تكنيكُ البناء الروائي الحديث

مقاربة نقدية في رواية "الحقل المحترق" للروائي ريّان الشيباني
عبدالرقيب الوصابي
June 8, 2021

تكنيكُ البناء الروائي الحديث

مقاربة نقدية في رواية "الحقل المحترق" للروائي ريّان الشيباني
عبدالرقيب الوصابي
June 8, 2021

تكمن أهميةُ روايةِ "الحقل المحترق" للروائي الشاب ريّان الشيباني في كونها ناقشت قضايا جديدةٍ ليست مطروقةٍ من قبلٍ؛ كما اقترحت استراتيجياتٍ سرديةٍ وعمدت إلى تجريبِ تقنياتٍ غيرِ مستهلكةٍ للمعالجاتِ السرديةِ؛ ولعل من أهمِّ مظاهرِ الفرادةِ والتميزِ لروايةِ "الحقلِ المحترقِ"، ما يأتي: 

  1. أنها فضحت أنساق الهيمنة الاجتماعية وثقافة الإغارة والسلب والنهب.
  2. نقلت بدقةٍ أجواء تسلم وانتزاع السلطةِ في اليمن، في ظلِ فترةٍ انتقاليةٍ مغيبةٍ في التاريخِ اليمني، وكشفت أوجهَ التنازعِ بينَ نظامينِ مختلفينِ للحكم.
  3. خطابُ الروايةِ كشفَ منظومةَ التحايل والمغالطات الدينية التي تروج لها العقلياتُ الدينية عند وصولها للحكمِ كضمانٍ لاستمراريتها.
  4. تشييدُ نوعٍ جديدٍ من الحبكاتِ القائمةِ على أساسِ الحبكةِ والحبكةِ المضادةِ، وتدعيمِ ذلك بخَلْقٍ واعٍ ورسمٍ للشخصياتِ عبرَ مساراتٍ واضحةٍ ووجهةٍ صائبةٍ.

5- جِدّة آلياتِ المعالجةِ السردية الحديثةِ القائمةِ على الاهتمام بالوصفِ واعتباره تقنيةً، لا مجرد عنصرٍ من عناصرِ الروايةِ، والاهتمام بخَلق وبناء الشخصيات ونموها، وتوجيهِ ذلك باتجاه تدعيم وتقوية الحبكة الروائية.

فماذا قالتِ الروايةُ؟ وكيفَ استطاعت قول كلِّ ذلك؟ للإجابةِ عن هذينِ السؤالينِ سأحاولُ عبرَ هذه المقاربةِ النقديةِ استعراضَ تكنيكِ البناءِ الروائي الحديث في روايةِ "الحقل المحترق"، وذلك من خلالِ الوقوفِ على كلٍّ من: "الوصف، الشخصيات، الصراع".

أولًا- تقنية الوصف الكاشفة: 

يعتبر الوصف في رواية "الحقل المحترق" تقنيةً أساسيةً مهمةً جدًّا، حيث إن الوصفَ يتجلى كتقنيةٍ، ويحلّ بمحلّ الديكور في المكان، ويُعرِّف فيليب هامون الوصف بقوله: "الوصف ليس دائمًا وصفًا للواقع، بل هو ممارسة نصية". 

لم تعد وظيفة الوصف في روايةِ "الحقل المحترق" كما كانت سابقًا؛ مجرد وظيفةٍ ثانويةٍ تقتصرُ على نقل (معرفة) إيجابية من المؤلف إلى القارئ، كما لم يعد هذا الوصف يستخدم لخلق إطار للعقدة كما كان في الرواية التقليدية؛ بل لقد صار الوصف يرسم بدقةٍ عاليةٍ أحاجيَ متعددةَ الملامح، ويحفرُ عميقًا في طبقاتِ المجتمعِ ويفككُ أنساقَ الهيمنةِ الاجتماعيةِ، كاشفًا الدلالاتِ المعمقةَ والأسرارَ المخبوءةَ وراءَ كلِّ حادثٍ أو حدثٍ في الزمانِ والمكانِ.

وأسلوب الوصفِ في رواية "الحقل المحترق" لم يقتصر بجعل الوصف مستوى بصريًّا، ولم يكتفِ بصياغة تعابير هندسية لا تشير إلى معنى معين، بل تعدى ذلك باتجاه مداراتِ الوصف الظاهراتي الذي يبين لنا كيفية إدراك العالم حسيًّا من قبل الإنسان وطبيعة تعريفه للعالم، وقد يتجاوزُ الوصف مدارات المستويَينِ السابقين حينَ يتجلى خلّاقًا وخَالقًا لمظاهر وأجواء تفوق قدرة العقل على التخييل، لا سيما تلك الأجواء المُستغربةُ، وما لا يمكن أن يُروى إلا استثناء.

تجري أحداثُ الروايةِ في حيّزٍ مكاني "تكالبت عليهِ الأوبئةُ وقطّاع الطرقِ الذين يتحولون بطبيعةِ أعمالهم إلى أنبياءَ وملوك"، لكنَّ الحيّزَ المكاني يتسعُ بالوصفِ أكثرَ وأكثرَ لرصدِ وذكرِ تفاصيل التفاصيل، فكلما ضاق المكان، اتسعت الرؤية والرصد، وهذه نقطة فارقة للمؤلفِ.

