكثيف المشاعر والانفعالات التي تساند الصورة. ليس ذلك فقط، بل أيضًا تحيل مفهوم الحركة إلى عملية إيقاعية. وهو ما كان لحظة درامية تتصاعد في "شارلوك هولمز" بمصاحبة الموسيقى. حينها اصطادتني بهجة إيقاعية، وبدت الأصوات نسقًا لا يمكن الانغماس فيه كليًّا دون الابتعاد عن الصورة أو المشهد. وكان -بالنسبة لي- الحضورُ البصري جزءًا يمكنه تعطيل آلة حسية أخرى تمثلها الأذن.

في الواقع، لا يمكن لتلك الموسيقى، مضاهاة أعمال كلاسيكية عظيمة. لكني في لحظة صدمة حسية وجدت نفسي أتدفق معلنًا لتحيزٍ سمعي، ولم يكن قرارًا إراديًّا، بل تلقائيًّا أحدثته لحظة نشوة ارتطمت بها الأجراس الموسيقية مع الضربات الإيقاعية المفعمة، وفي حالة كتلك يغرق الذهن كليًّا في الأذن، وهذا لا يحدث سوى في فيلم حركة يمكن استعادة خطه الدرامي البسيط.

على أن تباين المفهوم التعبيري للموسيقى، من شخص إلى آخر، لا يغير قدر الصورة السينمائية التي أصبحت الموسيقى تعبيرًا عضويًّا في خطها الدرامي. وما زالت بعض الأفلام تحيلنا لتحفها الموسيقية، وإن ظلت موسيقاها بصورةٍ ما مفعمة أكثر وَفق خطها الدرامي، وهذه مسألة يمكن أن تكون مختلفة بالنسبة للكلاسيكيات التي تصاحب موسيقى الفيلم. فمثلًا، فيلم "أسطورة 1900" التي تحكي قصة عازف بيانو خارق وُلِد في سفينة ولم يغادرها طوال حياته، ورفض مغادرتها ليموت داخلها. ولعل الموسيقيّ الإيطالي إينو ماكروني، أحد أشهر مؤلفي الموسيقى التصويرية للسينما في العالم، والذي رحل منذ مدة قريبة، في العام الفائت (2021)، يستعير بهجة الجاز في كثير من التفاعلات، ويزاوج بين التكنيك والارتجال في سياق مفعم، منح تلك التحفة السينمائية قوتها.

وفي الفيلم الذي يحكي عن موسيقِيّ موهوب -وهو من تأليف الإيطالي أليساندرو باريكو صاحب "حرير"، وإخراج الإيطالي جوزيبي تورنتوري، صانع الأفلام المدهش، ويكفي تحفته "سينما بارديسيو"- لا بد أن تكون الموسيقى جزءًا عضويًّا في الدراما، كما لو كانت أوبرا غير غنائية، تختلط فيها الموسيقى مع الإيقاع الدرامي، وتفصلها حوارات أخّاذة، ومشاهد بصرية رائعة، بعيدًا عن البذخ المزخرف في "تيتانيك" المثقل بالإبهار الأمريكي، وكان لا بد للموسيقى أن تعبِّر عن روح أمريكا بتوظيف لغة موسيقى الجاز. ولعله الشيء الذي افتقره المؤلف التشيكي دفورجاك حين ألف سيمفونيته المسماة "أمريكا"، دون أن تمسها لمحة جاز.

الذاكرة تصنع للموسيقى إحالات من الواقع، لا تجردها تمامًا، ولا يمكن أن نسمعها بالطريقة التي أرادها سترافنسكي، خارج أي تعبير عاطفي أو انفعالي.

