مع البردّونيّ في "جَرَش"

شذرات من ذاكرة لم تبدّدها رياح النسيان
نجيب مقبل
April 30, 2023

مع البردّونيّ في "جَرَش"

شذرات من ذاكرة لم تبدّدها رياح النسيان
نجيب مقبل
April 30, 2023

أقلعت بي الطائرة من مطار عدن الدولي وحطت بي في مطار (عالية) الدولي بالمملكة الأردنية الهاشمية، ولم يكن يرافقني في الرحلة صاحب أو رفيق، كنت وحيدًا في وفد شعري يشارك في مهرجان (جرش) عام 1993م، وقيل لي أنّ الشاعر عبدالله البردّونيّ سيذهب لاحقًا إلى العاصمة عمَّان من مطار صنعاء لينضمّ إلى قائمة المشاركين.

قلت في نفسي: البردوني شاعر كبير، ويحق له أن يذهب لوحده ممثلًا ذاته الكبيرة قيمة ورفعة، باعتباره مدعوًّا دعوة مخصوصة لكبار الأدباء وليس ضمن وفد اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين الذي أنا فيه جناحه الصغير، فيما البردوني يعد جناحه الأكبر. 

لكن أحداث الأيام القادمة في المهرجان أثبتت عكس ظني، وأنّ البردوني ليس مخصوصًا بالدعوة لكبار الأدباء، وإنما يشارك في المهرجان ضمن الوفد المذكور، وللأمر حكاية سيأتي ذكر تفاصيلها لاحقًا. 

غرني هذا الاصطفاء لشخصي والاختيار الثنائي الذي جعلني في مركب واحد مع الشاعر الكبير البردوني. 

وظللت طوال الأيام الأولى للمهرجان، وقبل أن تبدأ الفعاليات الشعرية رسميًّا، غير مشغول إلا من المكوث في قاعة جلوس الفندق مع ثلة من الشعراء العرب الضيوف، وزيارات يقودها المنظِّمون، ومنها زيارة المعبد الروماني، وهنالك جلست بجوار الشاعر المصري حلمي سالم على إحدى درجات المعبد، الذي ظلّ متأففًا من حرارة الشمس. ولم يكن البردوني ضمن قافلة الزوار؛ لأنه لم يصل بعدُ إلى المهرجان.

البردّوني بطبيعته وتكوينه الثقافي والإبداعي شاعرٌ إشكاليّ بالمعنى المعرفي للتوصيف، فهو غير نمطي في رؤيته للواقع وفي التطلعات، ثوري في تسلحه بالمواقف الذاتية والموضوعية تجاه الحياة والناس وعلاقته المستقلة مع الحكام والسلطات في الداخل والخارج.

وفي إحدى المرات وبين زحمة الأحاديث الجانبية، جاءني أحد المنظِّمين وطلب مني قصيدة لنشرها في الصحيفة اليومية الصادرة عن المهرجان، فأعطيته قصيدة قصيرة بعنوان (القمر).

ومن هذه الحادثة، كان لقائي الأول مع الشاعر الكبير عبدالله البردوني.

نشرت الصحيفة القصيدة في اليوم ذاته، ولم آبه يومها هل نشرت القصيدة أم لا!

وذات جلسة في الاستقبال، ناداني أحد الشعراء العرب، الذي تعرفت عليه في المهرجان، باسمي: أستاذ نجيب!

وإذا بشخص جالس على مقعد في الكونتر، يأخذ لفة دائرية، ويقابل واجهتي بسؤال:

- "أنت نجيب مقبل؟! يا شيخ، أنا أبحث عنك من أمس؛ البردوني يريدك، وهو في غرفته".

- قلت له: "من أنت؟".

- قال: "ستعرف بعدين، لما نصل إلى غرفة الشاعر".

كان ذلك الرجل هو مرافق وكاتب البردوني، أظن اسمه محمد الشاطبي.

