الرؤى الصوفية

كمتخيل ابداعي في رواية (العُذيرة)
عبدالفتاح إسماعيل الخضر
May 18, 2023

الرؤى الصوفية

كمتخيل ابداعي في رواية (العُذيرة)
عبدالفتاح إسماعيل الخضر
May 18, 2023
خيوط

تتشكّل الرواية باعتبارها نصًّا سرديًّا، من رؤى خاصة وأفكار عميقة، ومواقف فلسفية تنبثق ضمن رؤيّة فنيّة موضوعيّة ذات امتدادات مختلفة ومتنوّعة، بحيث يحرص الروائيّ على إظهارها في صورها المثلى والمتميزة التي تنطوي على تقنيات سردية خاصة، وآليات متنوعة تعمل على تشكيلها من الناحية الجمالية، ولتحقيق هذه الخاصية لجأ الروائيّون في الحقبة الأخيرة إلى الاغتراف من التجربة الصوفية كممارسة إبداعية، إذ تمثّل هذه الأخيرة منبعًا ثريًّا لتوليد الجمالية، فأصبحت الرواية مدارًا للتجريب ومجالًا لاحتضان الصوفية، فتدخلت الرؤية الروائية السردية والرؤية الصوفية التي منحت الرواية مسحة إنسانية عميقة الدلالة تختلف في مكوناتها النصية عن الأخرى وتتجاوز قوانين الخطاب المتداولة.

وعلى ذلك، يمكن استدراك الآتي:

(1) المراوحة بين الغرائبية والعجائبية.

إنّ الغرائبيّ ظاهرة سردية حديثة، دخلت في رحم الرواية نتيجة تلاقح ثقافات عدة، موروثة ومكتسبة، أسهمت وبشدّة في خلق خطاب زاخر بالدّلالات، فاعم بالإثارة، انهار على عتباته السرد التقليدي ليخلق بذلك بزوغ فجر جديد في خروج الرواية العربية عن إطار الواقعية؛ لذا فالروايّة بالعجائبية والغرائبية، هي رواية لعالَم آخَر غير العالَم الطبيعي، فالروائي (السِّرّي) خلق من العذيرة(1)، عالَمًا يتعلّق بفوضى الحياة الساخرة، إنّها فوضى روائيّ زاخر بخطابات لا تخضع لمخيلة السرد التقليديّ، نزوة فنية برئات عدّة، رمزية وفلكلورية وأسطورية، تحتوي التكثيف لتقدّم للقارئ عبر رحلة خلف الزمان وأسوار المكان حلولًا لقضايا الحياة، التي تعقّدت وامتدّت جذورها لتقيم في خفايا الذاكرة، فالغرائبية كتقنية سردية تجمع الأضداد في بوتقة واحدة، بوتقة الحدث، جمعت الأحياء والأموات، الخير والشر، الوجود والماوراء، الخرافة والعلم. للبحث عن خلاص في عالم أعمى، فقد عالج الروائيّ الأحداثَ عن طريق شخصيات أكثر جدلًا وغرابة بين برهان الصحفي، وابن الباهية المتصوف بالوراثة، والإقطاعي سلطان المسعودي، وزُخرفة حارسة المقبرة، والباهوت، والكلب صمصام، وشخصيات ثانوية أخرى لا تقل غرابة عنها. فالعُذيرة؛ البطلة الماورائية الحاضرة الغائبة- البعيدة القريبة- الغريبة العجيبة، فتحت للروائي كشوفات سردية وتجليات في عوالم النفس والوجود، فضلًا عن المشهدية الزاخرة بالصور والتناصات والرؤى، فقد صوّر الروائي السّري العُذيرة امتدادًا نضاليًّا روحيًّا للحلاج ورابعة العدوية وابن الرومي، فتجلّى فيها أنقى صور الحبّ العذري والعشق الإلهي والعِلم اللّدنّيّ، حلولًا واتحادًا.