وبذلك يحضرُ الوصفُ في روايةِ "الحقل المحترق"، باعتبارهِ تقنيةً مقصودةً لذاتها من أجلِ غايةٍ معرفيّةٍ تسهمُ إلى حدٍّ بعيدٍ في اكتشافِ العالم، أي إنّ المؤلفَ تعمَّدَ ذلك، وقصدَ في سبيلِ الإعلاءِ من شأن الوصفِ على حسابِ السردِ إلى إحداث تطوراتٍ مهمةٍ للوصفِ ستمنحهُ قدرةً فاعلةً على التأثيرِ في البناءِ ومضامين الرواية المتعددة، وتجعلُهُ قادرًا، كتقنية، على التغييرِ من الشكلِ الروائي وإعطائهِ ملمحًا آخر يقتربُ إلى حدٍّ ما من بناءِ الروايةِ الفرنسيّةِ الحديثةِ.

ويتجلى الوصف من حيث استخدامه في روايةِ "الحقل المحترقِ" على أربعِ مستوياتٍ، هي: 

  • كرونولوجيا: 

ويقصد بهذا المستوى وصف الزمان، وللتذكير فقط، فزمن رواية "الحقل المحترق" هو زمن اليوم الواحد، وهو يوم الرابع من تشرين 1918، ويتجلى وصفُ الزمن في مواضع متفرقة من الرواية بما يعكس عدائية الزمن وعدميتهِ، ونجد وصفه على النحو التالي: "جرت كل هذه الحوادث خلالَ ثلاثٍ وعشرين سنة، بدت على قسوتها وسوء طالعها وكأنها من تداعياتِ لحظة واحدة مشؤومة هي يوم: الرابع من تشرين وما سببته من حرائق ودمار. نعم الرابع من تشرين 1918م، التي لم يكن لها لتنتهي بعد..." [ص214].

وقد يبدو وصف الزمنِ بطيئًا ومجزّءًا حافلًا بالتفاصيلِ الصغيرة، كما نحس به في لقاء الوالي بعقيلة الحاج قاسم تكاييف على ظهرِ السفينة: "وبحساسيتها المفرطةِ تجاه الوقت، أعطت حسابها لكل شيء؛ أربع دقائق لخلع ملابسهِ، وثلاث دقائق لأسئلةٍ تقنية متعلقةٍ بأداء عضوه وصلاحيته للحب، لكنها اضطرت لأن تأخذ من وقتها التقني لصالح أمّيَّة الغريب المفزعة وتساؤله الطفولي في وظيفة النتوءات والثقوب الكثيرة للمرأة، إلى درجة أنه اقتبس من هذه المطارحة المقدسة للغرام عبارته الشهيرة: المرأة هي آلهة الحب والثقوب الكثيرة" [ص37].

تعدد الشخصيات في الرواية يعتبر التحدي الأكبر لِلرّوائيينَ، حتى أكثر الروائيين والمؤلفين خبرةً في التأليف أو الكتابة، وأكادُ أجزمُ أنَّ مؤلفَ روايةِ "الحقلِ المحترقِ" قد نجح في الحفاظِ على الموازنة بينها إلى آخرِ الروايةِ
  • طوبوغرافيا: 

ويقصدُ به وصف المشاهد والأماكن؛ ففي ص11 نجدُ وصفًا للبلادِ "السعيدةِ" بأهمِ لوازمه، إذ يقول: "قررَ الإمبراطور الأعظم، تعيينهُ واليًا للسعيدةِ، بطلبٍ من سكانها الذين تكالبت عليهم الأوبئةُ وقطاع الطرقِ الذين يتحولون بطبيعةِ عملهم إلى أنبياء وملوك". 

أو كوصفِ مقصورة الحاجِّ "قاسم تكاييف": "كان المكان مضاء بمصباحِ زيتٍ موضوعٍ على رفٍّ صغيرٍ مرتب، وتفوح منه رائحةُ أصصِ رَياحينٍ وسبحاتٍ عطرة، اختلطت الروائح بدخانِ الكيروسين وزنخ الماءِ الذي تخلفهُ السيقان المبتلةِ للشيخِ قاسم تكاييف وحريمهِ على السجادِ، فأضفت على المكانِ طابعها الجنائزيِ، فتح له هذا الامتزاجُ ثغرة في رأسه كان قد أغلقها في أصايلِ مراهقاتهِ: رائحة المساجد" [ص36].

  • برونوغرافيا: 

ويقصد به وصف مظهر الشخصيات والكشفِ عن أحوالهم وأدق التفاصيلِ العميقةِ للشخصيةِ، وسأسردُ هنا بعضَ مقاطعِ الوصفِ. ففي ص47 تعكسُ الفقرةُ تركيبةَ شخصيةِ الوالي المعقدةِ وبعضَ تصرفاتهِ الغرائبيةِ: "استيقظ على نفسهِ عاريًا في الممرِ المؤدي إلى الحمامِ، يَهذي، وجسده المتعرقُ يرتعش. لم يعرف على وجه الدقةِ الظرف الذي أجبره على خلع ملابسهِ كاملةً، عادَ إلى فراشهِ وارتدى بيجامةَ نومهِ، ليفيقَ فجرًا على حلمٍ بمجموعةٍ من الغريبات يركضن خلفهُ؛ حاولَ الانسرابَ من شقوقِ صُفوفهنَّلكنَّ إحداهنَّ عمدت إلى استخدامِ أكثرِ الأسلحةِ إلى نفسهِ فتكًا: التعري، ما أجبره على قطع شخيرهِ الضاربِ في رئتيهِ"، ومؤكدٌ أنَّ الفقرة السابقةَ قد كشفت عن شخصيةِ الوالي الحاكمُ صاحب الطبائعِ والتصرفاتِ الغرائبيةِ والمصاب بفوبيا السلطةِ وأجساد النساء.

