"ميفع عبدالرحمن" بين المبدع والسياسي

ثلاثة تذكارات من هامش السيرة للقاص المختلف
نجيب مقبل
August 31, 2023

"ميفع عبدالرحمن" بين المبدع والسياسي

ثلاثة تذكارات من هامش السيرة للقاص المختلف
نجيب مقبل
August 31, 2023
الصورة لـ: محمد الشيباني

ثلاث لحظات التقطتها من سيرة القاص والكاتب الراحل ميفع عبدالرحمن، لم أعايش أُولاها، بل راجت يومها كقضية بين الأدباء الشباب، وعايشتُ اللحظتين الأخريين معايشة شخصية، وهذه اللحظات أو الأحداث التي سطرتها سيرة المبدع ميفع كشفت لي شخصيًّا تطور شخصيته إنسانيًّا وإبداعيًّا.

الحادثة الأولى: زمن المراهقة الإبداعية والسياسية

هي ما راجت يومها في أوائل السبعينيات التي كان شعارها السياسي والأمني والعسكري (العنف الثوري المنظم)، والتي تبنتها أقوى القيادات السياسية والتنظيمية في الجبهة القومية من أجل تثبيت النظام السياسي وحماية البلاد التي نالت استقلالها الوطني حديثًا، من أية محاولات مناوئة للنظام الجديد.

في الأدب والشعر، وخاصة الشعر الشعبي، كان يقابل هذا التوجه شعر الكادحين، يتقدمهم الشاعر الشعبي علي مهدي الشنواح شاعر الكادحين.

وفي أدب الشباب الذي تولاه شباب مبدعون، تصدرهم شباب ثوري مفعم بالنظريات الواقعية، ومنها الواقعية الاشتراكية التي رأت أن الأدب انعكاس للواقع.

ومن هؤلاء الشباب، شاب مبدع تخرج من جامعة موسكو للأدب، هو محمد عبدالرحمن السروري، الذي صار اسمه (ميفع عبدالرحمن).

كان ميفع أقوى الأدباء الشباب المتحمسين لنظرية الواقعية الاشتراكية في الأدب، ومثاله الناصع كان أدب مكسيم جوركي، ذاك الأديب الذي جايل الثورة الاشتراكية في روسيا الاتحاد السوفييتي، ملهمه الأول في الأدب.

وعندما تأسست جمعية الأدباء الشباب كتجمع لأدباء واعدين من أبناء الثورة الوطنية الديمقراطية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، كان ميفع في صدارة المشهد.

أما الحادثة فهي قيام جمعية الأدباء الشباب، بإيعاز من السلطة السياسية لزيارة العمال والفلاحين في مواقع أعمالهم في المصنع والمعمل والمزرعة، حتى يستلهم الأدباء الشباب إبداعهم من عرق الكادحين!

وما حدث من تلكؤ القاص الرقيق والناعم كمال الدين محمد من النزول مع فريق الأدباء الشباب إلى إحدى مزارع منطقة سيئون في حضرموت، وبقائه في السيارة متخلفًا عن زملائه، إما لعدم اقتناع منه بالفكرة وجدواها أو لأي شيء آخر. ولكن ردة فعل ميفع عبدالرحمن، وكان أحد منظمي الرحلة، هي إرغام كمال الدين على النزول لمشاركة زملائه في التعرف على عرق الكادحين في المزرعة. عبرت هذه الحادثة عن حالة شخصية الشاب المتهور في تبني قضية (الإبداع والأدب انعكاس للواقع) وعلى الأدباء أن يأخذوا مادتهم من الواقع، وبالخصوص واقع الكادحين، العامل في المصنع والفلاح في المزرعة والجندي في الجبهة... إلخ.

هذه الحادثة التي تجاوزها بالطبع ميفع عبدالرحمن، بقدر ما عبرت عن الواقع الثوري الذي ينتصر للعمّال والفلاحين وللجندي والبدو الرُّحل وغيرهم وتعتبر ما عداهم من أبناء البرجوازية والكومبرادور، كشفت عن شخصية ميفع المراهق فكريًّا وسياسيًّا وعكسها في منظومة حياته الخاصة والعامة، وربما انعكست في بعض نصوصه الأولى المشبعة بالفكر السياسي الفج والدوغما لنظرية الأدب الواقعي، كما في مجموعته القصصية الأولى (بكارة العروس).

