في حضرة العطروش

جدال حول أغنيتين، وفوبيا غرائبية
نجيب مقبل
February 27, 2023

في حضرة العطروش

جدال حول أغنيتين، وفوبيا غرائبية
نجيب مقبل
February 27, 2023

محمد محسن عطروش، فنّان رائد من روّاد الأغنية الحديثة التي انتشرت في عدن في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فنّان مثقّف ومتعلّم تقول سيرته الذاتية إنّه درس الأدب الإنجليزي في مصر، وتخرج من جامعة القاهرة في الأدب الإنجليزي سنة 1967م، فقد أجاد اللغة الإنجليزية لغةً وأدبًا بجدارة، وحصل على وسام عيد المعلم في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. وبعدها عمل معلّمًا لِلُّغَة الإنجليزية والرياضيات أيضًا، وعندما أصبح فنّانًا مرموقًا نُقل إلى وزارة الثقافة.

الفنّان العطروش له جذور في الثقافة الشعبية والفلكلورية، فهو ابن دلتا أبين حيث محلج القطن وإدارة الزراعة، وهو ما جسّده في أجمل أغانيه الشعبية. ولعلّ الطابع السياسي والوطني والحماس الثوري قد أخذ من تاريخه الفني الغنائي مساحة أكبر من أقرانه الرواد، سواء في مرحلة الكفاح المسلح أو في فترة الدولة الوطنية في جنوب اليمن، التي نشأت بعد الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967؛ أي في مرحلة ما كان يسمى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، حيث كان العطروش الصوت الوطني والثوري.

وهذا ما صبغ الفنّان الكبير العطروش بصبغة فنّان الأغنية الوطنية والثورية، بدت كأنّها جاءت على حساب ما قدّمه من فنّ غنائيّ رفيع ومتجدد ومتعدد في مختلف الألوان الغنائية الأخرى (عاطفي، فلكلوري، شعبي، حداثي) صار بصمة في تاريخ الغناء المعاصر.

ولعل الحديث عن ارتباط الفنّان العطروش بالسياسة وبالقادة السياسيين ووعيه الوطني والثوري وتأثره بأفكار حركة القوميين العرب، يحتاج إلى بحث ودراسة متأنية وموثقة.

أفكار أخرى

صادفته بصورة مفاجئة في خميس أول من شهر فبراير/ شباط 2023، في مقيل بفندق بالمعلا، وبعد حديث استهلاليّ بدأت حواري مع الفنّان الكبير محمد محسن عطروش في هذا المقيل الراقي بروّاده، وكان كل من أتى بعدي يرحّب بالفنّان الكبير ويعيد "التيمة" نفسها التي قلتها له في البداية؛ "هل ندعوك بالدكتور؟"، ربما رأى العطروش هذا الاستهلال مني وممن حيَّوه بعدي بروح الاستنكار للأمر بسبب عدم قبول البعض بالفكرة من أساسها، وهذا رأي خاطئ من البعض.

فعلى العكس من ذلك، الفنّان عطروش يستحق هذا اللقب وأكثر منه، ولكن وجهة نظري كانت تتجّه إلى التنوير بأنّ الألقاب زائلة مهما بدت قيمتها لامعة، وربما لا تفي بتقدير المبدعين المؤسسين، الأعلام الكبار في الفنّ وفي غيره هم أكبر تاريخيًّا وإبداعيًّا من ألقاب قد يحملها أنصاف المتعلمين.

وتكريم العطروش شيء جميل ولفتة معنوية تستحق الإكبار من جامعة عدن، إلّا أنّني ابتغيت فقط التنويه إلى أنّ أي تكريم للعطروش، يظلّ قاصرًا أمام عطائه الفنّي والغنائي الزاخر. 

ولست ممّن ينكر عليه هذا النوال الأكاديمي الفخري، كما يحلو لقلة ناشزة، إنّما أردت أن أعلي من شأن العطروش كقيمة فنية وإبداعية ترك إرثًا فنيًّا ما زال يرن في آذاننا وشكل ذائقتنا الفنية التي تربينا عليها عبر مذياع وتلفزيون عدن وفي الحفلات الغنائية والجلسات الفنية الخاصة، خاصة أنّ الإرث الفني للعطروش مرتبطٌ بتحولات سياسية ووطنية فاصلة في حياة الشعب، وكان العطروش فنّانًا وطنيًّا بامتياز في هذه المراحل الفاصلة من تاريخنا الوطني، حاضرًا بألحانه الحماسية والوطنية وكلماته الثائرة التي كان يؤلف نصوصها ويقدّمها بأدائه الطربي أو الحماسي المكتمل الأركان فنيًّا وإبداعيًّا. 