وفي موضعٍ آخرَ يصفُ طفولةَ قاطعِ الطريقِ والملك المستقبلي للبلادِ: "بلغَ الرابعةَ بهباتٍ افتقدها جيله؛ ولعه بالقتلِ الرحيمِ للحيواناتِ، متحولًا إلى الخامسةِ بخيالاتٍ شهوانيةٍ ناهضةٍ أكسبتهُ حب الاستئثارِ بالمالِ وتملكِ أجسادِ النساءِ، وذاتَ يومٍ أتى عليهِ الفقيهُ الذي يتولى تدريسَهُ علم الحساب، وقد جرّد إحدى الفتياتِ التي تصغرُه بعامٍ وطرحها على سلالمِ المعلامةِ، لقد قام بتصرفاتٍ لا توجدُ إلا في قواميسِ القادة، انتزعهُ المعلم من فوقها وأخبرهُ: أنت معلم" [ص110].

  • أيطوبيا: 

ويقصدُ به وصفٌ مجازيّ لكائناتٍ وكياناتٍ وموضوعاتٍ في الخيالِ، أعني بذلك خيالَ المؤلفِ؛ وما أكثر الشواهدِ الدالةِ على هذا إلى الحدِّ الذي تشعرُ عندها أنَّ الفقرةَ لا تصفُ وإنَّما ثمّةَ يدٌ مبدعةٌ ترسمُ وتعزفُ باقتدارٍ من بينِ السطور.

ثانيًا- آلياتُ رسم الشخصياتِ بين التأليف والكشف:

تمثل شخصيات الرواية المحور الأساسي للرواية، أو جسد الرواية، بما تقص علينا من أحداث عانت منها أو صادفتها من خلال السرد أو الحوار مع ذاتها ومع الآخرين، وروايةُ "الحقل المحترقِ" قائمةٌ في بنائها على تعددِ الشخصيات؛ ومن شروط تعدد الشخصيات في الرواية ألّا تتشابه بأفكارها أو سلوكها أو طريقتها ودورها في الرواية؛ لأن تشابهها يوقع الكاتب أو المؤلف فيما يمكن أن نسميه "استنساخ" الشخصية أو تكرارها الذي يفقدها التميز عن بعضها وطريقة حضورها ودورها في الرواية، وهذا ما لا يجدهُ القارئ الحصيفُ في شخصياتِ "الحقلِ المحترق"، فشخصيةُ الوالي "آق ديلك بيك" على النقيضِ -تمامًا- من شخصيةِ قاطعِ الطريقِ وأميرِ المؤمنين تاج الدين بن سراج من حيث: "وجهة النظرِ، السمات، الموقف، والسلوك".

إن تعدد الشخصيات في الرواية يعتبر التحدي الأكبر لِلرّوائيينَ، حتى أكثر الروائيين والمؤلفين خبرةً في التأليف أو الكتابة، وأكادُ أجزمُ أنَّ مؤلفَ روايةِ "الحقلِ المحترقِ" قد نجحَ نجاحًا مدوّيًا في الحفاظِ على الموازنة بينها إلى آخرِ الروايةِ دونَ تناقضٍ أو ارتباك، حتى تجلت شخصياتُ روايتهِ غيرَ واقعيةٍ بكلِّ تفاصيلها، وفي الوقتِ نفسِه ليست خياليةً بالمطلق، لكنَّها شخصياتٌ جمعت بينَ الواقعي والخياليِّ، تمَّ الاشتغالُ عليها بِوعيٍّ حداثويٍّ خلَّاق، اتضحت معهُ مَقاصدُ كلِّ شخصيةٍ ووجهتها.

في الروايةِ قامَ المؤلفُ بخلق "الشخصية الرئيسة/ الوالي" أولًا؛ ثم قام بفصل مكونات حياتها إلى مرحلتين أساسيتين حياة "داخلية" وحياة "خارجية"؛ وبعد أن فَرغَ من خلقِ الشخصيةِ الرئيسة؛ استطاع اكتشاف طرق أخرى لرسم صورة متكاملة وذات أبعاد للشخصيةِ الأساسية. وقام بفصلِ مكوناتِ حياتها كذلك إلى مرحلتينِ أساسيتينِ؛ حياةٌ "تُؤَلَّف/ داخليةٌ"، وحياةٌ "تُكشَف/ خارجيةٌ".

والشخصيتانِ بُنِيَتَا على سجايا متعددة وأبعاد مختلفة، إذ تتطورُ كلُّ شخصيةٍ من الشخصيتينِ "الرئيسيةِ والأساسيةِ" بتطور حوادث الرواية.

واحتكاكها بغيرها، وتنمو كل شخصيةٍ على حِدَة، رويدًا رويدًا بصراعها مع الأحداث أو مع مونولوجِ الحوارِ الداخلي الذي تبتكرهُ الشخصيةُ حين تباري مشاهدَ خرابها الداخلي، فتتكشف للقارئ كلما تقدم بالقصة، حيث تفاجئه بعواطفها الإنسانية المعقدة بين الحين والحين على نحو مقنع فنيًّا، وتتحفُهُ بِجديدٍ في السلوكِ والتفكيرِ.