وصلنا إلى غرفة الشاعر البردوني، ورأيته يتكئ على مخدة في السرير ويستمع إلى راديو ترانزستور يقلب في موجاتها.

وقال الشاعر -وهو يسمع باب الغرفة- بصوته الأجش: "هو أنت؟".

  • ردّ عليه الشاطبي: "جئت إليك بطلبك، وهو أمامك". 
  • قال البردوني: "من؟ الشاعر نجيب مقبل؟".
  • قال الشاطبي: "هو بلحمه".

تبادلت مع الشاعر التحية، وراح البردوني يسترسل في الحديث عن أسباب تأخره عن الحضور إلى المهرجان، وأنا أمامه منصت.

ثم قال لي جملته التي ما زال رنينها يطن في سماء ذاكرتي:

- "هنا شاعر من بلادي ولا أعرف عنه شيئًا". 

- قلت في حياء: "ليس هذا بالأمر المهم أمام شاعر كبير مثلكم".

وأردف: "قرأت قصيدتك المنشورة في صحيفة المهرجان، ولما وصلت إلى كلمة (عدن)، قلت في نفسي: عندنا شاعر يكتب هذا الشعر ولا أعرفه؟ فطلبت من أخينا الشاطبي أن يبحث عنك لأتعرف على هذا الشاعر الذي أجهله ولم أتعرف على قصيدة له إلا في جرش!".

 وممّا قال البردوني في تلك الجلسة التي غمرتني: 

- "عدد من الشعراء الشباب في عدن والجنوب تعرفت عليهم وجاؤوا إليّ للتعريف بأنفسهم وبشعرهم، جاءني جنيد محمد الجنيد وأهداني مخطوطة من أشعاره، وأقرأ للشاعر محمد حسين هيثم من خلال ما ينشره في الصحف والمجلات، وهو يعيش في صنعاء بعد هروبه من عدن بعد أحداث يناير".

وواصل الحديث: "محمد حسين هيثم شاعر مجيد، ولكنني أعيب فيه كثرة قصائد المراثي. 

وأعرف شوقي شفيق، أما أنت فلم أسمع عنك، ولم تأتِ إليّ كما فعل زملاؤك الشعراء الشباب، شوقي وجنيد وهيثم وآخرون من الشعراء الشباب".

قلت له: "أستاذنا، الشعر يؤتى إليه، وأنا قليل العلاقات، وربما لا أملك الحماسة لشعري كما يحمل زملائي الشعراء من حماسة فائرة".

قال: "قرأت قصيدتك المنشورة (القمر)، ورأيت فيها شيئًا جديدًا لم أعتده من زملائك. رحت أقول في نفسي: يوجد شاعر من بلدي اسمه: نجيب مقبل، ولا أعرفه أو أعرف شيئًا عن شعره!". 

ذكرَّته أنني سبق أن أجريت معه مقابلة صحفية في مجلة (الحكمة).

قال: "هو أنت؟! لم تطلعني أنك شاعر".

ملأني هذا اللقاء الفريد مع شاعر كبير كالبردوني، بفيض من مشاعر الاعتزاز بما لديّ، وأن يأتي هذا الإطراء والإطناب بل اكتشاف "جديد" فيما أكتب، وهو والشاعر الذي لم يدلِ بدلو في الاحتفاء بشعراء جيلي من الشعراء الشباب كما فعل الشاعر والناقد الكبير د. عبدالعزيز المقالح حين أفرد كتابات لاستكشاف وتتبع المسيرة الشعرية لهذا الجيل في كتابه (البدايات الجنوبية). 

خرجت من الغرفة منتشيًا وسكران من خمر كلمات الإطراء التي أطربني بها البردّوني.

ولكن ما جعلني أشعر بالانتماء لمدرسة البردوني إنسانًا وشعرًا، أنّه انتخب من نقده العابر لقصيدتي المنشورة شيئًا له أهمية قصوى في مرامي الشعري، وهو: الجِدّة.