إذا كان من تقييم لإبداعه في الغناء الوطني، فإنّ الواجب المهني والتاريخي يتطلب النظر إلى هذا الإبداع من خلال قراءة تاريخ هذه المرحلة وتكويناتها وتطلعات أبنائها وسياسة قادتها، وأحلام البسطاء من الفلّاحين والعمّال والبدو الرحل والجندي والمرأة.

 نعم، العطروش يستحق مثل هذا التكريم بل وأكبر منه، لأنّه الرمز الباقي للفنّ والغناء، يسعى بيننا، بعد أن غادرنا عظماء الغناء أمثال المرشد، وأحمد قاسم، ومحمد سعد عبدالله، ومحمد عبده زيدي، والعزاني، وإسكندر ثابت، وقبلهم خليل محمد خليل، وقائمة ذهبية من الفنّانين الكبار.

تكفي أغنيات العطروش (برع يا استعمار)، و(يا شباب يا شباب)، أن تظلا ملحمتين غنائيتين؛ أولاها لمرحلة الكفاح المسلح، والأخرى لبهجة الشعور بطعم الاستقلال والانعتاق الوطني من ربقة الاستعمار. 

بين "برع يا استعمار"، و"يا شباب يا شباب"

لم يقف حواري الهادئ للفنّان العطروش في هذا المجلس الطيب عند هذا الحدّ، ربما من أجل استغلال وجوده بيننا، وثانيًا لكسر رتابة صمت الجلساء عندما رأيت أنّ البعض ذهب إلى موبايله وسرح مع أفكاره وتوحده مع منشوراتها وصورها، فوجهت كلامي للفنّان العطروش، قلت له:

 -أريد أن أطرح عليك وجهة نظر خاصة بي، وتتلخص بشعوري الخاص بأن أغنية (يا شباب يا شباب)، لم تأخذ حقّها في الشهرة أمام ما أخذته أغنية (برع يا استعمار). وأضفت هذه الأغنية (يا شباب...)، ارتبطت عندي منذ كنت طفلًا يومها مكانيًّا وزمانيًّا باللحظات الأولى لمشاعر الناس بالابتهاج وفرحتهم بيوم النصر، الاستقلال.

ودخل في الخط أحد الجالسين؛ فعلًا ارتبطت هذه الأغنية بخروج الناس إلى الشوارع فرحين مهللين، وهم ذاهبون جماعات جماعات إلى مدينة (الشعب) لاستقبال وفد الجبهة القومية برئاسة الرئيس الراحل قحطان الشعبي! وهذا ما كنت أقصده؛ أنّ هذه الأغنية كانت مجايلة لفرحة الشعب الذي خرج مهللًا بيوم الاستقلال.

 تنهد الفنان العطروش، وقال: 

 -"هذه الأغنية تعد أول عمل غنائيّ لفنّان بيوم الاستقلال، وفعلًا هي أغنية مبهجة وتفاؤلية ومعبرة عن بهجة الاستقلال وحلاوة أيامه الأولى بعد رحيل آخر جندي بريطاني عن أرضنا". 

واستطرد: "هذه الأغنية أيضًا في مضمونها مستقبلية؛ لأنّها تخاطب الشباب، الجيل الصاعد، الذي سيبني البلاد ويعمرها، لأنّهم كانوا أبناء تلك المرحلة ومستقبلها". قاطعته: "نعرف أنّ الأغنية من ألحانك، فمن كاتب كلماتها؟"، كان سؤالًا بليدًا مني، نظرًا للفتته الاستنكارية نحوي، وقوله :

- "ومن سيكتب مثل هذه الكلمات غيري!". استدركت متلعثمًا: "أنتم يا أبا عبدالوهاب من الفنّانين القلائل الذين يملكون الوعي والثقافة والذوق الأدبي والإبداعي، ولذلك لا غرابة أن تكون الأغنية من كلماتك". في هذه الفينة كان أحد الزملاء الذواقين قد دخل على اليوتيوب في (جوجل) واستخرج هذه الأغنية ليسمعنا إياها.

وفي لحظات الاستماع لأغنية (يا شباب، يا شباب)، كانت مشاعر الانتماء لكل كلمة فيها أو وصلة غنائية تنتقل من مذهب إلى آخر. كان العطروش مندمجًا مع الأغنية، ملوحًا بيديه تارة، وتارة أخرى يسرح مع اللحن، وأحيانًا يردّد كلمات المقطع حتى انتهت الأغنية. 

