سلطة صنعاء وضياع بوصلة الاقتصاد

تدمير منظم واستهداف للقطاع الخاص والبنوك
د. مطهر العباسي
June 11, 2023

سلطة صنعاء وضياع بوصلة الاقتصاد

تدمير منظم واستهداف للقطاع الخاص والبنوك
د. مطهر العباسي
June 11, 2023
الصورة ل: شهدي الصزفي - خيوط

من الحقائق الثابتة، أنّ الحرب لم تدمر البنية التحتية من كهرباء وطرقات وجسور ومرافق عامة وخاصة فحسب، بل حطمت البنية الهيكلية للاقتصاد الوطني من توقف عجلة الإنتاج، كليًّا في قطاعات النفط والغاز والسياحة، وجزئيًّا في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الأخرى، وصاحب ذلك تعميق التشطير الاقتصادي بين مناطق سلطتي صنعاء وعدن، والذي قد يؤسس لتقسيم وتشرذم الوطن الواحد والموحد.

وممّا يزيد من خطورة الوضع، الغياب التام للرؤية "البوصلة" لدى السلطتين حول كيفية التعامل مع الوضع الاقتصادي الراهن والمستقبلي بما يتضمنه من سياسات وتشريعات وبرامج وإجراءات تحافظ على ما تبقى من الكيان الاقتصادي القائم، وتؤسس لمرحلة ما بعد الحرب من التعافي وإعادة الإعمار، وتبدو الصورة أكثر وضوحًا عند قراءة ما يجري في مناطق سلطة صنعاء من ضبابية وارتباك وممارسات تشير إلى ضياع بوصلة الاقتصاد، بل تؤكّد الهدم لِمَا تبقّى من البنيان الاقتصادي المحطم، ويمكن تتبع ذلك في أكثر من جانب.

الميزانية العامة جبايات

من المسلمات الاقتصادية، أنّ الميزانية العامة تمثل صيغة عقد اقتصادي واجتماعي بين الحكومة من جانب، ودافعي الضرائب (الأفراد، الشركات ...إلخ) من جانب آخر، وبموجبه تتكفل الحكومة بتحصيل الضرائب والجمارك والموارد السيادية الأخرى، مقابل قيامها بالإنفاق على مرتبات موظفي الدولة ونفقات التشغيل والإعانات ومشاريع التنمية. ووفقًا للدستور، يُقر الميزانية مجلس النواب المنتخب من الشعب، وتُصدر بقانون يُلزم الحكومة بإدارة أبواب الميزانية وبنودها وفقًا لمبادئ الشفافية والمساءلة والمسؤولية.

تفقد سلطة صنعاء بوصلة الاقتصاد، في هذا الجانب، وتمارس سياسات وإجراءات تصب كلها في إيجاد بيئة طاردة للاستثمار وخانقة له، والدلائل على ذلك كثيرة، وتشمل فرض مستويات قياسية وغير مسبوقة من جبايات الضرائب والجمارك والرسوم المتنوعة، وفرض أضعاف مضاعفة من الزكاة، فضلًا عن جباية الخمس على كل ما يستخرج من البر والبحر، علاوة على فرض الإتاوات لتمويل الاحتفالات الخاصة بالسلطة.

وما تمارسه سلطة صنعاء هو هدم لهذه المعادلة وللقواعد الدستورية والأسس القانونية، وتقوم بتنفيذ سياسة مالية "عرجاء" قائمة على ساق الجبايات وبتر ساق النفقات، وحولت وزارات الحكومة إلى جهات جبائية غير عابئة بتقديم الخدمات للناس. وفوق ذلك، تدير المال العام بطريقة مبهمة وغير شفافة وغير مقرة من نواب الشعب وبعيدة عن الرقابة والمساءلة. ووضع كهذا، يُبرز الاختلال في شرعية السلطة لإدارة المال العام، واستخدامه لأغراض لا تعزز من قدرات مؤسسات الدولة ولا تخدم الاقتصاد والمشاريع التنموية، وبذلك تحولت الميزانية إلى أداة لإنهاك جسم الاقتصاد المحطم أصلًا.