(2) القلق الوجودي كحتمية سردية

الكتابة هل تكون بديلًا عن الحياة أم هي إحدى تجلياتها؟ هذه القضية البالغة الرهافة والخطورة معًا، يلمسها الروائي (السري) هنا بسنّ قلمه، بأطراف أصابعه، هذا السؤال القضية يحتاج إلى حسن الإنصات إلى صوت الطبيعة وتفاعلاتها وحركة المجتمع وصراعاته، فالرواية هي الإنسان والتراث والحداثة وما بعد الحداثة والوجود والماوراء.

وتعرّفها المدرسة الشكلانية الروسية، بأنّها: توثيق من لا توثيق لهم...، فالروائي السري لا يكف عن تجديد أسئلته المتعلقة بالقلق الوجودي والماورائي ليؤصّل معنى العلاقة بين الأنا ونفسها من جهة، وبين الأنا والآخر من جهة أخرى، فليس من قبيل الصدفة أن يتحرك أبطال الرواية جميعًا فوق جغرافيا الرحيل الدائم والنزوح المستمر من طاغوت إلى آخر ومن "تابوه" إلى آخَر، كأنّهم صرخة ممزقة يتنازعها التراب الصافي والتوق إلى النزوح والمغامرة، أو كان واحد منهم لا يستطيع اكتشاف نفسه إلّا في الالتباس والتعدّد وانقسام الذات أو انشطارها. فالبطلة العذيرة جسّدت القلق الوجودي المستبد، قلق اللحظة والعيش والقادم، فهي "مفرد بصيغة الجمع" أو "تجليات جمعية للجسد المفرد"(2).

فهذا العمل الروائي وافق بين الموضوعي والذاتي وبين المطلق والنسبي وبين اللازمني والتاريخي بين العمق الفكريّ والثقل الماديّ... إلخ.

فالعُذيرة محاولة شاقة من أجل إدراك الماهية في صميم الوجود، والكشف عن الحياة من خلال المواقف والأحداث، فالرواية تسمح للفيلسوف بأن يقف على الانبثاق الأصلي للوجود في حقيقته الكاملة النوعية التاريخية. وحقًّا أنّ ثمّة فلاسفة يزدرون بأسلوب التعبير الروائي، ولا يرون موضعًا للمزج بين الفلسفة والرواية، ولكن هؤلاء إنّما هم فلاسفة يفضّلون الماهية على الوجود، ويحتقرون المظهر بوصفه دون الحقيقة المستترة!

وأمّا إذا عرفنا المظهر أنه حقيقة، وأنّ الوجود إنّما هو حامل الماهية، وأنه لا سبيل إلى فصل الابتسامة عن الوجه الباسم، ومعنى الحدث عن نفسه، فهنالك لا بُدّ لعياننا الفلسفي من أن يعبّر عن نفسه من خلال اللمع الحسية والبوارق المادية التي تنبعث من العالم الأرضي نفسه. وعطفًا على ما سبق، فقد وظّف الروائي/ السِّرِّي القلقَ الوجودي، في بنائه السردي ليخلق تعبيرًا حيًّا وخصبًا عن شتى خبرات الإنسان الوجودية بوصفه كائنًا ميتافيزيقيًّا يحيا في العالم ومع الآخرين. ولعل أبرز ما يؤكّد ذلك، مقولة أستاذ الفيزياء المقهور اجتماعيًّا، إحدى شخصيات هذا العمل الروائي: "لا شيء في الوجود سوى المعاناة والجنون، والباقي عدم وليس للعدم وجود" (ص55).

(3) الماورائي تقنية القناع السردي

وظّف الروائيّ السري العذيرة كرمز روحيّ "بروليتاري" معًا، غادرت الماوراء وما زالت أكثر إلهامًا وغرابة، حاملة لأوجاع المقهورين والحالمين، فمن خلالها أثار أسئلة جدلية تتعلّق بكلّ ما نعتقده ونؤمن به، ضمن أجواء عجائبية تتداخل فيها الأساطير مع العلم، والواقع مع الخيال، فالسارد الخارجي والسارد الداخلي تظافرا معًا على جعل الواقع "أشدّ غرابة من كلّ خيال"، من خلال تعرية المتصارعين على الغيب، وابتزاز الناس روحيًّا من أجل النفوذ والمال والسلطة.