نعم، هذا ما كنت أبحث عنه في نصوصي وأودّ توصيله للمتلقي. 

ومن يومها، شعرت بحميمية التواصل مع الشاعر البردوني ودفء العلاقة معه، مع ما يمكن أن يرى فيه الآخرون من صعوبة التواصل مع الشاعر البردوني، بسبب ندرة تصريحاته ومواقفه الحادّة النظر للأشياء والرؤى التي تتجاوز حدود النمطية ورفضه أسلوب العلاقات العامة التي تحمل في طياتها المجاملة على حساب الحقيقة. 

وطلب مني طلبًا حميمًا، بالقول: 

- "أزعل إذا جئت صنعاء ولم تزرني".

وبالفعل نفذت طلبه، وكنت إذا زرت صنعاء آخذ طريقًا إلى بيت البردوني.

تفسير شخصي لحفاوة جرش

اكتشفت لاحقًا أنّ من بين الأسباب الإضافية لاحتفاء الشاعر الكبير -بالعبد الفقير إلى الله- هو احترامه للشاعر الذي لا يتوسل التعريف بذاته وبنصوصه عبر نسج العلاقات العامة، والذهاب بالذات والنص إلى من يستطيع الترويج لهما، وقد استحسن الشاعر أن يكتشفني في بلاد الغربة ومن خلال جريدة خارجية، على أن يراني أذهب إلى أصحاب المنزلة الشعرية، وخاصة الكبار منهم، لتقديم واجب التعريف بالنفس وبالنص. 

وأستطيع القول: إنّ البردوني كان يرى أنّ الاحتفاظ بشيء من كرامة عدم توسل الآخرين أو الدعاية للنفس أو وساطة الآخرين تمنح الشاعر المبتدئ شيئًا من الاعتداد بذاته وبشعره، وتعطي انطباعًا عنه أن شعره يقدم نفسه من دون قرابين للتعارف أو للولاء أو الدعاية.

مثل هذه الانطباعات تعرفت عليها من حوارات جانبية مع البردوني، وكشفت معنى الدهشة التي صاحبت قراءته الفجائية لقصيدتي في جريدة مهرجان جرش، وليس من تعريف شخصي اصطنعته في مقابلة خاصة معه.

لقد جسّد البردوني استمرارية هذا الاحتفاء بي يوم إن سئل في إحدى اللقاءات الصحفية في جريدة (الثورة)، عن أفضل الشعراء الشباب في الساحة الشعرية اليمنية، بأن وضعني في أحد أضلاع مثلث شعراء مع الزميل الشاعر المبدع عبدالكريم الرازحي، وشاعر ثالث أظنه القُدسي.

تساءلت حينها: لماذا اصطفاني البردوني من دون الشعراء الشباب في الجنوب، أمثال محمد حسين هيثم، وجنيد محمد الجنيد، وشوقي شفيق، وهم أكثر مراسًا وتجربة.

أظنّ أن للشاعر البردوني -فيما أرى- نظرته في اصطفاء شعراء يتوسم فيهم الأفضلية، ومن هذه الأفضليات ألّا يذهب الشاعر وشعره إليه، بل أن يكتشف هو الشاعر وشعره من دون أي علاقة أو وساطة أو تعريف.

كل ذلك كان في تسعينيات القرن الماضي، فماذا تبقى من هذه الذكريات؟

أخشى أن أكون قد خذلت شاعرنا البردوني بأنني ما زلت في صومعة الانكفاء الشعري وكسل التواصل ونزر النشر، وإرجاء الشاعر في زاوية مهملة مع قوة الحاجة، وتقديم الموظف على الشاعر في سبيل العيش الكريم!