ووفقًا للأدبيات الاقتصادية، فإنّ للميزانية العامة أهدافًا اقتصادية واجتماعية، حيث إنّ الإنفاق العام يساهم في ضخ السيولة في الاقتصاد ويولّد فرصًا عديدة من الدخل والعمل في القطاعات المرتبطة بتنفيذ مشاريع الحكومة الخدمية والاستثمارية. وعلى العكس من ذلك، تنتهج سلطة صنعاء سياسة مالية وضريبية مجحفة، قائمة على جباية الضرائب والجمارك والرسوم والزكاة أضعافًا مضاعفة، وكلّها تصب في ثقب أسود دون أن يكون لها أي أثر في تنفيذ مشاريع خدمية أو تنموية، أو في دفع مرتبات موظفي الدولة والذين أصبح معظمهم يعملون وفق نظام السخرة، كما أنّ تلك السياسة الضريبية أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع المستهلكة، فأصحاب الأنشطة التجارية والصناعية والخدمية، عادة ما يقومون بإضافة تكلفة الضرائب إلى أسعار منتجاتهم ليتحمل المواطن أعباءها.

منع التعاملات الربوية لإلغاء البنوك

عادة ما يشبه القطاع بالجهاز العصبي في هيكل الاقتصاد، لدوره في جذب المدخرات من المودعين وإعادة إقراضها للمستثمرين في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ومعلوم أنّ القطاع المصرفي واجه تحديات خطيرة خلال فترة الحرب لقرابة تسع سنوات، ابتداء بندرة السيولة وضياع الاستثمار وعوائده في أذون الخزانة، مرورًا بتدهور المراكز المالية للبنوك وانكشاف حساباتهم مع البنوك المراسلة، وصولًا إلى ضعف ثقة المودعين والمستثمرين بالبنوك. وفي الوقت الذي كان فيه القطاع المصرفي يتطلع إلى مد يد المساعدة لإنقاذه، يتفاجأ بسلطة صنعاء تُصدر قانون "منع التعاملات الربوية" دون التشاور مع أيّ طرف من المعنيين بالعمل المصرفي في الحكومة أو في القطاع الخاص. فالقانون يُجرّم كل التعاملات المدنية والتجارية وكل ما يترتب عليها من فوائد أيًّا كان المسمى (فائدة أو مساهمة أو أرباح)، وهذا يشمل كل أنشطة البنوك التجارية في تقديم القروض أو التسهيلات أو الودائع أو أذون الخزانة، وحتى العمولات على خطابات الضمان والاعتماد المستندي وخصم الأوراق التجارية، كما يّجرّم الصيغ الإسلامية التي تتبعها المصارف الإسلامية، مثل بيع المرابحة وبيع السلم والبيع بالتقسيط الآجل وبيع الوفاء وبيع الدين، إضافة إلى أنّ القانون يُجرّم الأنشطة المشابهة للبنك المركزي وبنوك التمويل الأصغر، وهيئة التوفير البريدي.

وللأسف، لم يبذل من أصدر القانون أيّ جهد يذكر لتقديم البديل، ممّا يدل على عقم التفكير والعجز عن تقديم حلول لأسلمة الأنشطة المصرفية في كل الجهاز المصرفي، بدءًا بالبنك المركزي، ومرورًا ببقية البنوك وحتى صناديق التوفير.

وهنا، مرة أخرى، تضيع بوصلة الاقتصاد لدى سلطة صنعاء، وبدلًا من تقديم المعالجات لإنقاذ الجهاز المصرفي من عثراته، أصدرت سلطة صنعاء قانونًا يشرعن تأميم حقوق البنوك وصناديق التقاعد وغيرهم في العوائد على استثماراتهم في أذون الخزانة والسندات الحكومية، ومصادرة حقوق المودعين (كبارًا وصغارًا) في العوائد على ودائعهم لدى البنوك التجارية وبنوك التمويل الأصغر وحتى هيئة التوفير البريدي. 

لقد كان للقانون نتائج كارثية وفورية، مثل: الندرة الشديدة للسيولة لدى البنوك بسبب انعدام الثقة والمصداقية في التعامل معهم، وعجزهم عن الوفاء بأصل الودائع للمدخرين، فضلًا عن تقديم القروض للمستثمرين، إضافة إلى أن القانون يعمق التشطير في الوطن الموحد، ويدفع بالتجار والمستثمرين للتعامل مع البنوك في مناطق سلطة عدن، أو التعامل مع شركات الصرافة التي لم يمسها القانون، والتي أصبحت تمثل الجهاز الموازي لقطاع البنوك، مع وفرة في السيولة النقدية وتمكينها من القيام بوظائف البنوك دون أي رقابة أو مساءلة. كما يتم الحديث عن عشرات الآلاف من الأسر المعتمدة على مبالغ شهرية من عوائد الودائع كانت تصرف لهم من البنوك، وأصبحت في عداد الفقراء والمعدمين.