في واحدة من أفلام الغرب الأمريكي للمخرج الإيطالي جيمس ليون، تنبعث موسيقى ماكروني بروح الغرب، وهنا كان يتوجب توظيف الجيتارات. لكن رائعة ليون "حدث ذات مرة في أمريكا"، هي أكثر ملامح نبوغ ماكروني كمؤلف موسيقى تصويرية. ولا أظن أن الحكايات الخيالية لا تتسم بمسحة موسيقية حالمة، وهو ما تراهن عليه الألحان التصويرية. لكن التكييف الدرامي للموسيقى يمكن أن يحمل صيغًا عديدة، بعضها تراهن على الروائع الكلاسيكية. وأتذكر فيلم "خطاب الملك" الذي حصد عدة جوائز أوسكار، وظف في سلسلة مشاهد متواصلة الحركة الثانية للسيمفونية السابعة لبيتهوفن، وكانت تحيلنا لمشاهد تصاعدية يقوم فيها الطبيب المعالج بتعليم الملك إدوارد، والد إليزابيث الثانية، كيف يتجاوز التأتأة، في مهمة مفصلية ليقدم خطابه، أو خطاب الملك الذي سيعلن من خلاله الملك دخول بريطانيا الحربَ العالمية الثانية.

تميل السينما الأمريكية إلى تضخيم تفصيلٍ لتجعله محوريًّا، وكأن دخول الحرب والانتصار فيها ما كان ليحدث دون هذا الخطاب، وهي سمة مزدوجة تثير توهج هوليوود وإخفاقها المرهون لبعض الإكليشيات. مع ذلك ما كان هناك موسيقى أمثل –برأيي- من موسيقى بيتهوفن، مع أن الأخير الذي تُوفِّي قبل حوالي قرنين من ظهور الفيلم، لم يؤلفها بالتأكيد لهذا الفيلم. ويمكن مشاهدة الموسيقى نفسها في إعلان لعطر من ماركة شانيل أو غوتشي.

في فيلم من روائع هوليود هو "عازف البيانو"، يحكي قصة عازف بولندي يهودي ينجو من المحارق النازية، تلوح خرائب وطنه بولندا، على معزوفة شهيرة لشوبان، تُعرف بـ"المارش الجنائزي"، وسبق تأليفه كمقطوعة قصيرة، لكنه عاد وضمنه الحركة الثانية من السوناتا الثانية، وهي واحدة من ثلاث سوناتات للبيانو ألفها شوبان، مفضلًا القوالب الأصغر، من المازوركات والبولينيز والليليات وغيرها. فالموسيقى هنا تحيلنا لمشهد جنائزيٍّ صامت تثيره صور الخراب.

ولعل مهمة الموسيقى التصويرية، أن تمارس دورًا ديناميكيًّا أكثر من كونه تصويريًّا، إنها مساحة إلقاء تمتزج فيها الانفعالات والعواطف والحركة، وتمارس دورًا تصعيديًّا. فليس من الممكن القول إنها تؤكد فعالية أفكار فاجنر؛ لأن التعبيرات الدرامية في الموسيقى السينمائية، اتخذت خطًّا لحنيًّا مغايرًا لتعقيد فاجنري يقترح على الموسيقى أنماطًا تملؤها التنافرات الهارمونية والأصوات القوية، المشحونة بالانفعال، لكنها بالتأكيد لا تؤدي مفاهيم سترافنسكي التي تنحاز للموسيقى الموضوعية، أي إن الموسيقى تعبر عن ذاتها؛ لأنها في السينما أو الدراما تعبر عن دالات أو ثيمات متصلة بالتصاعد الدرامي. لكن يمكنني التأكيد، أن الموسيقى المصاحبة للمشاهد تختلط بالتأثير الدرامي للقصة، وهنا يختل موضوعها الموسيقي إلى تكييف أقل تجردًا من الاستماع لها دون ذلك. هذا رغم أن الذاكرة تصنع للموسيقى إحالات من الواقع، لا تجردها تمامًا، ولا يمكن أن نسمعها بالطريقة التي أرادها سترافنسكي، خارج أي تعبير عاطفي أو انفعالي. لكنها بالتأكيد ليست مجسمًا لفكرة، والتي أرادت الحقبة الشيوعية أن تتخذ مفهوم الواقعية الاشتراكية، أو الالتزام الأيديولوجي، فكانت خلطًا بين الرومانتيكية والروح الموسيقية الروسية.

وبرأيي، الموسيقى كإبداع تتعارض مع الحسية البصرية، وإن قدمتها السينما بطريقة مغايرة تماما لنا.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English