موقف في جرش.. ودروس ملهمة

البردوني بطبيعته وتكوينه الثقافي والإبداعي شاعر إشكالي بالمعنى المعرفي للتوصيف، فهو غير نمطي في رؤيته للواقع وفي التطلعات، ثوري في تسلحه بالمواقف الذاتية والموضوعية تجاه الحياة والناس وعلاقته المستقلة مع الحكام والسلطات في الداخل والخارج وموقفه من النظام السياسي العربي، الذين ينطبق عليهم الحال بواقع ملوك الطوائف.

ولك -أيها القارئ- أن تمعن النظر في نصوصه الشعرية والأدبية والسياسية، لترى كم هو ثوري في الرؤية الإبداعية وفي مواقفه السياسية، فهو محب لثورية الكلمات جماليًّا ومعرفيًّا، وثورية المواقف من خلال انتمائه للمواطن دون الحاكم وللثورة دون دعاة الثورية.

وليس غريبًا أنّ مواقفه العروبية والقومية والإنسانية الواضحة في خياراتها للشعب دون السلطات، ونقده الجارح للأنظمة العربية، قد جلب عليه مواقف من هذه السلطات رافضة له رفضًا مكتومًا، وأحيانًا تبدي رفضًا جهريًّا معلنًا، وربما ترى وراء السكوت عنه وعن مواقفه فعل ينبز هنا أو هناك يشير إلى تحريض ناعم ضده ومعبر عن عدم رضا حول شخصه وحضوره من دون أن يصرح الفاعلون بذلك، ويوجهون له الاستياء السياسي عبر أدوات معينة، تجنبًا من الحساسية الضدية تجاه شاعر كبير مثله وبمكانته.

هذا ما لمسته أثناء مرافقتي للشاعر البردوني في رحلة مهرجان جرش الشعري 1993م في عمان، ففي أحد أيام المهرجان حصل أن كان يوزع علينا برنامج صباحية شعرية، فرأيت أن قائمة الشعراء يتصدرها شعراء هواة ويوضع اسم الشاعر البردوني في المرتبة ما قبل الأخيرة في القائمة!

ذهبت إليه في غرفته وأنا أستشيط غضبًا من تعامل كهذا مع شاعر عربي كبير، أرى أن تخصص له فعالية شعرية خاصة به، لا أن يدرج ضمن شعراء شباب وبعضهم هواة يَلحنون في النحو واللغة ويكتبون نصوصًا هشة، ويضعون اسم شاعرنا الكبير في ترتيب المؤخرة من القائمة.

 قلت للبردوني: 

 - "أستاذ عبدالله، ما هذا الذي أراه من تعامل غير لائق بشاعر عربي كبير بقامتكم حتى يضعوك في مؤخرة قائمة شعراء لا أرى لهم قيمة، وبعضهم لا أسمع لهم وجودًا في الساحة الشعرية العربية؟!".

ابتسم الشاعر الكبير، وكأنه كان يتوقع ما جرى، وقال لي بسخرية مبطنة:

 - "هل تتوقع أن يحتفى بشاعر ينتقد النظام العربي الحاكم؟".

قلت له بطفولية: 

- "إذن، أتمنى أن تقاطع الفعالية حتى تعرف إدارة المهرجان ويدرك منظمو الفعالية الشعرية سبب رفضك المشاركة؟".

 إلا أنه سارعني بالرد:

- "لا، سأذهب؛ لأنني ذاهب إلى الناس أينما وُجدوا، ولا يهمني أن جعلوني في آخر الصف، قصيدتي موجهة للناس، ولست من طبقة الشعراء المتكسبين من الخلفاء والملوك والأمراء، شعري يجب أن يصل إلى العامة".

كان البردوني مكتبة ثقافية وإبداعية متنقلة، كل المعارف والنصوص والتاريخ مغروس في رأس هذا الرجل الاستثنائي، إضبارات التاريخ والآداب والشعر والأحداث والمواقف التاريخية مطبوعة في عقله، لذلك لا يحتاج إلى استحضار كتاب ليقرأ أو ورقة ليستذكر.