تبدو سماتُ شخصية الوالي/ الشخصيةُ الرئيسيةُ في الروايةِ، كالتالي: غريب، انطوائيّ، نحيل، قليل الكلام، متقشفُ، زاهدٌ عن المتعِ، لم تسجل له غرامياتٌ، باستثناءِ مغامرةٍ ليليّةٍ على ظهرِ السفينةِ التي أقلّتهُ إلى بلادِ السعيدةِ كآخرِ والٍ لإمبراطوريةِ الخلافة
  1. الشخصيةُ الرئيسيةُ "آق ديلك بيك":

اعتمدَ المؤلفُ في رسمِ الشخصيةِ الرئيسيةِ/ الوالي نظامَ الفصلِ بين مكونينِ، هما:

  1. الحياة الداخليةُ للشخصيةِ:

من اللازمِ قبلَ البَدْءِ بسردِ الحياةِ الداخليةِ للشخصيةِ؛ إيضاحُ معنى الحياةِ الداخليةِ، ويقصدُ بها حياة الشخصيةِ من لحظاتِ ولادتهِ الأولى ورصدها إلى بداية تأليف الرواية، وبناءً على ذلك يمكننا القول إنَّ:

"آق ديلك بيك" هو النجل الثالثُ لوالدِهِ الوالي من جاريةٍ انكشاريةٍ؛ حملت بهِ في ظروفٍ غامضةٍ ووضعتهُ تحت أشجارِ البرتقالِ في حديقةِ قصرِ زوارة التاريخي؛ قضى الطفلُ سنواتِ حياتهِ الأولى بعيدًا عن أمِّهِ زحفًا وحبوًا وتسلقًا، بحثًا، بغريزةٍ فموية، عن أثرِ أمهِ الجاحدةِ، مطورًا في ذاتِهِ نوعًا من المهارةِ الخارقةِ في المصّ تمكّنهُ فيما بعد من مصِ شحماتِ آذانِ قريناتِهِ، وليصبحَ بعدَ ذلكَ الابنَ الروؤمَ بالرضاعةِ لكل فتيات وفتيانِ السراي حتى شاع عنهُ أنهُ رضع من لبوة القصر؛ لم يستطع والده إعادةَ تشكيلهِ بطريقةٍ صلصاليةٍ؛ مما شكَّلَ لديهِ انطباعًا أنهُ أبٌ لمراهقٍ مُخنث.

عيَّنَ له بعدَ ذلك مُربيًا ملتحيًا ليلقنهُ مع أول الصفوفِ الدينيةِ دروسًا جانبيةً في المفاخذةِ المشروعة، ولكنَّهُ حينَ أدركَ فشلَ مَساعيهِ أرسلَهُ على ظهرِ بعيرٍ إلى مجتمعاتِ الطوارقِ ليكتسبَ جفوة الصحراءِ؛ ولأنَّ آخرَ العلاجِ الكي؛ لجأ والده لمعالجتهِ بالصدمةِ المضادة، فاشترى بثمانينَ ليرة أمَةً أفريقيةً ناهضةً، طالبًا منها معالجةَ ميولاتِ الفتى الأنثويةِ باغتصابِهِ؛ هذه الصدمةُ العنيفةُ ولّدت لدى الوالي المستقبلي الفوبيا العميقةِ من السلطةِ وأجسادِ النساءِ؛ وأخيرًا انتهت مساعي والدِهِ بإيفادِهِ من عاصمةِ الخلافةِ إلى باريس ضمن البعثاتِ العسكريةِ للدراسةِ في أرقى الكليات العسكرية.

  1.  الحياة الخارجيةُ للشخصية:

ويقصدُ بها الحياةُ التي تبدأ من لحظةِ تأليفِ الروايةِ حتى آخر نقطةٍ فيها، وتتجلى فيها شخصيةُ الوالي، راضخةً لمقتضياتِ الحاجةِ، عديمة الجدوى، لا تُجيدُ سوى التذكرِ؛ عاجزةً عن صناعةِ التحولاتِ والقراراتِ السياديةِ؛ مهووسةً بِطبائِعهَا الغرائبيةِ؛ لا يتجلى دورها فاعلةً إلا من خلالِ لحظتينِ كانتا سببَ شقائهِ وتعاستِهِ مدةَ عقدينِ من الزمن بعدَ انتزاعِ السلطةِ منهُ؛ أما اللحظةُ الأولى، فعندَ وصولهِ إلى بلادِ السعيدةِ، واضطرارهِ للتفاوضِ من أجل تسلّمِ السلطةِ مقابلَ اقتسامِ أموالِ الضرائبِ مناصفةً مع "قاطعِ الطريقِ/ أمير المؤمنين" على أن تتكفلَ إمبراطوريةِ الخلافةِ بتحصيلِ الأموالِ ودفعِ رواتبِ موظفيها على الأقاليمِ.

أما اللحظةُ الثانيةُ، فتتمثلُ بقيامِهِ المباشرِ على إحراقِ آلافِ الهيكتاراتِ من حقولِ الفلاحين وتأديبهم جراءَ امتِنَاعِهِم عن دفعِ الضرائبِ الظالمةِ على محاصيلهم الزراعية. 

