مياسم السنين الخمسين وأحافيرها التي تستعاد بالتذكر

استدراكات الوقت بخطواته العجولة
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 7, 2022

مياسم السنين الخمسين وأحافيرها التي تستعاد بالتذكر

استدراكات الوقت بخطواته العجولة
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 7, 2022
Photo by: Hamza Mustafa - © Khuyut

(1) جمعة رجب الأولى ونبوءة الدرويش 

كانت والدتي تتباهى دائمًا بأني من مواليد أول جمعة في رجب، وهذه الجمعة يتبارك بها اليمنيون حتى الآن ويمارسون فيها طقوسًا عجيبة، مثل ذهاب الكثير من الناس للصلاة في جامع الجند على أطراف مدينة تعز في هذه الجمعة التي تتحول إلى كرنفال من الفرح في محيط الجامع، وفي تهامة تكون يومًا من أيام البهجة التي يتسامرون ليلتها ويقرؤون الموالد الصوفية والمدائح على روائح الفل والكاذي، وفي صنعاء ومحيطها كان يمارس أرباب العوائل طقوسًا أقرب للأعياد، مثل لبس الجديد وتوزيع لحوم الذبائح وزيارات الأقارب و"عسب" الأطفال والنساء.

قبل خمسين عامًا، مرّ درويش بقريتنا بجرابه وطبلته وبكتاب قديم يحمله بيد تتناوب مع الأخرى حملَ عصا بفصوص لامعة، وحين افترش تحت ظل جدار لبيت قديم، تقاطرت النساء إليه لقراءة "بختهن"، وحينما وصلت أمي ممسكة بيدي إلى عنده، فتح كتابه وكان يقرأ أشياء تشبه الأدعية، ثم سألها عن اسمي واسمها واسم والدي وتوقيت مولدي، وحين عرف أنّي من مواليد أول جمع رجب ارتعش جسده بجذبة خفيفة، ثم أزال كوفية مشغولة بخيوط ملونة من على رأسي الحليق ووضع يده الساخنة والخشنة على جمجمتي الصغيرة، وبدأ يتمتم. ثم التفت إليها وقال: "إن ولدك الوحيد ستختطفه جنية المدن منك قبل أن تشبعي منه".     

(2) معزة هندية كادت تُفقدني عيني اليسرى 

كانت والدتي تروي لي أنّ معزة هندية فتيّة أرسلها والدي من عدن في العام 1968، بعد مولدي بعامين، مع مجموعة من معز لميسورين من القرى المجاورة، وكانت بضروع كبيرة وقرون لولبية وشعر بني كثيف، وأرادها أن تكون مصدرًا إضافيًّا لإمدادي بالحليب، وكانت حديث القرية ويدعونها بهندية عبدالوهاب. وحتى اليوم أحتفظ تحت عيني اليسرى بأثر لجرح قديم، تسبّبَت به لي حينما كنت في الرابعة من العمر؛ وقالت أمي وهي تروي لي الحكاية، إني ذات ظهيرة صعدت على ظهر المعزة وهي نائمة تستظل بجدار السقيفة في بيتنا القديم، ففزَّت ورمت بي، وإن أحد قرنيها اللولبيين انغرز أسفل عيني بقليل، وكنت بسبب ذلك معرضًا لفقد عيني، وبعد هذه الحادثة استبدلتها أمي برأسين من الأغنام البلدية الأكثر هدوءًا والأقل إدرارًا للحليب. وصرت كلما أرى معزة من ذات السلالة في تعز أو عدن أو لحج أتحسس تحت عيني، وإن إطلاقهن في الشوارع بتلك الكثافة ربما لعدم خوف ملاكهن من التعدي عليهن بسبب قوة الطباع والتوحش التي تمتلكها هذه السوائم.