ولعل ميفع بسبب ذلك، ظل طوال حياته الإبداعية متميزًا عن أقرانه بمعالجة الموضوعات السياسية في نصوصه أكثر من غيره، كما أنه كان بفضل هذا التوجه في الكتابة القصصية، ارتبط بالسياسة موضوعًا وفكرًا وكتابة مع تطور أدواته الإبداعية، ولعل قصة (سوسة) مثال لذلك، حيث حركت تلك القصة الطاحونة السياسية للدولة والحزب والمجتمع.

الخلاصة: هذه المرحلة أو اللحظة تركت أثرًا أو غورًا بارزًا عن شخصية القاص ميفع عبدالرحمن، وهي الصرامة السياسية في شخصيته وإبداعه.

اللحظة الثانية: ميفع الإنسان عن قرب

في هذه اللحظة التي فصلت عما سبق ذكره حادثة وقعت في أوائل الثمانينيات عايشتها عن قرب، وكانت زيارة نظمها اتحاد الأدباء والكتاب- فرع عدن، للشاعر العربي الكبير سعدي يوسف وثلة من أدباء عدن، وعلى رأسهم الأديب الشهيد إسماعيل الشيباني- رئيس الفرع، ومن ضمن الأدباء: ميفع عبدالرحمن، وعبدالرحمن إبراهيم، وشوقي شفيق، ومحمد حسين هيثم، وكمال الدين محمد، وجنيد محمد الجنيد، ومبارك سالمين.

في هذه الرحلة، التي كانت فيها أولى تجاربي في مضغ العود الأخضر! تكشفت لي من خلال معايشة عن قرب شخصية ميفع عبدالرحمن الحقيقية، بعيدًا عن نسج الصورة النمطية عنه بأنه شخصية جلفة المعشر متوحدة المصاحبة ورسمية التعامل.

على العكس من ذلك، في هذه الصحبة مع القاص ميفع عبدالرحمن، رأيت البساطة في التعامل والنباهة والفراسة في تحديد طبيعة الشخصيات والتواضع الجم في الحديث والجدال.

كان ميفع بفراسته السيميائية التي اكتسبها في رسم الشخصيات في قصصه، قد قرأ في شخصيتي المتواضعة الخجل وعدم المبادرة بالفعل أو الجدل، وبالميل إلى الصمت وعدم التهور في التعامل أو الانخراط بين الزملاء بـ"السفاط والمناجمة"، فكان طوال الرحلة حريصًا على السؤال عني وعلى الحديث بالنصح والحكمة، وبكل تأدب التعامل والمعشر مع شخصنا الأقل هرجًا ومرجًا.

هذه اللحظة أزالت عني صورة نمطية عن القاص ميفع بأنه شخصية جادة ذات ملامح غير معبرة عن التواضع الإنساني كما نتصورها عن تلك الشخصية التي امتلكت منصبًا سياسيًّا فتصرفت بجدية ورسمية مع الآخرين.

على العكس من ذلك، تبدت لي شخصية ميفع طفولية بامتياز، سهلة المعشر وقابلة الاحتواء الإنساني، ذات فراسة في التعامل مع كل شخص بقدر تكوينه الإنساني الفطري وبمستوى نظرته للأمور والأحداث والمواقف.

شخصية كونتها طفولته التي تأسست ضمن أسرة عريقة في مدينة الشيخ عثمان، ونقصد بها عائلة السروري التي منها سياسيون كبار عرفوا بالاعتدال والتعقل في العمل السياسي والعام.

لم يغرِه منصبه في الدائرة الأيديولوجية للحزب بممارسة أي فعل ضار بأحد من زملائه الأدباء وغيرهم، بل كان وسيطًا لهم بين المبدع والسياسي.