ذهبنا إلى الفعالية الشعرية والشاعر البردوني جالس وسط عامة الحاضرين بلا حفاوة أو تفضيل في المكان والمقام، وحين جاء دوره ليلقي وصلته الشعرية كانت القاعة تضج بالتصفيق منذ أن استقام ليأخذ مقعده في منصة الإلقاء حتى آخر قافية في آخر قصيدة شعرية ألقاها على الجمع الحاضر.

سلب من الجميع، شعراء حاضرين أو رواد مستمعين، سمعَهم وإعجابهم وتفاعلهم، ولم تصمت القاعة إلا على وقع خروجه من القاعة.

وقلت في نفسي: هزم الشاعر الكبير أية محاولة من تقليل الشأن والمقام الذي أرادوه -كان من كان- باستخدام التقليل من كبرياء الحضور، وذهب الشاعر إلى من يتوجب الذهاب إليهم بشعره.

 وراودتني فكرة:

- لقد انتهى زمن الشعراء المتكسبين في تاريخ الشعر العربي، أولئك الواقفين على أبواب القصور والإيوانات لتلقي الهبات والمكارم، وهذا زمن الشعراء العرب الذين يولون بقاماتهم وشعرهم إلى واجهة المجتمع والناس، والبردوني الشاعر الذي أخلص لثورية الكلمات والمواقف ظلّ مخلصًا للبحث عن الناس والعامة وللشعب من دون رتوش ووجاهات وبحث عن مقامات رفيعة.

وتبيّن لي من خلال هذه الحادثة العابرة أنه مهما اجترح المناوئون لمواقف ونصوص الشاعر البردوني المغموسة بالثورية معرفيًّا وجماليًّا، من خلال أساليب محاولات الانتقاص والتقليل في الأهمية، فإنها لا تمتلك أي قوة تأثير في خدش القيمة المعنوية والإبداعية النافذة لشعر يخاطب الناس والعامة.

الدرس البليغ الذي تعلمته من هذه الحادثة، التي كان لي شرف مجايلتها واقعيًّا مع الشاعر البردوني:

- اذهب بنَصّك وموقفك الذي ارتأيته مسلكًا وإبداعًا إلى حيث من تريد إيصال صوتك إليهم، حتى لو رأيت من يحاول أن يعيق هذا الوصول بسبب رفض أو تغاير في المواقف أو عدم قناعة أو تشويش متعمد على إيصال رسالتك أو محاولة تقليل في الشأن والمقام.

المهم في الأمر أن تذهب بكبرياء مخصوص في ذاتك إلى حيث تريد أن تصل، ولا تأبه لأي محاولة لتقليل في الشأن والمقام أو أية محاولات بالمساس بقيمتك المادية، ولا تمنح الفاعل المتربص فرصة النوال من هدفك باتخاذك مواقف انفعالية لا تخدم الهدف الذي تروم إليه.

فإذا وصلت إلى حيث تريد، ولو كنت في آخر الصف مقامًا ومنزلة، ستجد من يستمع إلى صوتك وتكسب رهانك في إيصال الرسالة المأمولة.

خارج السرب، وفي صلب البردونيات

يوم أن جاءني خبر رحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني في 30 أغسطس 1999، قلت يومها: إن رحيل الشاعر البردوني خسارة لا تضاهيها إلا خسارة عظماء الشخصيات، ولقد رحل رجل فريد في عصرنا. 

لأن البردوني لم يكن من عصر الكتابة، بل كان ذاكرة شفاهية تمشي على قدمين!

لقد كان التاريخ والأدب والسياسة والشعر قديمه وحديثه، وكل شيء يلتقطه من الكتب أو الصحف أو مسموعًا من المذياع ومن الناس، كان مطبوعًا في عقل البردوني.

البردوني ابن تلك الثقافة والإبداع والتاريخ الشفاهي، إنه ذاكرة فريدة الحفظ والتجميع والترتيب والتحليل التي لا يمكن وصف درجة إتقانها. 