وفيما عدا هاتينِ اللحظتينِ، تتمظهرُ شخصيةُ الوالي في انجِرَافِهَا صوبَ تلبيةِ نداءاتِ الجسدِ ورغباتِهِ الأنثويةِ وطبائعهِ الغرائبيةِ، أو التشظي بين تَذكرِ ليالي باريس وليالي قدار اللاسعةِ.

  • خصائصِ الشخصيةِ الرئيسية:

تتجلى شخصيةُ الوالي بوضوحٍ من خلالِ رصدِ وتتبعِ الخصائصِ الآتيةِ:

  1. السمات:

تبدو سماتُ شخصية الوالي/ الشخصيةُ الرئيسيةُ في الروايةِ، كالتالي: غريب، انطوائي، نحيل، قليل الكلام، متقشفُ، زاهدٌ عن المتعِ، لم تسجل له غرامياتٌ، باستثناءِ مغامرةٍ ليليّةٍ على ظهرِ السفينةِ التي أقلّتهُ إلى بلادِ السعيدةِ كآخرِ والٍ لإمبراطوريةِ الخلافةِ؛ كما ضلَّ طريقه لمرةٍ واحدةٍ للقاءِ تعارفٍ بين مثليين، أثناء بحثهِ عن زهرة قرنبيط.

  1. الموقف: 

اقتراضُ الديون الطائلةِ لإدارةِ البلادِ، ومضاعفةِ الرسومِ الضريبيةِ المفروضةِ على فلاحي السعيدة. 

ج- وجهة النظر:

سلبية منقادةٌ لا ترى في ذاتها القدرة على القيام بمهامِ الوالي، وهذا ما يظهر على لسانِ الشخصيةِ في إحدى خلواتها الغرائبيةِ؛ "أنا لا أصلحُ واليًا حتى في غرفةِ نومي".

د- السلوك:

يمكنُ اختزالُ سلوكياتِ الشخصيةِ الرئيسية/ شخصية الوالي، في التالي:

صاحبُ مزاجٍ متقلبٍ وضميرٍ مصمتٍ؛ تداهمهُ نوباتُ إغماءٍ متكررةٍ؛ مشدودٌ للماضي ومتهالكٌ على الشرابِ؛ يظهر ولع المقهورِ بممارسةِ العادةِ السريةِ، ومسكونًا بليالي "قدار" اللاسعةِ.


  1. الشخصيةُ الأساسيةُ "قاطع الطريق" 


  1. الحياةُ الداخليةُ:

هو أميرُ المؤمنين تاج الدين بن سراج الدين، المولودُ السادس لأمٍّ مجهولةِ الاسم والمصيرِ؛ أسقطت قبله خمسةَ خدجٍ في شهرها الرابعِ، وُلدَ في ليلةٍ ليلاءَ في البهو الصخري لأحدِ الحصونِ المخصصةِ للجرحى، بعيونٍ جوفاء وملمسٍ خشن وتجاعيدَ كثيرةٍ، كأنهُ ضفدعٌ مصابٌ بالفواقِ وعضو دائم الانتصابِ.

أولعَ في سنواتِ عمرهِ الأولى بالقتلِ الرحيمِ للحيواناتِ، ثُمَّ تحوَّلَ في الخامسةِ من عمرهِ إلى خيالاتٍ شهوانيّةٍ ناهضة، أكسبتهُ مبكرًا حبَّ الاستئثارِ بالمالِ وتملكِ أجسادِ النساءِ، على النقيضِ تمامًا من شخصيةِ الوالي المصابُ بفوبيا النساء والسلطةِ.

قامَ منذُ صغرِهِ بتصرفاتٍ لا توجدُ إلا في قواميسِ القادةِ إذ قامَ بتجريدِ إحدى الفتياتِ التي تصغرهُ بعامٍ، ومطارحتها على سلالمِ المعلامةِ واعتلائهِ -بعدَ ذلكَ- كلبةً رؤومٍ أسوة ببعلِهَا.

امتهنَ في شبابهِ مهنةَ تخريصِ آذانِ الفتياتِ، وصناعةِ أقفالِ التمائمِ، ومن ثَمَّ تفرّغَ لقراءةِ رسائلِ النساءِ وكتابةِ رسائل لزوجاتِ المغتربين، لينتهي بهِ المطافُ إلى مُشَاركتهنَّ الفراشَ في ليالي الشتاءِ القارسةِ.

دفعهُ والدهُ إلى فقيهٍ ليتعلمَ منهُ دروسَ الحسابِ المختلفةِ، وهو ما وَلّدَ لديهِ الدأبَ في جلب المالِ والاستغلاقِ التامِّ في إنفاقِهِ.

  1.  الحياة الخارجية:

وهنا تتجلى شخصيةُ أميرِ المؤمنينَ؛ شخصيّةً استغلاليّةً ماديّةٌ متربصةً بالفرصِ السانحةِ للانقضاضِ على سلطةِ الحكمِ وفرضِ السيطرةِ على أرجاءٍ واسعةٍ من البلادِ من خلالِ تفعيلِ أنساقِ الهيمنةِ الاجتماعيةِ وإباحةِ الإغارةِ على المدنِ وتشجيع الغوغائيينَ على النهبِ والسلبِ للمتلكاتِ العامةِ والخاصةِ، وتضليلِ الرعايا بالخطابِ الدينيِّ الزائفِ والخرافةِ في سبيلِ تثبيتِ السلطةِ واغتصابِ كلِّ مظاهرِ الحياةِ.

