قراءة استعادية

(حرمة) للمقري: الوعي النوعي والمسكوت عنه
د. حاتم الصكر
September 19, 2022

قراءة استعادية

(حرمة) للمقري: الوعي النوعي والمسكوت عنه
د. حاتم الصكر
September 19, 2022

كان اختيار الشاعر والروائي علي المقري، مفردة (حُرمة) عنوانًا لروايته، تلخيصًا ذكيًّا لرؤيةٍ بلورتْها روايتاه السابقتان (طعم أسود.. رائحة سوداء)، و(اليهودي الحالي)، وتتركز في اتخاذ المهمّشين مركزًا للعمل، لما ينطوون عليه من جاذبية متعددة الأسباب للكاتب والسرد وللقرّاء. ففي عمله الأول (طعم أسود.. رائحة سوداء) 2008، يقترب بشدة من حياة شريحة مهملة على هامش المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهم الملونون و(الأخدام) بالتعبير الدارج طبقيًّا في اليمن، ويدخل في واحد من تجمعاتهم السكنية المقصاة في مدينة تعز، والمعروف بالمحوى. ويضمّ عششًا تمثّل بيوتًا لهؤلاء البشر الذين يعملون في مهن متدنية حسب التراتب الاجتماعي في توزيع العمل، وكذلك الحرمان من التعليم. ويجد حلًّا بلقاء شخص من فئة أخرى، من مهمشين ليس بسبب البشرة السوداء، بل بتصنيف المهنة. وهم المَزاينة (الحلاقون). وهكذا يقارب المقري هموم شريحتين في آن واحد. كما يتخذ من أحد الشخصيات المتنور سياسيًّا بسب اعتقاله شاهدًا على أحداث كثيرة وتحولات في تاريخ اليمن المعاصر، لا يبتعد كثيرًا عن مصائر الأخدام وعذاباتهم في الحياة، رغم ما يتخللها من قصص حب، وتعاضد بينهم لا يدرأ كثيرًا من مآسيهم. ويعود في روايته الثانية (اليهودي الحالي) 2009، ليعرض إشكالية أخرى هي إمكان التعايش الديني، ممثّلًا لها بقصة حب بين شاب يهودي يمني وفتاة مسلمة جارة له، ورغم أنّ أحداثها تدور في القرن الثامن عشر، استطاع المقري أن يكشف ما في الوعي المضمر حول التعايش المفقود، حيث لا يستطيع المحبان أن يعيشا بين أهلهما، ففرّا ليواجها الحياة بصعوبة وبلعنة تتعقب الجيل الثاني والثالث من أبنائهما وتنتهي الرواية رمزيًّا برفض دفن كلٍّ من العاشقَين في مقبرة غسلامية أو يهودية، لأنّ الطرفين يرفضان تلك العلاقة.

وتتواصل سلسلة المهمشين الذين انتشلهم المقري ببراعة، من قاع الحياة والقصّ ليتصدروا الوقائع والرؤى، فتتوقف هذه المرة روايته (حرمة) 2012، عند المرأة وحدها لتستأثر بالعمل، بعد أن كانت واحدة من عديد عناصره وموضوعاته وشخوصه في أعماله السابقة. ويتقرر اختيارها ومصيرها عبر الرجل المهيمن اجتماعيًّا. لكنها تتقاسم مع الأخدام في عششهم والعشاق المرفوضين من ديانتين في روايتيته السابقتين ثيمة التهميش الدائم والطويل، وهو ما رصده علي المقري ببراعة بدءًا من العنوان. حيث تكتنز مفردة (حرمة) خزينًا دلاليًّا، يتكون بفعل تداولها في مواضع كثيرة، لا تخرج عن إطار المهانة والتهميش. فهي المفردة التي تُنادَى بها المرأة أو توصف تقليلًا من شأنها وتصنيفًا لها في مرتبة دونية، تسمح بأن نعدها مهمشة كما قرأها المقري، وتمثّلَ وضعها بفنية خاصة، اكتسبت قوتها من مزايا كثيرة تفرّد بها المقري بين زملائه، ومن أهمها عمله الحِرَفي على الرواية، كونه يفهم الرواية الجديدة كما يتطلب خطابها من أدوات يشتغل عليها بصبر في المشغل أو المختبر السردي. فهو يوثق الأحداث ويعايش مفرداتها بالقراءة ومراجعة المصادر والوثائق (اليهود في المجتمع اليمني في الماضي)، والمعايشة الواقعية عن قرب كما في روايته عن الأخدام التي استقى خطوطها وتفاصيلها من معايشة مطولة للأشخاص والأسر والأمكنة.

