"بدوي الزبير" في ذكرى الغياب

صرنا نسمعه أكثر ويطربنا أكثر
هشام السقاف
December 3, 2023

"بدوي الزبير" في ذكرى الغياب

صرنا نسمعه أكثر ويطربنا أكثر
هشام السقاف
December 3, 2023
.

أكثر من مبدع وأكثر من موهوب معجونون في شخص الفنان (بدوي زبير) فهو -بلا أدنى- مبالغة حالة إبداعية فنية نادرة، حبانا بها المولى تعالى في الثلاثين عامًا الأخيرة من القرن العشرين، متفردٌ في إخلاصه ومثابرته نحو إتقان هواياته وتجسيم أفكاره، فالعجب أن يبدأ نجّارًا –بحكم حرفة أسرته– ثم يصير سبّاكًا وبعدها ميكانيكيًّا للسيارات، وتعلم أيضًا البناء بالطين والإسمنت، وإلى جانب كل ذلك جذبته الموسيقى إلى عالمها، فبدأ عازفًا للمدروف والناي ثم العود والكمان والأكورديون إلى جانب الآلات الإيقاعية، قبل أن يكتشف الآخرون جمال صوته وحسن أدائه وغنائه، وبعد نجاحه في امتحان (التطريب)، عكف على نبش التراث الغنائي المجهول في قصائد وألحان الدان الحضرمي فأصبح مجددًا متمسكًا بالأصالة والأصول، وتعلق بالغناء الصوفي والموشح الديني فقدم أعمالًا غاية في الإبداع لم تنتشر جماهيريًّا إلا عبره، والأعجب والأدهش أنه في كل عمل تولعت به أصابعه أو انشغل به تفكيره أتقنه أيّما إتقان، حرفيةً أم موسيقيةً كانت هويته، كان مسكونًا بحبّ الناس فأشبعهم إخلاصًا لما يقدمه لهم كصنائعي أو كفنان، فسكن قلوبهم إنسانًا مملوءًا طيبةً ونبلًا وتواضعًا جمًّا، وفنّانًا يفيض إبداعًا وذوقًا أشبع هاجس الروح عندهم.

- فلا عجب أن بكى موته(*) الآلاف، فهو إنسان لا حدود لعلاقاته الحميمة مع مختلف الناس وكل الأجيال، وهو فنّان بمعنى الكلمة وبكل مدلولاتها، بكى فيه عديدون الطربَ النقيّ والذوق الراقي عندما تتجسد لهم في شخص (بدوي) أرواح حداد بن حسن، ومستور حمادي، وسعيد مرزوق، وسالم العيدروس، وكندي، وابن عون، وبلوعل والتوي، ومحمد جمعة خان، وحسين أبوبكر المحضار، ...

ومن ذا الذي لم تصعقه صدمةٌ مفاجئة بحجم الموت تزلزل جميل ذكريات الماضي ولحظات الفرح في الحاضر، ولا يبكي؟!

شبَّ (بدوي) على رفقة الجيل الذي سبقه من الفنّانين والمبدعين ومعاصري الأعلام الفنية الكبيرة في حضرموت، ومنهم كان حريصًا على تلقّي أصول الغناء والتعرّف على خباياه وأسراره ومزاياه بتنويعاته وألوانه المتعددة. 

احتفظ لنفسه بعلاقات وطيدة مع أمثال عيديد بن حسن الكاف (شقيق حداد بن حسن)، ومع المرحوم/ عاشور أمان المغني الخاص لحداد، وكذلك مع عمر خمور، وعوض باسيف، من معاصري ومرافقي محمد جمعة خان، وأيضًا مع الفنان الشعبي المخضرم سعيد عبدالنعيم، وعازف الناي (حسن سواد)، وغيرهم آخرين من الرواة وحفظة الشعر والألحان التراثية القديمة، ومن هؤلاء وأمثالهم استقى أغاني الدان والعوّاديات والموشحات التي استظهرها وعرفها الجمهور من (بدوي) للمرة الأولى.