ولذلك كان البردوني مكتبة ثقافية وإبداعية متنقلة، كل المعارف والنصوص والتاريخ مغروس في رأس هذا الرجل الاستثنائي، إضبارات التاريخ والآداب والشعر والأحداث والمواقف التاريخية مطبوعة في عقله، لذلك لا يحتاج إلى استحضار كتاب ليقرأ أو ورقة ليستذكر، بل كان سريع السليقة، حاضر الذهن، سريع الطلقات في التفكير والتذكير، في القول والمجادلة، مملوء بذاكرة فوق بشرية.

أعتقد لو أنه تم عقد مباراة بين البردوني وكمبيوتر آلي، لفاز عليه في سرعة الإجابة.

ولذلك فإنّ البردوني لم يكن شاعرًا مبدعًا فحسب، بل كان ذاكرة فائقة الذكاء تفوق ذكاء العقل البشري.

وكل ذلك بفضل نعمة العمى التي جعلته يستبدل البصر بالبصرة. 

ولي في تأكيد هذه الفرضية موقف مع الشاعر البردوني، يؤكد ويشير إلى ذلك الذكاء الشفاهي النادر الذي تمتع به الشاعر المبهر.

فقد قدر لي وأنا في عضوية إدارة تحرير مجلة (الحكمة)، أن نسقت لقاء أدبيًّا وثقافيًّا للمجلة، وحدّد لي موعدًا للقاء مع الشاعر في مسكنه بموتيل (الشمس) في التواهي بعدن، الساعة الثامنة صباحًا.

وعندما ذهبت لإجراء اللقاء في المكان والزمان المحددين، قادني مرافقه إلى غرفته، وأول ما استقبلني الشاعر، التفت جانبًا، وقال لمرافقه:

- "أين الفطور؟".

- رد عليه: "لم يأتِ بعد".

وعاد إلى جلسته الاعتيادية، وقال موجهًا كلامه لي:

- "تعال نجرِ اللقاء".

وبلهجته الصنعانية، أضاف:

- "عتسبر، لما يجي الصبوح".

وكانت كلمة "عتسبر" مدتها لا تزيد على عشرين دقيقة أو أقل، أصبحت في المجلة أكثر من عشرين صفحة احتوت ما لا يخطر على بال إنسان من طلاقة الكلام وتماسك الأفكار وسرد التاريخ والتواريخ، وحديث فلسفي وإبداعي شائق، وسرد رؤى وأفكار ومدارس في الشعر العربي القديم، ومقارنات فلسفية مع مدرسة المعري والبحتري.

وتطرقت -أنا المحاوِر- يومها إلى أسئلة غير نمطية، ومنها فلسفة العمى في الشعر العربي والأجنبي، ولم يوقف طلاقة الأفكار التي سجلتها بالصوت، وما استوقفني في هذه المقابلة إلا سؤال أخير وجهته للشاعر:

- ما هو اللون الذي تتذكره من طفولتك قبل إصابتك بالعمى؟

عند ذاك، توقف الطود الفكري والأدبي الذي حمله الشاعر البردوني طوال دقائق اللقاء، فتوقف السرد وتملك المكان صمت لا أستطيع وصفه، وشعرت بأن طلقة طائشة من مشاعر إنسانية أصابت قلب الشاعر.

وقال بصوت مبحوح:

- "أظن اللون الأخضر!".

 وهنا اختتمت اللقاء، وغادرت الشاعر، وبقيت اللحظة الأخيرة من اللقاء عالقة في الذهن.

وأنا أردد في داخلي، مبتسمًا:

- "عتسبر"!

كانت تسبيرة فكرية وفلسفية وإبداعية وشعرية خلال دقائق معدودة، أثبتت أنني كنت أمام ذاكرة (فوق بشرية)، وطاقة فائقة الذكاء والحضور الذهني.

لذا أقول: رحيل البردوني رحيل ذاكرة وتاريخ وإبداع، وغياب عبقري من عظماء هذا العصر! 

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English