(3) الملفوظات العدنيَّة الجديدة في بيت العامل 

كان لنا جار محبوب صاحب حضور خاص في القرية ومعمل لإنتاج النكتة، كان منشد موالد في رمضان وبائع قات، وله ديوان صغير وضيق كان معروفًا بـ(صَبْل العامل) كان أشبه بمنتدى، يأتي إليه الناس من قرى مختلفة، خصوصًا في ليالي رمضان؛ عاد مع أسرته من عدن أوائل السبعينيات، بدأت أسمع أسماء جديدة للأشياء، مثل: التوال (المنشفة)، الأكواش (الشنابل)، الليدة (البنت)، عمو (عم).

بعد أيام قليلة أمسكتني أمي وذهبت بي إلى مسكن الأسرة التي جاء ولدها مع زوجته من المدينة، والذي لم يكن بعيدًا عن مسكننا، وأوصلتني إلى الضيفة حتى تنظف لي جرحًا غائرًا في الركبة اليمنى أصبت به بعد سقوطي على حجر حاد في الوادي، وكانت القرية قد عرفت أن الوافدة تعمل دكتورة في المدينة.

بدأت ترتسم بذهني الصغير صورةٌ محببة عن عدن، بما ترويه العمة فاطمة وأولادها عن الشوارع النظيفة والوسيعة والسلع والمأكولات والملابس، وكيف أن صومالية سمينة كانت ستأخذ مولودها من "الهيسبتل"، وكيف أنّ أخاها المناضل في جبهة التحرير ترك عدن واستقر في مدينة تعز مع أسرته– الأسرة المميزة التي سأتعرف عليها بواسطة ابن جارنا بعد ذلك بسنوات، في تعز.

 في مسكن أسرة العامل سآكل أول مرة (المحلبيَّة) سائلة وحامية، والعطرية المغموسة بالزيت والهيل الأخضر، والشاي الساخن المشبَّع بالحليب، الذي لا يتقطر من ضروع البقر والأغنام، وإنما من عُلب صغيرة عليها رسوم لمراوح عملاقة، وأبقار ملونة ومروج شاسعة.

(4) عن زهرة غزيرة "السلى"

كنا نلعب في سائلة القرية الجافة (الوادي) في عصر أحد الأيام، وفجأة سمعنا هدير محرك سيارة قوي قادم من أسفل المجرى، فاندهشنا كثيرًا؛ لأننا كنّا غير معتادين وقتها على سماع هذه المحركات بسبب عزلة المنطقة غير المربوطة بالطريق العمومي الذي يربط مدينة (تعز) بمدينة (التربة)؛ وبالتالي لا تصلها السيارات القوية إلَّا بمشقة، وبالنادر جدًّا؛ وما كنا نسمعه بأوقات متباعدة صوت حراثة حمراء مستجلبة من خارج القرية لتقليب تربة الأحوال (الحقول) قبل موسم البذار والحصاد، وكنا نطاردها من مكان لآخر لمشاهدة عجلاتها الخلفية العملاقة، وهي تترك أثرًا نقشيًّا متداخلًا على التراب الناعم، ومحراثها الذي يذهب عميقًا في الطين الجاف. 

تركنا لعبنا وركضنا باتجاه الصوت القوي، فوجدنا أمامنا سيارة كابية عتيقة تتغطى كبينتها الأمامية بطربال قوي، وينفتح حوضها الخلفي على السماء. في الكابينة كان السائق بملابسه العصرية (جاكيت جينز حائل يغطي تيشرت مموه على بنطلون من ذات الفصيلة واللون، وجزمة بنية سميكة وكاب). فمه كان محشوًّا بالقات، يكابد حتى يتحايل على الصخور للمرور بينها للوصول بالسيارة إلى أسفل القرية. 