ويمكن القول إنّ التخبط والارتباك الذي أصاب سلطة صنعاء في إصدارها للقانون المشار إليه، جعل القطاع المصرفي" الجهاز العصبي للاقتصاد" كسيحًا ومعاقًا، وهذا بالتبعية له تداعيات كارثية على الوضع الراهن للنشاط الاقتصادي والتنموي وعلى الإمكانات المتاحة مستقبلًا لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، وعلى تعافي الاقتصاد ككل.

بيئة الاستثمار طاردة

طوال سنوات الحرب والحصار، أثبت القطاع الخاص قدرته على الصمود وعلى التكيف مع الصعوبات والتحديات التي أفرزتها الحرب، وتمكّن من المحافظة على سلاسل الإمداد في التجارة الداخلية والخارجية، وتوفير معظم السلع الأساسية والكمالية، كما استطاع القطاع الصناعي الاستمرار في تشغيل خطوط الإنتاج للسلع المصنعة محليًّا، وتأمين المواد الخام من السوق المحلي والخارجي.

وتبين المؤشرات أنّ القطاع الخاص، خلال فترة الحرب، ساهم بقرابة 90% في تكوين الناتج المحلي الإجمالي المتولد من قطاعات الزراعة والأسماك والصناعة والخدمات، ويعول عليه الكثير في فترة ما بعد الحرب للمساهمة في إعادة الإعمار وتعافي الاقتصاد وإنعاشه.

تمارس سلطة صنعاء الابتزاز و"التنمر" على العديد من الشركات الصناعية والتجارية الوطنية وإغلاق بعضها، والدفع ببعض الفئات الطفيلية من المتاجرين، الذين يزدهر نشاطهم أثناء ندرة السلع الضرورية أو التربح المفرط من خلال التهريب الجمركي والتهرب الضريبي، بدعمٍ من جهات نافذة.

وبدلًا من تهيئة البيئة الحاضنة لاستثمار القطاع الخاص، تفقد سلطة صنعاء بوصلة الاقتصاد، في هذا الجانب، وتمارس سياسات وإجراءات تصب كلّها في إيجاد بيئة طاردة للاستثمار وخانقة له، والدلائل على ذلك كثيرة، وتشمل فرض مستويات قياسية وغير مسبوقة من جبايات الضرائب والجمارك والرسوم المتنوعة، وفرض أضعاف مضاعفة من الزكاة، فضلًا عن جباية الخمس على كل ما يستخرج من البر والبحر، علاوة على فرض الإتاوات لتمويل الاحتفالات الخاصة بالسلطة.

وكل تلك الجبايات مثّلت حاجزًا منيعًا أمام توسُّع القطاع الخاص في مشاريع استثمارية جديدة، بل دفع بالعديد من البيوت الصناعية والتجارية إلى تجميد مشاريعهم القائمة، واختاروا الهروب برؤوس أموالهم إلى دول أخرى، كما أنّ تلك الجبايات تضاف إلى أسعار السلع، سواءً كانت غذائية ضرورية أو استهلاكية عامة، ويتحمل عبئها عامة الناس، وهذا ما يفسّر التزايد المستمر لمعدلات الأسعار رغم استقرار سعر الصرف لعدد من السنوات.

وفوق ذلك كله، تمارس سلطة صنعاء الابتزاز و"التنمر" على العديد من الشركات الصناعية والتجارية الوطنية وإغلاق بعضها، والدفع ببعض الفئات الطفيلية من المتاجرين، الذين يزدهر نشاطهم أثناء ندرة السلع الضرورية أو التربح المفرط من خلال التهريب الجمركي والتهرب الضريبي، بدعمٍ من جهات نافذة بالسلطة، ويجنون أرباحهم من معاناة الناس وآلامهم.

رفض المنظمات الدولية

من الحقائق الجلية، أنّ الحرب المدمرة أدّت إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم المعاصر، فبيانات الأمم المتحدة تؤكد أنّ قرابة 80% من سكان اليمن يعانون من انعدام الأمن الغذائي وأنهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن أكثر من أربعة ملايين شخص، نازحون داخل البلاد أو لاجئون خارجها. وخلال السنوات الأولى للحرب، استجاب المجتمع الدولي بحماس لتقديم العون والمساعدات الإغاثية والإنسانية، بلغت ذروتها في عام 2019، قرابة أربعة مليارات دولار، ثم تراجع مستوى دعم الدول والمؤسسات المانحة ليصل إلى أقل من مليار دولار واحد عام 2023.

