أحلام عارضة تشبه بيجامة قديمة (1-2)

شذرات من قصص المقهى ووجوهه
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 23, 2022

أحلام عارضة تشبه بيجامة قديمة (1-2)

شذرات من قصص المقهى ووجوهه
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 23, 2022

(1)

مع صوت الأذان الأول، يكون عبدالقوي الجنَّاتي قد أكمل ارتداء ملابسه الثقيلة المتشابهة، وبعد أن تأكد من أنّ حزامه العريض قابضٌ على سلسلة المفاتيح الفضيَّة الثقيلة التي تحتوي حلقتها الدائرية السميكة عشرة مفاتيح، بعضها لم يعد له وظيفة غير وجودها الحميم بجوار بقية المفاتيح.

يرافقه في المسافة التي يقطعها من مسكنه الشعبي المتواضع في الحارة الداخلية إلى مقهاه في الشارع الرئيس، ضوءٌ ضعيف، ينطلق من كشاف بلاستيكي أصفر يضعه في مقدمة رأسه مربوطًا إلى قفاه بشريط مطاطيّ مطرَّز. أصوات المذكِّرين بقرب الفجر المنبعثة من ميكروفونات المساجد القريبة والبعيدة تُبدّد هدوء الأزقة، التي يقطعها على قدمين ناحلين تغطي سيقانها السمراء فوطة مزركشة تتبطن ببيجامة صوفية حائلة، اشتراها قبل سنين بعيدة من سوق البالة القريب. العصا التي يحملها لإخافة الكلاب الغريبة التي تعترض طريقه في هذا الوقت المبكِّر، هي قطعة خشبية سميكة، تركها قبل سنوات، أحدُ الزبائن بالقرب من الطاولة التي كان يفطر عليها، ولم يسأل عنها حينما مر بعد أشهر على ذات المكان.

 بعد أن يصعد درجة الرصيف الوحيدة أمام باب المقهى، تمتد يده تلقائيًّا إلى المفتاح العريض الأملس واللامع المربوط بالسلسلة، وهو الذي يستخدمه لفتح باب المقهى الحديدي الأزرق. يشعل موقد الغاز بعيونها الدائرية السوداء، ويضع عليها ثلاثة كتالي (أباريق) صفراء مملوءة بالماء، إلى جانب وعاء معدني قديم، تكون قد حُضِّرت مساء. بعد بدء غليانها يضع في الأول خمسة أكواب كبيرة من السكر فقط، وفي الثاني خمسة أكواب من السكر وأربعة أكواب من الشاهي الناعم، ولا يضيف إلى الثالث شيئًا؛ أما الوعاء المعدني فيضع بداخله خمسين بيضة ويتركها تنضج على نار متوسطة، بعد أن يضيف إلى الماء في الوعاء نصف كوب من الخل الأبيض لتسريع نضجها، وتقليل زفرها.

ثم عن حال المدينة في السبعينيات حين تحولت المحلات المضاءة والمملوءة بالسلع التي تصل المدينة من أصقاع الأرض إلى مخازن مهجورة معتمة يخطها الغبار وتحتلها العناكب البيضاء، وصارت الطوابير أمام الجمعيات هي عنوان المدينة. عن دورات الدم المتعاقبة، والتي أجبرته إحداها على ترك المدينة إلى صحراء الملح

تلقائيًّا تمتد يده بعد ذلك إلى سكين قديمة بمقبض خشبي بلا لون محدد موضوعة في الدرج الأول، ليبدأ بتقطيع مجموعة من الطماطم الناضجة، ومثلها من البصل الأحمر وبعض قرون الفلفل الأحمر، ويخلطها جميعها ويضعها في وعاء معدني في أحد الأدراج المفتوحة أمامه. الخلاطان الكهربائيان الموضوعان في الواجهة، سيضع في أولهما طماطم مقطعة وقرن فلفل وكزبرة وملحًا وكمّونًا، ثم يخفقها معًا ويتركها بشكلها المتماسك في زجاج الخلاط، وفي الخلاط الثاني يصب ماء معتدلًا ويرمي فيه ثلاث حبات من الليمون وكأسًا واحدًا من السكر الناعم ويتركه بدون خفق.

