"بُرَع"

رحلة إلى قرى السماء!
عبدالكريم الرازحي
March 20, 2023

"بُرَع"

رحلة إلى قرى السماء!
عبدالكريم الرازحي
March 20, 2023

المشي ضربٌ من الصلاة؛ لكن صلاة المشّائين صلاة جارية؛ متدفقة؛ ومفعمة بالحب؛ والمعبد الذي يصلي فيه المشّاء، معبد مفتوح، لا جدران له، ولا سقف، ولا أبواب، قُبّتُه السماء، ومآذنه الجبال والأشجار؛ ذلك أنّ المشّاء يصلي ماشيًا؛ أما ما يميز المشاء عن غيره من الذين يمارسون رياضة المشي، فهو أنّ المشاء يمشي متأملًا ومنتبهًا لكلّ ما حوله، ومتعاطفًا مع كل ما يراه، المشي عنده عقيدة؛ وليس مجرد رياضة. وبالنسبة لنا نحن -أعضاء فريق المشي، وتسلق الجبال- فقد كان المشي عقيدة مناهضة لعقيدة الكراهية، التي اجتاحت مدننا وقرانا في زمن الحرب، وكان هدفنا من المشي ليس أن نحرق الدهون في أجسادنا، وإنما أن نحرق "الزبالة المقدسة" في رؤوسنا، تلك التي جعلتنا نكره بعضنا، ونتبادل الكراهية، كما لو أننا نتبادل الهدايا!

وفي ذروة الحرب التي شنّتها دول الجوار على بلادنا، وفيما كان اليمنيون بمختلف أحزابهم، ومذاهبهم، ومناطقهم، قد اعتنقوا عقيدة الحرب بشقيها؛ وتحمّسوا لها؛ وبرّروها؛ ودافعوا عنها؛ خرجنا نحن المشاؤون؛ ورحنا نمشي عكس الحرب؛ ونحتج بأقدامنا ونعترض، وكانت تلك طريقتنا للتعبير عن رفضنا للحرب بكل صورها، وعن اعتراضنا لكل من ينحاز لها، ويبررها، ويدافع عنها، وكنّا بالمشي، نحرّر أنفسنا من الانحيازات القاتلة، ومن كلّ أشكال التعصب، وأصناف الكراهية، وكان المشي هو وسيلتنا للتعرف على جمال بلادنا، وعلى عظمة وعبقرية شعبنا، ورحنا في طريقنا نكتشف ينابيعَ وشلالات وحصونًا وقلاعًا ومناطق في غاية الجمال، وكانت ينابيع عيون سردد في المحويت واحدة من أعظم اكتشافاتنا، وفيما كانت الحرب تعكس أبشع وأقبح ما في نفوس اليمنيين؛ كنّا نحن نعود من رحلاتنا وننشر في صفحاتنا صورًا لأجمل ما في اليمن.

وخلال سبع سنوات من المشي والبحث عن الجمال، صادفنا الكثير من المخاطر في طريقنا، ومررنا بتجارب قاسية، وتعرّضنا للتوقيف، والحبس، ولاحقتنا العديد من التهم؛ وكان هناك من يوقفنا بحُجّة أنّنا نعمل إحداثيات؛ وهناك من يحبسنا بتهمة أنّنا نصور مواقع عسكرية، وهناك من رجال القبائل من كان يتهمنا بأننا ننهب الآثار، وأنّ لدينا ماكينة للكشف عن الذهب والمعادن، وحتى بين المفسبكات والمفسبكين، كان هناك من يحسدنا على التونة، والبصل، والكدم، ويكتب متهمًا ومتسائلًا:

- من أين لهم؟! ومن هي الجهة التي تموّلهم؟!

وكان صديقي المشّاء طاهر عبدالحق (رحمة الله عليه)، ما ينفك يقول لي:

"يا رازحي، من يوم التحقت بفريقنا والتهم فوقنا، حتى من أصحابنا المفسبكين...".

وكنت أقول له: "من حين عرفت نفسي والتهم بعدي، وحتى أهرب من التهم كلها ذهبت للجبال وللوديان، لكن التهم لحقت بعدي ووجدتني بين خوفين عظيمين؛ الخوف من أن يقبض علينا "أنصار الله"، والخوف من "الضياح"، والمنحدرات، والهُوى السحيقة، التي تتربص بنا، في الذهاب أو في طريق عودتنا".

ومع أنّ مخاطر كثيرة لامستني؛ ولامستها في السبع السنوات الماضية، فإنه لم يحدث أن لامسني الخطر، ولامسته، واقترب مني واقتربت منه كما حدث في رحلتنا الأخيرة إلى منطقة بُرَع.

* في صباح يوم الخميس، 9 مارس الحالي، تحركنا الساعة الثامنة صباحًا من صنعاء إلى منطقة "السُّخنة"، بباص سياحي، وكنا ثمانية مشائين، وهم:

الكابتن سعيد السروري- رئيس الفريق، المشّاء محمد المجاهد، المشاء محمد زهرة، المشاء يحيى الأكوع، المشاء عبدالله الشرعبي، المشاء يحيى الصرابي، المشاء خالد العقبي، والمشاء عبدالكريم الرازحي، والسائق يونس الروضي، وصديقه سعد.

وفي طريقنا، توقفنا في خميس بني سعد بوادي سردد، وتحت ظلال أشجار الموز والمانجو والبابايا، تناول أعضاء الفريق طعام الغداء، وعن نفسي صرتُ أزاوج بين الصوم وبين المشي، وقد وجَدتُ بأنّ الصوم أثناء الرحلات، يُناسبني ويجعلني في حالة توهج؛ وفي أجمل حالاتي.