هذا التراجع الكبير في دعم الجهود الإنسانية والإغاثية، يتطلب قراءة جادة لوضع المساعدات الإنسانية وكيفية الاستفادة منها، والعوامل التي أدت إلى عزوف المانحين عن دعم وتمويل الاحتياجات الإنسانية لليمن خلال السنوات الأربع الأخيرة للحرب. ووفقًا لتقارير المنظمات الدولية، فإنّ من أهم أسباب التراجع في تقديم الدعم الإنساني يعود إلى أنّ الأجهزة المعنية بإدارة المساعدات في سلطة صنعاء تفنّنت بوضع العراقيل والمعوقات أمام منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية، ممّا جعل معظمها تتوقف عن أنشطتها الإنسانية في مناطق صنعاء وتنتقل إلى مناطق أخرى.

ويُلاحظ هنا فقدان سلطة صنعاء لبوصلة الاقتصاد والتفريط بالتعاون والشراكة مع المجتمع الدولي لمعالجة آثار الحرب وتداعياتها على الإنسان اليمني وعلى فرص التنمية في القطاعات الحيوية مثل الغذاء والتعليم والصحة والطاقة والمياه والصرف الصحي وغيرها. وبحكم طبيعة الظروف الطارئة والمتغيرة للحرب والصراع، فإنّ معظم الدعم الإنساني يوجه للاحتياجات العاجلة التي تحافظ على حياة المتضررين من الحرب، مثل الغذاء والدواء والمأوى، وهنا يأتي دور الجهات الحكومية في التفاوض مع المنظمات الدولية والتوافق معها على حسن استغلال الدعم الإنساني بطريقة سليمة ومستدامة، وتوجيه الدعم نحو المشاريع الهادفة لتطوير وتنمية سبل العيش المستدام وتوليد فرص العمل للحد من البطالة والفقر، وهذا لن يتأتى إلا بالاحترام المتبادل وتيسير عمل المنظمات والابتعاد عن توتير العلاقات معها، والتصرف كرجال دولة، وفق الأطر المؤسسية والقانونية واستيعاب أنماط ونظم الجهات المانحة والمنظمات العاملة في مجال العون الإنساني.

ولا بُدّ من التأكيد أن التزامات المانحين لدعم الإغاثة الإنسانية باليمن، تتسم بالحساسية المفرطة تجاه ممارسة أطراف الصراع السيطرة على تلك المعونات، وسوء استغلال الدعم، وعدم توزيع المعونات وفقًا لمبادئ الشفافية والمساءلة، وصعوبة الوصول إلى المستفيدين والمحتاجين أو التأكد من حصولهم على الإغاثة الإنسانية، وابتداع أساليب المضايقة أو الاعتقال للعاملين في المنظمات العاملة في مجال الغوث الإنساني، وفق قاعدة "الكل متهم حتى يثبتوا براءتهم"، وعدم تهيئة البيئة المناسبة للقيام بواجبهم بحيادية ومهنية.

وهذه كلها عوامل تدل على موقف رافض للمنظمات الدولية من قبل المعنيين في سلطة صنعاء، كما تولد عدم الثقة لدى الجهات المانحة وتجعلها تخفض الدعم أو تتوقف عن تقديمه، وتوجِّهه إلى مناطق الأزمات الأخرى في العالم، كما تدفع بالمنظمات العاملة بالبلد إلى الانسحاب التدريجي من ممارسة عملها والبحث عن بيئة آمنة وحاضنة لها في أماكن أخرى.

وختامًا، فإنّ استحقاقات مرحلة ما بعد الحرب تتطلب التعامل بمسؤولية عالية تجاه السياسات والتوجهات الاقتصادية لسلطة صنعاء في مجال السياسات المالية والضريبية بهدف إدارة المال العام بشفافية، وبما يضمن صرف مرتبات موظفي الدولة وتمويل مشاريع التنمية، أو في مجال السياسات النقدية والمصرفية بهدف استمرار قيام البنوك بدورها، وعدم التشطير للنظام المصرفي اليمني، كما أنّ سلطة صنعاء مطالبة بتوفير بيئة حاضنة للقطاع الخاص واستثماراته وتجسيد الشراكة معه لإنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، ومطلوب، أيضًا، تعزيز التعاون مع مجتمع المانحين والمنظمات الدولية والمحلية العاملة في مجال المساعدات الإنسانية والتنموية، والكف عن الممارسات والتجاوزات المسيئة لليمن قبل المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية... والله المستعان، ولنا متابعة قادمة فيما يتعلق بسلطة عدن.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English