هذه الشخصية كونتها طفولته التي تأسست ضمن أسرة عريقة في مدينة الشيخ عثمان، ونقصد بها عائلة السروري التي منها سياسيون كبار عرفوا بالاعتدال والتعقل في العمل السياسي والعام، منهم: الشهيدان عبدالباري ونور الدين قاسم؛ أعمامه، وكان أولهم أول رئيس تحرير لصحيفة 14 أكتوبر، وأخوه من أوائل محافظي عدن، واستشهدا في حادث الطائرة المشؤومة.

وما كان من شطط المراهقة السياسية وفورة الشباب الثوري إلا مرحلة عبرت بأمان، لتكشف الشخصية الصلبة لمعدن ميفع عبدالرحمن، في كشف الحقائق والأحداث والمواقف، ولكن صلابتها كان من صلابة الرفاق الثوريين الحالمين، ومن مدرسة الثورية الناضجة التي أسسها الراحل عبدالله عبدالرزاق باذيب، وسار عليها أساتذة وشباب يساريون عقلانيون، أمثال زكي وفريد بركات.

تطور ملحوظ في شخصية ميفع في هذه المرحلة، لم يخسر فيها صلابته الثورية ولم تكن هذه الصلابة إلا عنوانًا لإنسان بريء القلب والروح.

اللحظة الثالثة: انكشاف الأقنعة

وهي لحظة مؤسفة ومؤلم ذكرها، ولكنها حري بي الحديث عنها من حيث كشفها لشخصية ميفع الإنسان.

لم أتمنَّ الحديث عن هذه الحادثة، ولكن مقتضيات القراءة التاريخية للأحداث السياسية العاصفة وأثرها الإنساني على الفرد بكونه إنسانًا قبل أن يكون أي شيء آخر كسياسي أو أمني مثلًا.

وخلاصة الحادثة أن جاءتني دعوة من الزميل ميفع عبدالرحمن باعتباره من كادر الأيديولوجية بترشيحي لمرافقة الشاعر العربي الكبير علي أحمد سعيد (أدونيس) في زيارته لحضرموت.

وقبلت الدعوة، وأخذت من ميفع ما يلزم من تذاكر، وتهيأت للسفر ليلتها فجرًا، منتظرًا السيارة المخصصة لتقلني إلى المطار حيث التقى الشاعر أدونيس في مطار عدن الدولي، لنرحل معًا في رحلة داخلية إلى المكلا.

وفي منتصف الليل تمامًا، جاءت إلى البيت سيارة سوداء، وخرج منها رجل ربع شديد الصرامة، تخيلته من زوار الفجر، خاصة أننا لسنا ببعدين عن شهر يناير 1986م.

الرجل دق على باب بيتي، وكان غريبًا على أمي وإخوتي أن يأتي أحد في هذا الوقت المتأخر من الليل، وبصوته الجهوري ناداني باسمي وطلب خروجي.

فقلت للأهل: "إذا تم اعتقالي اتصلوا بهذا الرقم"، وكان رقم ميفع عبدالرحمن؛ لأنه لم يكن لدي شخص ذو نفوذ إلا هو.

خرجت إلى الباب، وهنالك طلب مني الشخص أن أزوده بتذاكر السفر وكل الوثائق؛ لأن عنده أمر من جهات عليا بأخذها.

استأذنته بالاتصال بالشخص الذي زودني بما يطلب، وسميته له باسم ميفع عبدالرحمن، فوافق وذهبت إلى بيت جاري لأتصل من هناك بميفع وأطلعته بالأمر، وسؤالي له هل أسلمه ما طلب.

قاطعني ميفع بصرامته المعهودة، وفي هلع: "أعطه ما يريد، وتعال غدًا إلى المكتب لنرى الأمر".

وقلت له: "يعني الرحلة التغت؟".

قال: "الرحلة اليوم صباحًا، وأكيد رتبوا غيرك".

وفهمت من كلامه أن وراء زوار الليل أمر ما، لا يريد ميفع أن يفصح عنه.