إن حان موعد صلاة الفجر وهو وحيد في المقهى، يفرش على الرصيف سجادة قديمة يجد لها موضعًا على رف حديدي أسفل خزان الماء الأسطواني في عمق المقهى، وإن حضر أحدهم يتركه لحراسة المكان، ويذهب بخطوات سريعة إلى الجامع القريب، لأن ثوابه أكبر، كما يقول.

حينما يعود، يكون أخوه الأصغر قد جاء ومعه السطل البلاستيكي المتوسط، وبه كتلة من العجين المخمَّر الذي عجنه ليلًا، وأشعل الموقد الدائري العريض تحت الصاج الثقيل (الطاوة)، ثم يبدأ بتكوير العجين وفرده على سطح معدني أملس، ليضعه على الصاج الحامي، ويتولى تقليبه على نطف من الزيت حتى ينضج، ليصير اسمه خبز الطاوة، سيجد عمّا قليل العديد من الزبائن المبكرين من العمّال والعابرين من يتناوله دافئًا أو باردًا مع شاي يطلب من الجناتي في موقعه بقلب المقهى الضيق، والمحشو بالكراسي والطاولات العتيقة.

يصل وصفي، ولد الجناتي، متأخرًا قليلًا، حاملًا كيسًا بلاستيكيًّا مملوءًا بالروتي (خبز مقولب)، وبجيب بنطلونه الداكن يحتفظ بكيس بلاستيكي به القليل من القات، أبقاه منذ المساء، ليستطيع مضغ محتواه بعد الإفطار مباشرة ليُبقي تركيزه حاضرًا مع الزبائن، وللتقليل من تصاعد السكر في دمه الحامي، كما يقول.

أبكر الواصلين هو حافظ سعيد، الرجل السبعينيّ البشوش، حاملًا على ظهره المقوَّس شوالًا قطنيًّا كبيرًا، محشوًّا بعلب ماء فارغة جمعها من الشارع الرئيس والشوارع الخلفية، ليتسنى له بيعها بالكيلو على بائع خردوات في الجوار. وحال وصوله يضع من على ظهره الكيس جوار درفة الباب اليسرى، ثم يقوم بتجميع بعض الطلبات من الخبز والشاي للمحلات القريبة التي يفتح أصحابها باكرًا، ومنهم عمال الجزار التهامي في منتصف شارع العشرين الخلفي، الذين يعتمدون عليه اعتمادًا كليًّا في إحضار ما يرغبون بأكله وشربه من المقهى والمطاعم القريبة.

هو على هذا الحال من سنوات طويلة، وعلى وجه التحديد منذ تقاعده من مؤسسة المياه قبل عشرين عامًا، بعد رحلة كفاح في تلحيم الأنابيب وإصلاح محابس الخط الرئيس للمياه التي تصل مدينة عدن من حقول بئر فضل في سلطنة العقربي. حين يعود بك محفوظ إلى عشرينيات عمره في مدينة عدن، يجعلك ترى المظاهرات التي كانت تخرجها الجبهتان القومية والتحرير وحزب الرابطة للعمال والطلاب والموظفين، احتجاجًا على السياسات الاستعمارية التمييزية ضد العرب اليمنيين.

ثم عن حال المدينة في السبعينيات، حين تحولت المحلات المضاءة والمملوءة بالسلع التي تصل المدينة من أصقاع الأرض إلى مخازن مهجورة معتمة يخطها الغبار وتحتلها العناكب البيضاء، وصارت الطوابير أمام الجمعيات هي عنوان المدينة. عن دورات الدم المتعاقبة، والتي أجبرته إحداها على ترك المدينة إلى صحراء الملح، لكنه سرعان ما عاد إلى مدينة الطين والنساء، كما قال.

قبل أربعين عامًا كان عبدالحافظ مراهقًا وسيمًا، فاستعجل أبواه تزويجه من قريبة لهما، حتى لا يخرج إرث العائلة لغريب. كانت الزوجة أكبر منه وأبشع، فتركها بعد أيام، واستكرى غرفة صغيرة ملحق بها حمامٌ في الحافة القريبة من المقهى، لم يزل حتى اليوم يقيم بذات الغرفة. يصحو في السادسة صباحًا ويغتسل بماء بارد كما اعتاد منذ كان طفلًا، ويحلق ذقنه وشاربه ويلبس ملابسه المكوية المنسقة، وقبل أن يصل إلى مكتبه في وزارة الصناعة في الثامنة يمر على المقهى ويتناول إفطاره ويسجل بقلمه على نوتة سنوية يشتريها مطلع يناير من كل عام، وتعرف باسمه. 