كما تبدي أحداثُ الروايةِ جوانبَ أخرى من الحياةِ الخارجيةِ للشخصيةِ الأساسيةِ، التي تكشفُ تفاصيلها كلَّ مظاهرِ الالتفافِ والتحايلِ على محاولاتِ الخلاصِ الممنوحةِ للوالي، والتي تمكِّنهُ من سدادِ دينهِ والحصول على حريتهِ وحقِّ العودةِ إلى موطنهِ.

  • خصائصُ الشخصيةِ الأساسية:

بعدَ سبرِ أغوارِ شخصيةِ أمير المؤمنين، اتضح أنها:

  1.  السمات:

تبدو الشخصيةُ الأساسيةُ، كالتالي: قاطع طريق؛ متنمر صعلوك، وزيرُ نساءٍ لا يعتاشُ إلا بالمزيدِ من فرضِ الجباياتِ والغنائم؛ كما أنَّهُ متحايلٌ متسلطٌ جشعٌ؛ مندفعٌ لإشباعِ رغائبهِ يعاني من فواقٍ حادٍّ يلازمهُ بشدةٍ عندَ تذكرِ الغنائمِ والأموال.

  1.  الموقف:

لا يتعدى موقفُ هذه الشخصيّةِ فرضَ أنساقِ الهيمنةِ الاجتماعيةِ وقطعِ كل محاولاتِ التواصلِ والانفتاحِ على الآخر.

ج- وجهة النظر:

التسلّطُ بالقمع وتثبيت دعائمِ السلطةِ بالتنمرِ والحرمان.

د- السلوك:

صاحبُ نزعةٍ تسلطيّةٍ وأسلوبٍ مستفِزٍّ؛ يدّعي مظلوميّةً زائفةً واستحقاقًا إلهيًّا في الحكمِ؛ له مغامراتهُ المشهودةُ وفضائحهُ المعهودةُ؛ يبتكرُ طرائقَ خاصةً في التحايلِ وصناعةِ الأزماتِ في محاولةٍ تضمنُ تعميقَ أواصرِ الصلةِ بينهُ وبينَ السلطةِ المغتصبةِ.

قبل أن يستغرق المؤلف في تضفير جديلة حبكتهِ، عمل على الإلمام بطبيعة شخصيته الأساسية، وعمل عليهما معًا بالتوازي

ثالثًا- الحبكةُ وآلياتُ الكشفِ السرديّ:

أطلقَ النقَّادُ على الحبكة -أيضًا- مسمّى "العُقدة"، وهي سلسلة الحوادث التي تجري في القصة متصلة ومرتبطة برابط السببية فيما بينها، ولا تنفصل عن الشخصيات أبدًا، فإن المؤلف يعرض علينا شخصياته دائمًا وهي متفاعلة مع الحوادث، متأثرة بها، ولا يفصلها عنها بوجه من الوجوه.

ومصطلح "الحَبكة" يدل على (تخطيط أو حبك شيء على نحو مقصود ومخطط، وهو ما يفعله الروائي الذي يحبك خيوط العمل الروائي ليوصل القارئ إلى نتيجة ما).

إذن الحبكة هي حادث أو حدث يعلق بالفعل ويَنسجهُ باتجاه آخر، بطريقة تدفع القصة إلى الأمام، إلى حلها النهائي.

ليس من الضروري بالمرة أن تمضي تلك الأحداثُ من نقطة إلى أخرى كمحطات القطار، فهي جديلة، ولكنها من عناصر مشتبكة ومتواشجة، يظهر أحدها هنا ويختفي هناك، وهكذا نعود للتأكيد على عنصر الغموض، ليس كطريقة مباشِرة لصنع التشويق والإثارة، بقدر ما يكون استهدافًا لذكاء وذاكرة القارئ في طريقة اللعب بأوراق السرد. ولكن لا داعي لاستباق الأمور، وَلْنبدأ بنظرةٍ سريعة نحو الصيغة الحديثةِ والمركبةِ للحَبكةِ في رواية "الحقلِ المحترق".

إن الشخصية هي الحبكة في رواية "الحقل المحترق" والحبكة هي الشخصية؛ لأن كل حلقة من حلقات سلسلة الحبكة هي تطوُّر آخَر يطرأ على تكوين شخصيات الرواية، سواء كانت الشخصية الرئيسة المتمثلة بالشخصية الرئيسة "الوالي/ آق ديلك بيك" أو "الشخصية الأساسية/ قاطع الطريق أمير المؤمنين"، وهي عقبةٌ جديدة تتجاوزها، كشْفٌ مغايِر تواجهه. وهكذا، فقبل أن يستغرق المؤلف في تضفير جديلة حبكتهِ، عمل على الإلمام بطبيعة شخصيته الأساسية، وعمل عليهما معًا بالتوازي؛ تطوير للحبكة ورسم لملامح الشخصية، مع تحديدِ نوعيةِ الصراع الذي ستخوضه كلُّ شخصيةٍ من الشخصيتين على حِدَة؛ فهو صراع داخلي مع القيمِ والأفكارِ الخاصة والطبائعِ الغرائبية. كما نجده في الشخصيةِ الرئيسية "شخصيةِ الوالي"، وهو صراعٌ مع قوًى خارجيةٍ؛ أشخاصٍ آخَرين ورغباتٍ مجتمعية، وهو صراعٌ في بعضِ صورهِ مع قوًى تنتمي للطبيعة أو الغيبِ، كما نجدهُ في الشخصيةِ الأساسيةِ "شخصيةِ أمير المؤمنين".