سلمت التذاكر والوثائق للشخص، وأعطاني ظهره مسرعًا إلى السيارة السوداء.

وعند وصولي البيت، سمعت أمي وهي تحمد وتشكر الله على عودتي سالمًا، وإخوتي تكأكَؤُوا حولي يسألونني ماذا حدث.

قلت بحيرة ودهشة: "رجعوا الملابس إلى الخزانة، ما فيش رحلة".

قالت أمي: "بستين داهية الرحلة وأبو الرحلة".

لم أنَم يومها، وذهبت إلى مكتب الدائرة الأيديولوجية حيث يعمل هناك ميفع.

ودون أن ينتظر مني سؤالًا، قال:

الشاعر فلان بلغ عنك عند الأستاذ سالم صالح- رئيس الدائرة الأيديولوجية، بأن الذي رشحه ميفع من شلة أحمد سالم الحنكي، وأنه إذا ذهب مع الشاعر أدونيس فسوف يشوه سمعة البلاد لدى الشاعر العربي الكبير، وينقل صورة سياسية معادية.

وواصل: "وعلى ضوء هذه الشكوى جاء إليك في منتصف الليل زائر الفجر لمنع هذه الكارثة السياسية التي ستحل بالبلاد!"، يقولها ميفع متهكمًا.

وأعطاني ميفع ابتسامته الضنينة المعبرة عن استهزاء بالموقف الذي حدث!

طبعًا، كل هذه الأحداث حصلت في أحد أشهر سنة 1986م، حيث محاكمة الزمرة جارية وتبث من تلفزيون عدن واسم الشهيد الحنكي يتكرر في المحكمة، وأحمد سالم كان مديرًا عامًّا لدار الهمداني للتأليف والطباعة والنشر، وكنت من كوادر هذه المؤسسة.

الخلاصة من هذه الحادثة:

أوضحت هذه الحادثة كم كان ميفع عبدالرحمن كأخ وصديق وزميل إبداع لم ينسج نظرية مؤامرة حول العبد لله ويدخله في زمرة المتهمين في محاكمة الزمرة وإن كان من خارجها، ولم يطرأ على باله أن شاعرًا وأديبًا مثلي أن يشوه سمعة البلاد أو ينقل صورة معادية عنها بحكم اشتغاله مع المتهم، غيابيًّا أو موتًا، أحمد سالم الحنكي الذي كان يدير دار الهمداني، والعبد لله أحد الكوادر الإبداعية والثقافية.

بل كان ميفع المبدع والإنسان على العكس من ذلك: نبيلًا في اختيار الشخص لمجرد أنه شاعر، وفي الزمان الذي يمكن لأي أحد أن يستغلها كما فعل المبلغ والهمام، ومرافقة شخصية أدبية كبيرة كأدونيس دون أن يتحرك في عقله أو قلبه نبضة شك في هذا الشاعر أنه سيكون معاديًا.

كل ما في الأمر، ما دار في خلد المبدع والإنسان ميفع أن يقدم لزميله الشاعر خدمة إبداعية دون اعتبارات سياسية وأمنية.

وعلى عكسه، تحركت المشاعر الأمنية لدى الشاعر المبلغ، فانعدمت فيه المشاعر الإنسانية والإبداعية، وحرك سلاحف وشايته التي قد تكون قاتلة في وقت لم تجف فيه الدماء القتيلة والدماء الفوارة التي راح ضحيتها الشهداء زكي بركات، وإسماعيل شيباني وعبدالرحمن بلجون... وربنا ستر!

لم يكن ميفع من أولئك الماكرين المداهنين ومن ذباب الوشاية في زمن العسرة.

كان إنسانًا نقيًّا، ومبدعًا أصيلًا ورجلًا حكيمًا، انتصر للإبداعي على حساب السياسي.

فانتصر فيه أخلاق الرجال وأخلاقيات المبدعين.

هذه خلاصة لثلاث حالات أو أحداث أظهرت ميفع عبدالرحمن، الإنسان الذي تخرجه من دائرة الصورة النمطية المشوهة عنه.