انقطعت المرتبات وتقلص الدوام وشحَّت الخدمات، لكن عبدالحافظ لم ينقطع يومًا عن الدوام والاغتسال صباحًا وإلقاء التحية العسكرية على المعاريف والتسجيل في النوتة، ويتجنب تمامًا الخوض في موضوعات حياته الشخصية حتى مع أقرب أصدقائه في المقهى.

يصل محمد المزجاج -ضابط الأمن السابق- في السابعة بملابسه الشعبية النظيفة، ويقتعد على الطاولة الخشبية المتهالكة على الرصيف، ويكون قد سبقه إليها مجموعة من رواد المقهى الدائمين، والذين صاروا مع الوقت أصدقاء بقوة العادة. يبدأ حديثه بسؤالهم: "ها ما سمعتوا يا خُبرة؟"، ويجيبونه بصوت واحد: "وأنتم ما سمعتوا يا فندم؟"، ثم يبدأ بعرض تفاصيل نشرات الأخبار الرئيسة لفضائيات الجزيرة والعربية والمنار والبي بي سي، والتي قضى نصف ليله الأخير بمتابعتها من أجل هذه اللحظة الاستعراضية. وهو يتحدث بحماسه الفارط، يبدو كأنه يقرأ تقريرًا مهمًّا، ولا ينسى أن يتقمص دور المحلل السياسي. لا يسمح لأحدٍ من الجالسين بمقاطعته، ولا يسمح أيضًا بمغادرة من يرغب من الجالسين حتى ينتهي من كلامه، والغريب أنهم يمتثلون لرغبته، وينصتون في كثير من الأيام لقصصه المكرورة والمتبدلة، منذ كان لاعبًا معروفًا ودبلوماسيًّا في إحدى القنصليات، ولا ينسى التذكير في كل مناسبة بأخيه الشهيد، وكفه القوية التي وضعها في مساء بارد على خدٍّ ممصوص لشخص سيصير رئيسًا.

حين ينضمّ الآنسي إلى الجالسين على الطاولة، بهيئته المرِحة وبشاشته، وبملابسه الشعبية البسيطة، ولهجته الصنعائية المحببة، ينقلب حال الجالسين إلى كتلة من المرح المنفلت، الجميع يحبونه ويمازحونه بلغة بسيطة، ويرد عليهم بذات الكيفية. في ذاكرته الثمانينية لم تزل الأحداث والوقائع التي عاشها في المدينة منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي تلتمع في ذاكرته مثل جواهر ثمينة، قيض لبعضها أن تدوّن في سيرة ظلية مهمة، لم يُروَ مثلها من قبل بذات الكيفية التي يرويها رجل مدمن عركته الحياة فأحب كل شيء فيها.

في كل مرة يروي الحاج علي تاريخه مع عكازه المعدني، وسيرة السُّكَّر التي تلازمه منذ كان يعالجه بأكل العسل البلدي قبل ثلث قرن. ويتذكر أيضًا السقَّالات الخشبية، التي صعد بها سماء بنايات الطين المحروق، فتسببت إحداها بكسر عموده الفقري. صالات السينمات الخمس التي كانت تتوزع على صنعاء قبل ستين سنة يتذكرها مع أسمائها ومواضعها، حينما كانت تشكل في مجموعها نسبة أعلى من مساجد الجماعة في المدينة التي خرجت لتوها من ظلمة القرون.

 فهد مفتاح، الذي وُلد قبل أربعين سنة في إحدى قرى الحيمة البعيدة معاقًا، صار اليوم زوجًا وأبًا لطفلين معافيَين في ذات القرية. يعمل لستة أشهر كاملة في بيع المناديل الورقية وبالونات الأطفال واللعب أمام أحد المراكز التجارية، ويلوذ بالمقهى ومخزنها حيث ينام، وحيث يجد من يطعمه بيديه بدلًا من يديه المقيدتين بالإعاقة، قبل أن يعود لقريته "مُتحمِّمًا" محمّلًا بالملابس والهدايا التي ينتقيها بعناية فائقة. له قاموسه الفارِه للشتائم، التي تخرج من فمه بكلمات مشتتة وصعبة، وهي وسيلة دفاعه الكبرى أمام رواد المقهى الذين يمازحونه بكثير من الخشونة المحببة.

(يتبع)

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English