واتكأ (بدوي) في منهاجه الخاص بتنمية قدراته ومعارفه ذاتيًّا على نفسه وعلى ذاكرته الخارقة وحافظته المدهشة للألحان والشعر من المرة الأولى، وكان حافزه ينبت من داخله ويكبر بتنامي طموحاته للتفرد فنيًّا وبناء (مدرسته) الخاصة -إذا جاز لنا القول- التي تجعله علمًا مجدّدًا وليس مقلدًا أو مرددًا، وكان يبلغ ذروة إبداعه وسعادته عندما يقدم لجمهوره أغنيةً جديدة خصّه بها الشاعر الكبير/ حسين أبوبكر المحضار أو غيره من مؤلفي الأغنية المعروفين، ويتلذذ بما أضافه إليها من لمسات ورتوش في اللحن أو الموسيقى، ومعروف (بدوي) باستطلاعه المسبق لنوعية الجمهور المتلقي والمستمعين له في كل حفلة أو مجلس، فيعطي (لكل مقام مقال)، ولكل جمهور أغانيه التي تلامس مكامن الذكرى والشجن في النفوس، ومهما تتابعت الحفلات في أيام متتالية وفي مواقع متباعدة كان مشهودًا له الحرص على تقديم أغانٍ مختلفة في كل حفل وبدون الاستعانة بكرّاس ولا بديوان، وكأنّ مخزونًا هائلًا من الغناء مكبوتٌ في ذاكرته يتلمس له الفرصة المواتية للتنفيس والإطراب. 

من بين معظم الفنانين اليمنيين الذين التقى بهم، خبراء ومتخصصو المعهد الموسيقي العالمي في نيويورك، خلال جولاتهم الميدانية في عدد من المحافظات اليمنية وقع اختيارهم على (بدوي زبير) لدعوته إلى المعهد في نيويورك لتقديم حفلين خاصين للموسيقى اليمنية أمام جمهور المتخصصين والمهتمين الأمريكيين.

و(بدوي) يمثّل حالة متفردة ارتبطت بها ظاهرة عجيبة قلما نجدها عند فنان محلي غيره، فله مئات الشباب من عشاق فنه والمعجبين به حدّ الهوس، الذين يلاحقون حفلاته في كل المدن ويتتبعون حركاته وسكناته وأخبار تنقلاته، ويحتفظون بالمئات من أشرطة الكاسيت لأغانيه وتسجيلات حفلاته الخاصة والعامة، وهؤلاء هم الجيل الذي أشاع في وسطه بدوي حبَّ الغناء القديم والتقليدي، وغرس فيهم المعرفة بالموروث اللحني والإيقاعي والقصيد الحكمي والحميني لألوان الغناء اليمني ولون الأغنية الحضرمية بصورة خاصة، وكأن بدوي استلهم ذلك كرسالة ذاتية واجبة عليه وفقه الله تعالى في أدائها، فغزا قلوب الشباب المعاصر من جيل التلفزيون والفيديو كليب، وهو الفنّان الذي لا يظهر على شاشة التلفزيون إلا نادرًا جدًّا. 

من بين معظم الفنّانين اليمنيين الذي التقى بهم خبراء ومتخصصو المعهد الموسيقي العالمي في نيويورك، خلال جولاتهم الميدانية في عدد من المحافظات اليمنية، وقع اختيارهم على (بدوي زبير) لدعوته إلى المعهد في نيويورك لتقديم حفلين خاصين للموسيقى اليمنية أمام جمهور المتخصصين والمهتمين الأمريكيين، وقد كتبت عنه المجلة الأسبوعية المختصة بالبرامج الترفيهية الأسبوعية لمدينة نيويورك (TIME OUT NEW YORK) عند إعلانها عن حفلاته في عددها الصادر في 23–30 مارس 2000، تحت عنوان (بدوي: أصوات معالم الصحراء من اليمن)، ما يلي:

"بدوي الفنان وعازف العود (50 عامًا)، الذي ينتمي لمدينة شبام في حضرموت المعروفة لدى بعض الغربيين بمانهاتن اليمن، يعزف الموسيقى التقليدية التي لم تتغيّر خلال قرون، وبدوي يعتبر من الفنانين المعروفين جيدًا في منطقة الخليج، حيث إنّ معظم المهاجرين من العمال لا يسافرون من بلادهم إلّا ومعهم كاسيتات (بدوي)، والموسيقى التي يعزفها ويغنيها خليط في مصادرها من الموسيقى العربية والصحراوية الإفريقية، وسيصاحبه في حفلته يوم 24 مارس 2000م، العود فقط الذي يناغم به على كل الألوان التقليدية وفق أسلوب (بدوي) المتناغم البديع" انتهى. 