وهكذا تقودنا الرواية إلى عوالم شديدة الغرابة واللامعقول، وهي في هذا لا تريد أن تقنعنا أنّ ما يُروى أو يُسرد موجودٌ حقًّا، هي تقدمه كسلسلة من الأحداث والحكايات، لكي تصل إلى الفكرة الأساسية التي تطمح إلى قولها، وتتلخص في أنّنا نعيش ضمن معتقدات وضعناها بأنفسنا وصدّقناها، وصارت هي ما نفسّر به كلّ ما حولنا، وفي أنّنا تعوّدنا أن ننكر كلّ ما يخالف هذه المعتقدات، وهذا الإنكار يجعل المرء يقف عند قدرٍ معين من المعرفة، وهو حجاب مانع، إنّما يجب على الإنسان أن يفتح نفسه للتأمل وعقله للتفكير في كل شيء.

فلا يريد هذا العمل الروائيّ إقناعَ القارئ بالماورائيات، وليس هذا هدفه، بل يريد زلزلة طمأنينته، وهزّ معارفه، وإثارة الأسئلة في داخله حول كل ما يعرفه ويعتقده صحيحًا بالمطلق؛ لذلك فالأحداث التي تحتويه تتشابك مع الخرافة والأساطير وتدجين الدِّين في حظيرة السياسة والنفوذ.

فالرواية في صميمها، تُعبِّر عن البُعد الميتافيزيقيّ الذي يتحرّك عبر الموجود البشري، ويتكشّف ذلك من خلال مواقف متعارضة وأحداث متشابكة ومشاعر متناقضة تجلي قلق الإنسان، وعبث الحياة، وصراع الحريات، وجزع الموجود البشري من الموت، وحنينه إلى المطلق.

فالروائي السِّرِّي يعبّر عن هذه المواقف الميتافيزيقية، فإنّه لا يقسرها على الأحداث قسرًا، كما أنّه لا يُسقطها على الشخصيات إسقاطًا، بل يضعها في سياقها الواقعي الجزئي، ويدعها تنطق بلغتها الخاصة في اللقطات والفلاشات المكثفة، في سياق السرد وتنامي الصراع.

وختامًا، يمكن أن نستشف الآتي:

١- حفلت الرواية بأصوات سردية متناغمة، فلا صوت يعلو فوق صوتها. فالسارد الخارجي أضفى صوتًا مواربًا على المونولوج الداخلي.

٢- هناك إشارة فكرية كاشفة لحقيقة الصراع على الغيبيات، من خلال الأضرحة والمقامات والسراديب، كفّنت العقل، ليس برداء فكري معين، بل بكفن كهنوتي ماضوي لا يقبل القسمة إلّا على نفسه.

٣- (العُذيرة) عملٌ مغاير عرَّى كلَّ أصوات الفقه الغريب والعجيب، نبش في التراث والتاريخ، وصولًا إلى أن لا حقيقة مطلقة، فالحقيقة حمّالة أوجه.

٤ -هذا العمل الروائي متنوّع التقنيّات والأساليب السردية من الحلم والرسائل والرمز والأسطورة.

٥- المشهديّة باذخة بالسيميائيّة، زاخرة بالتناصات في الرؤى المعرفيّة والفلسفيّة، فضلًا عن المفارقات بين الأضداد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والإحالات:

1) العُذيرة: رمز صوفيّ في ضواحي محافظة تعز اليمنية (جنوب غرب اليمن)، لها ضريح يقدّسه الناس هناك.

2- مجلة غيمان الفصلية الأدبية – العدد الثالث – خريف 2007م.

(*) قاصّ وناقد.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English