ميفع عبدالرحمن واحد من الكوادر المثقفة التي مزجت بين العمل السياسي والنشاط الأدبي والإبداعي.

ميفع.. بين السياسي والإبداعي

لا شك أن ميفع عبدالرحمن كان واحدًا من كوادر الحزب الاشتراكي اليمني، المثقفين، لم يكن سياسيًّا صرفًا مثل رئيسه في الدائرة الأيديولوجية المؤرخ والأديب د. سالم عمر بكير، لكنه مثل عدد من الكوادر المثقفة التي كانت على قرب من صناعة السياسة من خلال الدائرة الأيديولوجية إحدى الدوائر المرتبطة بالإشراف على المؤسسات والجهات الثقافية والإعلامية رقابة وإشرافًا وصناعة قرارات.

ومن هنا يمكن القول إن ميفع عبدالرحمن واحد من الكوادر المثقفة التي مزجت بين العمل السياسي والنشاط الأدبي والإبداعي.

فهل كان في شخصيته غلبة السياسي على الثقافي؟ وهو ما يقع فيه العديد من المبدعين الذين ما أن يصلوا إلى موقع سياسي يطلق الإبداع والأدب ويشغله الكرسي السياسي الذي يمنحه سلطة ما على الآخرين، وفي مقدمتهم على المبدعين أنفسهم، فيكون على هذا النحو أما سيفًا على رقاب الإبداع والمبدعين أو على العكس وسيطَ خيرٍ لهم عند صاحب القرار.

أما عن ميفع منذ أن اشتغل في الدائرة الأيديولوجية، فإنني أعتقد أنه وجد مساحة لعكس الرؤية السياسية والتوجه السياسي للسلطة وقدم بكل شفافية وبعقلانية وصرامة الرفيق المناضل على كل جهة ثقافية وأدبية وفنية انخرط في نشاطها دون أن يجعل من نفسه سلطة مسلطة عليها.

بمعنى أنه قدم نفسه في اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين ومؤتمراته المركزية أو الفرعية في عدن باعتباره الكاتب الإبداعي ومنتميًا للنخبة الأدبية بعيدًا عن استخدام سطوة الرجل السياسي إلا مع اتخاذه الموقف السياسي مترافقًا مع الموقف الذي ينتمي إليه ويمثله مع تغليب الجماعة الأدبية على الجماعة السياسية.

كثيرًا ما بدا ميفع في مؤتمرات ونشاطات الاتحاد وفي غيرها من أشكال العمل الثقافي، أقرب إلى خلق التوازنات (السياسية) في اتخاذ المواقف، وعلى خلق نقطة وسط للالتقاء بالآخر من خلال نقاشات وجدالات ولقاءات أساسية وجانبية.

ولذلك فإن ميفع ضرب مثلًا في عدم تجاوز السياسي الذي بداخله، على الثقافي والإبداعي الذي يضعه مقدمًا على أي موقف سياسي يتوافق أو يتعارض مع فريق آخر.

ولذلك كثيرًا ما بدا ميفع في مؤتمرات ونشاطات الاتحاد وفي غيرها من أشكال العمل الثقافي، أقرب إلى خلق التوازنات (السياسية) في اتخاذ المواقف، وعلى خلق نقطة وسط للالتقاء بالآخر من خلال نقاشات وجدالات ولقاءات أساسية وجانبية.

كل ذلك كان يعبر عن شخصية ميفع الذي يحمل الكثير من المسؤولية الأخلاقية والمهنية، وهو يعبر عن وجهات نظره السياسية والاصطفافات التي قد تطرأ هنا أو هناك، ويمنح لنفسه مساحة لأن يضع موقفه الذي يتبناه من دون أن يمارس سلطة سياسية ترعى هذا الموقف.