وفعلًا أبهر (بدوي) حضور حفلاته في أمريكا وأجاد في تقديمه للغناء اليمني بألوانه المتعددة، حتى إن المعهد تعهّد برعاية إنتاج ألبوم على الـCD خاص به، وتلقّى عروضًا مماثلة لإحياء حفلات في فرنسا وإيطاليا،، فلم يمهله القضاء والقدر للوفاء بها. 

و(بدوي) الدرويش دائم الابتسام والمداعبة والملاطفة مع كل من يقابله، كان يُجهد أعصابه وقلبه للظهور كذلك، كان يكابد ويعاني متاعب عنيفة في داخله لم يحاول أن يزعج بها حتى أقرب الأقربين إليه، ربما لأنهم كُثر، وظلّ يحتملها لوحده، مؤثرًا صبره على نفسه، ولا صبر الناس عليه –كما يقول المثل الدارج- كان ينفّس بالقليل منها فيما كتبه من كلمات أغنياته التي دخل بها ميدان التأليف الغنائي وصلت حجم الديوان، نفـَّسَ فيها وبها بعض آهاته، أو فيما يغنيه من أغنيات (محمد سعد عبدالله) التي كان يفصح عن ذوبانه معها وفي عشقها والتأثر بصاحبها العظيم.

وكان فيما بدا يجد في غناء القصائد والأناشيد الدينية لشعراء الصوفية، كالحبشي والسودي وبعض أغاني (المحضار) الروحانية بعض الترويح عن النفس والسمو بها فوق منغصات الحياة الفانية.

و(بدوي) -كغيره من فناني اليمن اليوم- تأخذهم بعيدًا عن إبداعهم هموم تأمين لقمة العيش اليومية لأسرهم وتوفير متطلبات الحياة بعزة نفس وكرامة، فهذا (بدوي) الموظف في وزارة الثقافة والسياحة منذ أكثر من عشرين عامًا لم يتعدَّ ما يتقاضاه شهريًّا حتى وفاته، الثمانية الآلاف ريال يمني (50 دولارًا).

وهكذا كان (بدوي) يدفع ثمنًا غاليًا من أعصابه وإنهاك قواه البدنية في السعي وراء حفلات الزواج (المخادر) هنا وهناك، ومن مدينة إلى أخرى لتأمين لزوم استمرار الحياة والعطاء. 

وشاءت الأقدار أن يدفع حياته كلها ثمنًا لذلك السعي، في يوم 18 نوفمبر 2000، عندما تعرّض لحادث المرور المؤلم في طريق عودته من الشحر بعد إحيائه حفلة زواج هناك للوصول إلى مدينة (تريم) لإحياء حفلة ثانية، فحملته الأقدار إلى مقبرة (جرب هيصم) في شبام عوضًا عن تريم ليخلد فيها ويهدأ عند خالقه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلا عجب بعدئذٍ أن كانت جنازته بحجم محبته في القلوب بما لم تشهد مدينته الغالية شبام مثيلًا من قبل، البكاء حدَّ العويل تسمعه من النائحات في الشرفات، وتشاهد في موكب آلاف المشيعين حالات فقدان الاتزان والسيطرة على وجع الحزن من بعض الشباب. 

وبعد، رحل (بدوي) وشغر مكانه في القلوب، وجفّ نبعٌ من الطرب الجميل، وبُترت وشيجة رابطة إنسانية نبيلة عند كثيرين أحبّوه إنسانًا، وليس فقط فنّانًا يجمع في شخصه أكثر من فنان. وأجدني قبل الدعاء له من صميم القلب بالمغفرة والرحمة أردّد معه أغنيته، من تأليفه وألحانه: 

وداعًا يا سماوات المحبة وداعًا.

_________________

(*) تُوفي في 18 نوفمبر2000. 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English