كانت السخنة، هي محطتنا، وفي المساء ذهبنا نستحم بالمياه الكبريتية؛ في قصر الإمام أحمد حميد الدين، لكننا تفاجأنا بالقصر الملكي، وهو في صورة مزرية؛ مع أنّه بالقليل من العناية والترميم، يمكنه أن يستعيد مكانته، وتتحول وظيفته من قصر ملك، إلى فندق في خدمة الشعب.

في الصباح الباكر، توجهنا إلى محمية بُرَع، لكن المحمية لم تكن هدفنا، والعادة أن رحلات فريقنا تبدأ من نقطة الصفر، بمعنى آخر نحن لا نحسب المسافة التي قطعناها راكبين، وإنما نحسب المسافة التي قطعناها ماشِين. وفي كل رحلاتنا؛ نظل متوترين؛ وقلقين؛ ومضطربين؛ ولا تهدأ أرواحنا؛ إلا بعد أن نغادر الأسفلت.

وعندما بدأنا صعودنا من المحمية الطبيعية، سألني أحدهم، وقال لي: "أين رايحين؟!".

قلت له: "طالعين بُرَع".

قال: "ما تطلعوا تعملوا! تعب عليكم. أنتم شيبات، رُكَبكُمْ خاويات، ما يطلِّعكم! بُرَع هذي ما يطلعها إلا الرباح، وإلا الحمير".

قلت له: "نحن إخوة الرباح، وأصدقاء الحمير".

ومن نقطة الصفر، النقطة التي توقفت عندها الرصدة، وتوقفت السيارة، بدأنا المشي، وبعد أن مشينا كيلو أو أكثر داخل المحمية، وصلنا إلى محطة الحمير؛ وكان وجود الحمير والبقر في المحطة، قد رفع من معنوياتي أنا، الذي أحترم الحمير، وأقدّس البقر، وهناك عند محطة الحمير، وقبل أن نبدأ الصعود، كان علينا أن نصطف مثل تلاميذ المدرسة؛ وننشد نشيدنا، "نشيد المشائين":

(نحنُ المشاؤون الأحرار

عقيدتنا المشيْ

نمشي في الشمسِ

وفي الريحِ

وبين الأمطارْ

نمشي عكس الحربِ

وعكس الرعبِ

وعكس التيَّارْ

المشيُ صلاةُ المشائينَ

نهارًا نمشي

ليلًا نمشي

أصحاب الخطوةِ نحنُ

على ضوءِ نجومِ الليل

وفي ضوء الأقمارْ

نمشي.. ونحتضنُ الأشجار).

ومنذ التحاقي قبل سبع سنوات بفريق المشي وتسلق الجبال (هاش)، ساورني ولأول مرة، شعور بأن رحلتنا إلى بُرَع، هي رحلة إلى السماء؛ وقد بدت لي تلك الجبال، التي انتصبت أمامنا، كأنها المردة؛ أشبه ما تكون بـ"أسانسيرات"، ومصاعد سماوية؛ لكننا بعد وصولنا للقمة، وبعد أن أبصرناها تحتنا ونحن فوقها، شعرنا بالزهو وتملّكنا شيءٌ من الغرور، وبمجرد أن سحبنا عيوننا من الأسفل، ورحنا نشخص بأبصارنا إلى الأعلى، اصفرّت وجوهنا من الرعب؛ وكان ما أرعبنا هو أن القرى، التي توقعنا وجودها، وقطعنا كل تلك المسافة، لنراها؛ ونلمسها؛ لا وجود لها؛ وليس هناك من أثر يدل عليها؛ وبدلًا منها، أبصرنا جبالًا، وقممًا، وذروات جديدة؛ تنبثق أمام عيوننا، وتصيبنا بالدوار. وحين رحنا نقلِّب وجوهنا في السماء، لم نرَ سوى الحمير وهي تهوي من شاهق كأنها النيازك، لكن رؤية الحمير وهي تمرق، وتمر مسرعة، من أمامنا، كانت تفرحنا، وتنعشنا، وتبعث فينا الأمل، وكان يكفي مرور حمار بقربنا، حتى ترتفع معنوياتنا إلى السماء.

ظللنا نصعد، ونواصل الصعود إلى أماكن لا تصل إليها القرود؛ وإلى قمم، وذروات تشبه حلمات نهود العذراوات؛ ولشدة ما كنّا متعبين؛ ومنطفئين؛ رحنا نلوذ بكلمات النشيد؛ علّها تبعث فينا الحماس؛ وتساعدنا في شحن بطارياتنا التي انطفأت، أو مالت إلى الانطفاء:

 "نحن المشاؤون الأحرار".

ولأنّ "بطاريتي لم تشتحن"، رحت من الغضب والتعب أصرخ بملء صوتي:

"نحن المشاؤون الأشرار"

وعندها غضب مني المشاؤون، وقالوا لي:

"نحن أحرار، ولا يحق لك أن تقول بأننا أشرار".

قلت بيني ونفسي:

ونحن نمشي لا وجود للخير ولا للشر، لا وجود للحرية ولا للعبودية، لا وجود للجمال ولا للقبح، لا وجود للخطأ ولا للصواب.

كل الأشياء تتساوى في المشي.

الفوق والتحت، الأعلى والأسفل، القمة والهاوية.

•••
عبدالكريم الرازحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English