يعرض المقري في رواية (حُرمة) الكثير من طقوس المجتمع، لا سيما في الجلسات النسوية الخاصة  أو المقايل –أماكن تناول القات– وعادات الزواج والطلاق وطراز الألبسة المُخْفِية لوجه المرأة وجسدها، وكثير من المحليات اللهجية في التسميات والحوار.

في (حرمة) يدع المقري النساء يستولين على مهمة السرد. فهنّ الراويات الضمنيات المسهمات في الحدث واللواتي يعانين الجور، وتلاحقهن مفردة الحريم وحرمة. وهو ما يعكس نظرة المجتمع للمرأة، ويكشف خطابه المتّسم بالإقصاء بصدد مكانتها ودورها الاجتماعي، فهي شيء محرّم، يبدأ منها وبها التحريم. فلا تمس بسوء أو اعتداء، لأن ذلك يمثل مسًّا بالجماعة. وهو موقف ينطوي على ظاهرة مرَضية. حيث تنفصم النظرة للمرأة بين عدّها حرمة مهملة وتابعة، وبين عدّها شيئًا مقدّسًا لا يجوز المسّ به، والتجاوز عليه يعني إهانة الجماعة وشرفها.

عبر الحرمة تتعين سلسلة الرحم –المقلوب لغويًّا عن حرمة- وتضح أهمية ومكانة القرابات، فتبتعد أو تقترب الشخصيات وفق صلتها بالمرأة لكن دون حقوق عادلة لها هي نفسها. كما أنها واقعة تحت فعل التحريم؛ إذ ثمة ممنوعات ومحورات عليها اجتنابها، كالفعل والمبادرة وإعلان الرغبة واختيار الزوج أو المستقبل. وجزء من مقدس أو حرام يذبّ عنه المهينون أنفسهم عندما يتعلق الأمر باختياراتها. لكن سرد المقري يجعلها متنًا وفاعلًا سرديًّا ودلاليًّا يهبه لشخصياته، كتعويض عن نقص أو انعدام ذلك في الواقع دومًا، لا سيما وهو ما يقدمه في رواياته كلها حيث تقوم الهوامش بانتفاضات ذاتية لتصليح وضعها تنتهي كلها بالفشل، رغم مبادرتها وجرأتها، فتختلط المقدرة الممكنة للشخصية كما يرسمها الكاتب، وحلمه بامرأة تكون لها مبادرة وفعل نساء رواياته التي يحرص أن يعرض فيها كثيرًا ممّا في المجتمع من زيف وتناقض، ويكشف رياء مدَّعِي التدين وهم يُخفون وراء أقنعتهم نفوسًا شريرة جاهلة. ويستغرق في البوح بالمسكوت عنه وما تتواطأ الجماعة على إخفائه، بدءًا من الخلية الاجتماعية الأولى (=الأسرة) التي تهتم بتغطية وحجب وجوه وأجساد بناتها، لكنها لا تهتم برغباتها وتربيتها حتى داخل المدرسة من بعد حيث تتبادل الطالبات ما يسمينه الأفلام الثقافية، كناية عن أفلام الجنس أو الأشرطة المسجلة المتضمنة أصواتًا لممارسات جنسية فاضحة. وبذا يتوافق غرضه وقصده مع المبنى الروائي. تتناوب الساردة مع أختها النقيض لها مهمة السرد لتعلن ما يعد محظورًا اجتماعيًّا، ولكن من خلالها هي فقد عادت لأغنية أم كلثوم (سلوا قلبي) التي أهداها إياها رجلٌ أحبته ولم تستمع لها إلا بعد طلاقها من زوجها وعودتها لبيت الأسرة، فتتزامن تداعياتها واستذكاراتها لماضيها وعبر أبيات أحمد شوقي بصوت أم كلثوم، وتكتشف أنّ القصيدة التي استمتعت لها مؤخرًا وليس في وقت إهدائها ليس فيها ما ظنته يمنع سماعها.