هذا من ناحية المواقف والنشاط والممارسة العملية، فماذا عن تجلي الرؤية السياسية في إبداعه القصصي؟

لا غرو أن ميفع القاص هو الأديب الأقرب من بين أقرانه الكتّاب الآخرين، الذي جعل من الرسالة أو المبتغى السياسي والاجتماعي هدفًا لعدد من قصصه ضمن معالجات وحبكات فنية من دون أن يقع في السطحية أو الفجاجة، وهو هنا يكون الأقرب إلى معالجة بعض القضايا السياسية والاجتماعية الذي يتجرأ في طرحها من خلال هذه النصوص، ولكن طروحاته هذه تأتي من رحم الكتابة الإبداعية.

أما عن مقالاته العامة وغير الأدبية فإن شخصية الرجل ذي الموقف الصلب غير المتردد، تظهر بكل جلاء دون مواربة أو تهرب عن الدخول في دهاليزها، فهو هنا يظهر القلم البتار الناقد الذي لا يخاف لومة لائم، وينقد بلغة تمزج بين البلاغة الأدبية والموقف الشخصي والعام الصارم، ويتجرد من أي اصطناع للتلون الذي دائمًا ما تصاحب كتابات المبدعين في قضايا الشأن العام ويهربون إلى الجمل الإنشائية والصور الجمالية المفرغة المعنى.

ومثال على ذلك، ما كتبه ميفع عبدالرحمن في مقالته بصحيفة (النداء) [في العام 2005 بعد المؤتمر العام التاسع للاتحاد]، تحت عنوان: (الحقيقة الكبرى لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. واقع الفساد المهيمن)، عن فساد اتحاد الأدباء والكتّاب، وتسلط رئيس الدولة في اصطناع أمين عام من أبناء المؤسسة الرئاسية ليفرضه بالقوة السلطوية على رؤوس الأشهاد، وإلى ما جرى من تقاسم سلطة داخل أعلى هيئات الاتحاد، وكثير من المواقف السلطوية المخزية التي طرحها بسن القلم الحاد لا بكشاطة أو ممحاة المترددين والمبلبلين والمرتدين رداء السلطة والمادين يد السحت من الزعيم الذي استولى على الاتحاد.

إذن، نستخلص من ذلك أن ميفع المبدع لم يتخلف عن قناعاته الأدبية وخياراته السياسية في مواقفه وفي كتاباته، ولم يكن يومًا من أولئك السلطويين الذين جعلوا من مراكزهم في الدولة والسلطة سيفًا على زملائهم المبدعين، بل كان يمارس عمله الحزبي والسياسي بأخلاقيات الرفيق المناضل لا بسوءات السياسي المتسلط.

لم نعرف ميفع إلا وسطيًّا في خياراته، وإنسانيًّا في معاملاته، ومتواضعًا وبسيطًا في حياته اليومية في عز أيام الحزب -وشاهده ما قلته في الفقرات الأولى- وصلبًا منافحًا في أرذل أيام (الوحدة).

الأيام الخيرة لميفع

وفي أيامه الأخيرة، رأيت شبح ميفع عبدالرحمن الذي كان يخلق هيبة من مواقفه، وامتنانًا من تواضعه، وإنسانًا وديعًا من مواقفه، وأديبًا فريدًا من كتاباته.

قتلته الظروف وأهمله الرفاق، ولم يلتفت إليه الأدباء، مات فقيرًا إلى حد العوز بصمت وكبرياء المبدع الحر، ولم يكن يشكو أو يسمح لأي توسط لمعرفة حاله المزري.

مات وفوق رأسه بوم وزارة الإعلام، الذي اكتفى بالتصوير أمام المريض المتهالك في غرفة الإنعاش بمستشفى عدن الألماني في عدن، وهذا نذير الشؤم تركه يموت وهو يضحك في الصورة المنشورة على القنوات والمواقع.

مات ميفع عبدالرحمن كما يموت العظماء تولستوي وموزارت، ولم يمشِ وراء جنازته أحد من الرفاق.

غاب عن المشهد الأدبي والحياتي.

ولا أنسى أنّ لي معه أنقى الصنائع، وأنصع الذكريات وأجل المواقف الإنسانية، لا بد لي أن أنقلها لأولئك الذين بهم صمم ليختشوا، وللأجيال ليفتخروا ويقتدوا.

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English