إنَّ شكْلَ ذلك الصراع، وتطوُّرَه، ونتيجته، تُحدِّدُ معًا صورةَ الحبكتينِ المُركّبتينِ، أي إننا أمامَ حبكتينِ متضادتينِ، وكلُّ حبكةٍ من هاتينِ الحبكتينِ مرتبطةً بشخصيةٍ من الشخصيتينِ الرئيسةِ والأساسيةِ في روايةِ "الحقلِ المحترق"؛ يمكننا أن نطلقَ على الحبكةِ الأولى المرتبطةِ بشخصيةِ الوالي: "حبكة فوبيا السلطة" والتي تتكونُ من خمسةِ أجزاءٍ متتابعةٍ ومتتاليةٍ، على النحو الآتي: 

  1. العرض: وفي هذا الجزءِ قدّمَ المؤلفُ معلوماتٍ ضروريةً ومهمةً عن شخصيةِ الوالي وتحولاتِ حياتهِ وحيواتِ طفولتهِ في الساحلِ الإفريقي، وملامحَ من صباه في عاصمةِ الإمبراطوريةِ، وسردَ قصصٍ عن شبابهِ في عاصمةِ النورِ وأجوائها الباريسيةِ. كما نقلَ المؤلف بعدَ ذلكَ أجواءَ وظروف بلادِ السعيدةِ؛ هذا البلد الذي تتناسلُ فيهِ الزعاماتُ والولاةُ الاستعماريونَ جنبًا إلى جنبٍ معَ قطّاعِ الطرقِ وأسرابِ الجرادِ، لتصيرَ السلطةُ فعلًا تائهًا في حيرةِ الزحمةِ التي عليها هذا الوجود.
  2.  الحدث الصاعد: وفي هذا الجزء تبدأ الحبكةُ بالظهورِ والتطورِ ببطء؛ إذ يتضحُ فيها أجواءُ تسلُّمِ السلطةِ من أيدي اللصوصِ وقطاعِ الطرقِ، عبرَ مفاوضاتٍ تقتضي اقتسام أموالِ الضرائبِ مناصفةً مع قاطع الطريق/ أميرِ المؤمنين؛ على أن تتكفلَ إمبراطوريةِ الخلافةِ بدفعِ رواتبِ موظفيها في الأقاليمِ.
  3.  الذروة: وفي هذا المستوى بالتحديدِ، تتأزمُ الأحداثُ وتصلُ الحبكةُ إلى أقصى درجاتِ التوتر والمتمثلةُ بدخولِ إمبراطوريةِ الخلافةِ حربًا كونيةً عالميةً وانقطاعِ أخبارها، ولجوء الوالي إلى اقتراضِ أموالٍ ثقيلةٍ من قاطعِ الطريقِ لإدارةِ البلاد.
  4.  الحدث النازل: وفي هذا المستوى يخفُّ التوترُ شيئًا فشيئًا؛ تميهدًا للكشفِ وليسَ للحلّ، فالحبكةُ في روايةِ "الحقل المحترق" هي حبكةُ كشفٍ لا حبكةُ حلٍ؛ إذ يتضحُ إضرابُ الفلاحينَ وتمرُّدهِم عن دفعِ الضريبةِ المتصاعدةِ عن محاصيلهم الزراعيةِ وقيام الوالي بإحراقِ آلافِ الهيكتاراتِ من حُقُولِهِم الزراعيةِ. 
  5. الكشف: وفي هذا المستوى تنكشفُ الحقيقةُ غيرُ المتوقعةِ إيذانًا بنشوءِ حبكةٍ أخرى مضادّةٍ للحبكةِ الأولى، إذ ينكشفُ عند هذا المقامِ انهيارُ دولةِ الخلافةِ وكسبُ الإنجليزِ للحرب.
تتأزمُ الأحداثُ في الحدث الصاعد إلى أقصى درجاتِ التكثيفِ والاحتدام، إذ تبدأ حملاتُ الإغارةِ والنهبِ على ممتلكاتِ الأحياءِ الراقيةِ ومداهمةِ حي "بيرِ العزبِ" الذي بناه رعاةُ الإمبراطورية، والقفزِ على سلطةِ الأمرِ الواقعِ بوحشيةٍ

إن هذا التغيير التموجي في الروايةِ المسمى بالإيقاعِ، يبدو أحيانًا خافتًا غامضًا، وأحيانًا أخرى متحفزًا متسارعًا، وله القدرة على الجمع بين صفات مختلفة في آنٍ واحد، فيكون حرًّا أو منضبطًا، متعسرًا أو منسابًا، هادرًا متوثّبًا أو خافتًا، متعثرًا في آنٍ معًا، وهو الذي أدى إلى نشوءِ الحبكةِ الثانيةِ التي يمكنني أن أطلقَ عليها "حبكة الفواق" التي تتعلقُ بالشخصيةِ الأساسيةِ "شخصيةِ قاطعِ الطريقِ/ أمير المؤمنين"، وهي تتكونُ من خمسةِ أجزاءٍ متعاقبةٍ ومتتابعةٍ، ولكنني قبل ذلك أودُّ التأكيدَ على أنَّ " الشخصيةَ الأساسية/ قاطع الطريق "لا تعني بالضرورة أنها تكمن في الظل، بل تساهم أحيانًا في تسيير دفة الأحداث، وخلق أجواء جديدة ومتعة كبيرة، فكلٌّ له دوره، وكلٌّ له مكانته التي يختل توازن الروايةِ بفقدِهِ؛ وسيتضحُ ذلكَ من خلالِ عرضِ أجزاءِ الحبكةِ الثانيةِ، والتي جاءت على النحو الآتي:

  1. العرض: وفي هذا المستوى قدّم المؤلفُ معلوماتٍ كاشفةً ومهمةً عن شخصيةِ "قاطع الطريق/ أمير المؤمنين"، ولحظاتِ ولادتهِ الأولى وولعهِ بالقتلِ الرحيمِ للحيواناتِ، وتحولهِ فيما بعد إلى تعلقهِ بخيالاتٍ شهوانيّةٍ ناهضةٍ ومظاهرِ استئثارهِ بالمالِ وتملكِ أجسادِ النساءِ، وشيئًا عن مغامراتهِ وفضائحه، كما كشفَ عن أسرارِ بلادِ السعيدةِ المتعلقةِ بأذيالِ قَاتِليهَا.
  2. الحدث الصاعد: وفي هذا الجزءِ تبدأُ الحبكةُ بالظهورِ والتطوُّرِ ببطءٍ؛ إذِ التقطَ قاطعُ الطريقِ الفرصةَ المواتيةَ التي على أساسها سيتمكنُ من استعادةِ سلطاتِ الأجدادِ كاملةً فأوعزَ لأتباعهِ الانغماسيينَ من وحي خبرتهِ كقاطعِ طريق، القيام بقطعِ أسلاكِ التليغرافِ وإرسالِ رسلهِ العزرائيليينَ المسلحين بنذيرِ الموتِ، ليوصلوا تهديداتهِ الصريحةِ إلى سلاح الإشارةِ بأنهُ صارَ ملكًا للسعيدةِ.
  3. الذروة: وعند هذا المستوى تتأزمُ الأحداثُ، حتى تصلَ إلى أقصى درجاتِ التكثيفِ والاحتدام، إذ تبدأ حملاتُ الإغارةِ والنهبِ على ممتلكاتِ الأحياءِ الراقيةِ ومداهمةِ حي "بيرِ العزبِ" الذي بناه رعاةُ الإمبراطورية، والقفزِ على سلطةِ الأمرِ الواقعِ بوحشيّةٍ دفعت إلى طردِ مرضى المستشفى البلدي وتحويلِهِ إلى مقرٍّ لمملكةِ الانقلابِ الواثقية، وهذا المستوى يفضحُ أنساقَ الهيمنةِ الاجتماعيةِ ونفسياتِ القتلةِ واللصوصِ.
  4. الحدث النازل: يخفُّ التوترُ قليلًا عندَ هذا المستوى وتنعرجُ الأحداثُ باتجاهِ لحظةِ عودةِ الوالي من "قدار" متنكرًا بقفطانٍ وزنانيرِ يهودي، لتبدأ بعدَ ذلك التفاوضُ بين "الوالي وأميرِ المؤمنينِ" على آليةٍ لسدادِ الدينِ المتراكمِ على الوالي، والمقدرِ بمئتينِ وخمسين ألف ليرة، والتي يعرض الوالي للبيعِ على قنصلياتِ مجموعةٍ من الدولِ الإنكليزيّة والإيطاليّةِ والفرنسيّةِ والألمانيّة، نظيرَ تسديدِ المتبقي عليهِ من الديون، وحينَ لا تفلحُ هذه الطريقةُ للسدادِ يتمُّ إلزامهُ بإنجازِ العديدِ من المهامِ كتوظيفِ خبرته لتقويضِ تسربِ أخبار البلدِ إلى الخارجِ وقيامهِ بإنشاءِ أكاديميةِ اتصالٍ خاصةٍ بالقصرِ، واستغلالِ خبراتِهِ لتجهيزِ البارودِ ومقذوفاتِ التفجيرِ وقوابسِ المدافعِ والرصاصِ، ولكنَّ جميع محاولاتِ الوالي للخلاصِ والسدادِ تبوءُ بالفشلِ أمامَ تحايلِ قاطعِ الطريقِ وجشعِ مملكتهِ القائمةِ على مبدأ النهبِ والإغارةِ واللصوصية.
  5. الكشف: في هذا الجزء من الحبكةِ الثانيةِ المضادةِ للحبكةِ الأولى يحاولُ الوالي الانتصارَ لذاتهِ المسحوقةِ بإطلاقِ العديدِ من النكاتِ والشتائمِ والتعريضِ بنساءِ القصرِ ومحظياتِ أميرِ المؤمنينَ، وصولًا إلى الجملةِ الكاشفةِ والإجابةِ المسكتةِ للسؤالِ المطروحِ عليه من قاطعِ الطريقِ وأميرِ اللحظةِ المحتالةِ: 
  • لم تقل لي، ما الصنيعُ الذي قادكَ لتتحول من والٍ إلى يهودي؟! 

قال الوالي دون معرفةِ عواقب هذا الرد على حريته وحياته:

  • ذات البلدِ الذي قادكَ لتتحولَ من قاطعِ طريقٍ إلى ملك.

•••
عبدالرقيب الوصابي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English