أمّا أختها فتحضر عبر شخصيتها المميزة المتسمة بالجرأة والمجسدة عبر أفعال السرد التي تقوم بها منذ صغرها وسلوكها المتحرر أيام الدراسة ثم عملها موظفة وتعرضها للتحرش الجنسي حتى انخراطها في تلبية رغبات مديرها الذي تعمل سكرتيرة له، وصمت الأسرة إزاء غيابها الطويل وأسفارها مع المدير؛ لأنها تغدق عليهم الأموال، ما يجعلهم راضين بتصرفاتها. وستكشف المذكرات الصريحة التي تعثر عليها الساردة في أشرطة كاسيت مزيدًا من مغامراتها في أسفارها أو حفلاتها الصاخبة في العمل ومع الصديقات، وتستمع لها لتتابع ما تفعله أختها بحريتها التي انتزعتها من العائلة ومضت فيها حتى نهايتها. والتي ختمتها بما يشبه الانتحار والموت، لأنها اختارت التصادم الذي لم يتح لها السرد أن تنتصر فيه حتى بحيلٍ كثيرة لتحقيق رغباتها كادعاء العمل الطويل ليلًا أو السفر في مهمات عمل، فتودي بها إحداها حين تستقبل أحد عشاقها متنكرًا بزي امرأة في بيت الأسرة، لتنتهي معزولة ومهجورة. تدعها الساردة تحتل مساحة السرد لتنسحب هي ممهدة لتحولات تفاجئ القارئ، وتزيد من فانتازيا الوضع الاجتماعي. فالفتاة التي تستمع الآن وهي في الخامسة والعشرين لقصيدة أحمد شوقي (سلوا قلبي..) بصوت أم كثوم كما تستمع فحسب لمذكرات أختها، تجعل من الأبيات وقفات تنبهها لما حصل لها ولعائلتها تحت مسمى واحد يستخلصه القارئ، وهو التحول الحادّ الذي صار سمةً للرواية الحديثة؛ لأنه يطابق أمنيات الكاتب غالبًا وينجز فعلًا ورقيًّا لمقاومة الواقع، يلعب فيه الخيال دورًا واضحًا، فيرد السؤال عن إمكان وجود ما يحدث، أو تصور حدوث ما يوجد في العمل المكتظ بالأمكنة والأحداث التي تتابع سريعة عبر استرجاعات الذاكرة، يتزوج الساردة شيخٌ يستعيض عن عجزه الجنسي بالجهاد، ويورط الساردة في أسفار عسيرة بهدف الوصول إلى أفغانستان؛ فتنكشف خليتها ومعها زوجات المجاهدين لتنتهي سجينة ومهجّرة تعود لأسرتها لتجد الجميع قد تحولوا: الأخ الماركسي، والأخت المتحررة، والحبيب الذي تظل منه نداءات أم كلثوم، وسؤال شوقي عن القلب الذي سلا وتاب. 

ويعرض المقري الكثير من طقوس المجتمع، لا سيما في الجلسات النسوية الخاصة أو المقايل –أماكن تناول القات– وعادات الزواج والطلاق وطراز الألبسة المُخفِية لوجه المرأة وجسدها، وكثير من المحليات اللهجية في التسميات والحوار.

لقد صنع المقري إيقاعًا شيقًا عبر التوازي بين التذكرات والقصيدة. فزادت عذوبة السرد لغة وحوارًا وتداعيات، رغم عنف وقائعه ومصائر شخصياته الحزينة والمتسمة بالخيبة وفقدان الحرية حيثما توجهت وأي طريق اتخذت، لأنها مدانة ومحكومة من الجماعة بذلك المصير. لذا كان ختام الرواية بليغًا حين عاد الكاتب التذكير بلفظة (حرمة). وتصرخ الساردة، في هياج لغوي يوافق ما بداخلها وما آلت إليه بعد فقدانها كل شيء حتى رحمها، بأنها ليست سوى حرمة!

•••
د. حاتم الصكر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English