وإلى جوار السائق، كانت تجلس امرأة بشرشف أسود (قطعتان من الملابس السوداء؛ الأولى تغطي ملابس الجزء الأعلى من الجسد، والثانية لتغطية أجزاء ما تحت الخصر إلى القدمين) ومقرمة (طرحة) سوداء شفافة تغطي الوجه ولا تمنع من معرفة تفاصيله. توقفت السيارة على بعد أمتار من عقبة صغيرة أسفل القرية، فترجل السائق ثم تبعته المرأة، التي أخرجت بعدها طفلين صغيرين، أحدهما كان نائمًا إلى جوارها.

لم نكن نعرف هُوية الرجل إلّا حينما هبطت أخته الظريفة العقبة مسرعة، وعلى لسانها عبارات الترحيب ودعوات السلامة، وتتبعها والدتها بخطوات أهدأ. بعد السلام حملت الأخت، وبمساعدة بعض الأولاد، الأغراضَ القليلة التي كانت موضوعة في حوض السيارة، وحملت أمها الطفل المستيقظ بعد أن رفض الاستجابة لها أول الأمر. أما الزوجة فقد حملت طفلها النائم، وكان يبدو على مشيتها أثر الإرهاق الشديد. قبل أن نعود للعبنا، بقينا نحوم حول السيارة ونكتشف تفاصيلها لبعض الوقت، وكنت أستعرض أمامهم خبراتي من معرفتي بالسيارات التي اكتسبتها من رحلتي القصيرة إلى عدن قبل ذلك بعام.

بعد أيام قليلة، أمسكتني أمي وذهبت بي إلى مسكن الأسرة التي جاء ولدها مع زوجته من المدينة، والذي لم يكن بعيدًا عن مسكننا، وأوصلتني إلى الضيفة حتى تنظف لي جرحًا غائرًا في الركبة اليمنى أصبت به بعد سقوطي على حجر حادّ في الوادي، وكانت القرية قد عرفت أن الوافدة تعمل دكتورة في المدينة (اتضح لاحقًا أنها كانت صحيّة بسيطة).

استقبلتنا ببشاشة، بجثتها القصيرة القمحية الممتلئة، وبفمها الواسع الذي يتغطى بأسنان مكتملة سوداء. وبعد قليل من الأسئلة والنصائح أخرجت من حقيبتها الجلدية بعض المطهرات والشاش والقطن وكبسولات طبية صغيرة بلونين أصفر وأحمر (مضاد حيوي) كنا نسميه (سُمّ الجراح)، ثم بدأت بالتنظيف وأنا أصرخ من شدة الألم.

كنت أتردد عليها كل يومين حتى شفي جرح ركبتي، وكان يشدني إليها شجوها وسلوها، إذ كانت دائمة الضحك والغناء واللطف. ملابسها بسيطة (زِنِنْ تعزية مزركشة إلى أسفل الركبة، وتحتها سراويل من ألوان فاتحة وواسعة تنتهي بثنيات مطرزة أسفل الساق)، وتنتعل شبشبًا بلاستيكيًّا بكعب صغير تتغطى مقدمته بوردة من ذات اللون.

بعد شهرين من مكوثها في القرية، حولت فناءً صغيرًا خلف البيت القديم إلى حديقة منزلية جذابة، زرعت فيه النعناع والفلفل الأخضر (البسباس) والطماطم والريحان (الحبق)، والأهم أنها رمت بينها بالقليل من بذور عباد الشمس، التي حينما نمت كانت زهراتها الصفراء العريضة تتعقب شمس الصيف في شروقها وغروبها ونحن في انبهار.

بعد سنوات قليلة، وأنا خارج من مدرسة الثورة القديمة سمعت من يناديني باسمي، فالتفت في زحمة الطلاب، فرأيتها بذات الهيئة التي وصلت بها القرية أول مرة. كانت واقفة تنتظر والدها المدرس المُسنّ اللطيف ذا اللحية البيضاء الكثة، والذي كان يعطي الطلاب دروس الدين والقرآن، لإعادته إلى البيت القريب في وادي المدام، فعرفت ساعتها لماذا هي بكل هذا اللطف ولماذا هي غزيرة "السلى".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English