خلاصة، أردت بمشاعري وذائقتي الطفوليتين اللتين ارتبطتا مكانيًّا وزمانيًّا بذكريات مبهجة عن أيام وطنية في يوم الاستقلال، بكل ذلك استطعت أن أستخرج من الفنّان الكبير محمد عطروش تعليقات على أغنيته الخالدة (يا شباب).

كان المذياع من إذاعة عدن يبث كثيرًا هذه الأغنية، واستمر يواليها علينا نحن -السامعين- كقطعة غنائية تنتمي إلى زمن جديد.

مسيرة غنائية ووطنية حافلة

مسيرة الفنّان العطروش مع الأغنية الوطنية، أخذت مساحة واسعة من تاريخه الغنائي، ولكثرة هذه الأغاني، وبساطة التعبير الغنائي والموضوعات التعبيرية التي خاضها في هذا المجال، كان هناك من يقول إنّ العطروش إذا أعطيت له الصفحة الأولى من صحيفة (14 أكتوبر) أو (الثوري)، فلن يتوانى عن تلحينها وغنائها.

قد يبدو هذا الوصف تندُّريًّا في ظاهره، لكنه من وجهة نظري يوضح أنّ العطروش كان عبقريًّا في التعامل مع البساطة، فهو فنّان مطواع مع المحطات والمواقف الوطنية الحاسمة والعادية، وطواعيته تأتي من ثقافته المتعددة المشارب، في الكتابة وتحليل الواقع، ومن مواقفه الوطنية المعبرة عن روح الشعب والوطن ومن انتمائه الوطني للأرض والإنسان.

العطروش رائد في التعاطي مع الأغنية الوطنية، بسيط في اختياراته الكتابية والتلحينية، وعميق في التعبير عن مشاعر الوطن يستنبطها من مواقف وموضوعات قد تبدو للبعض أنّها تكريسية أو مجانية المعنى، لكن الحقيقة تقول إنّ العطروش كان معجونًا برائحة الأرض وعرَق الإنسان، مع الفلّاح والجندي والمرأة والمعلم والصيّاد والراعي. 

لا غرو في ذلك؛ فهو ابن الفلاح في الحقل، والجندي في الحدود، والأستاذ في المدرسة، والعامل في المصنع، والراعي في المرعى، والمرأة في المزرعة والمصنع وفي دروس محو الأمية.

كان ابن المرحلة الوطنية لدولة الاستقلال الوطني التي كان يتوق لتحققها، وحين تحققت الدولة الوطنية الوليدة غنّى لكل شيء فيها، بروحه وعقله وبإبداعه الغنائي.

وإذا كان من تقييم لإبداعه في الغناء الوطني، فإنّ الواجب المهني والتاريخي يتطلّب النظر إلى هذا الإبداع من خلال قراءة تاريخ هذه المرحلة وتكويناتها وتطلعات أبنائها وسياسة قادتها، وأحلام البسطاء من الفلّاحين والعمّال والبدو الرحل والجندي والمرأة.

من ناحيته، قد يكون العطروش بحاسته السادسة السياسية، قبل الفنية، قد أدرك أولوية الوظيفة السياسية الأمنية التي قد يقوم بها أفراد في هذه المنتديات. وهذا هو تحليلي الشخصي لهذه الفوبيا التي تملّكت فنّانًا كبيرًا في مجلس أدبي لا شأن له بقضايا السياسة. 

اختصارًا؛ العطروش في أغانيه الوطنية تحديدًا كان ابن (جمهورية اليمن الجنوبية- الديمقراطية الشعبية) بما عاش فيها من مشاعر وطنية ومواقف سياسية وتطلعات إنسانية، بعيدًا عن التحزب والانتماء الأيديولوجي والعقائدي الشمولي، وإنّما بذلك القادم من روح الفدائي في حرب الاستقلال، ومن تطلعات الفلاح الفئات الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة، حسب التعبير السياسي السائد يومذاك. 

فوبيا غرائبية

تعددَ حضوري إلى جلسات للفنان الكبير محمد محسن عطروش، وخاصة في منزل الشاعر الغنائي علي حيمد ابن أبين والقريب روحيًّا من الفنان الكبير العطروش، الذي كان يُحضره إلى جلساتنا النوعية التي كانت تضمّ فنّانين، أمثال: الفنّان والناقد عصام خليدي، والشاعر الراحل عبدالله باكدادة، والفنّان نجيب سعيد ثابت، والإعلامي الراحل عبدالقادر خضر، والإعلامي صلاح بن جوهر، والفنّان الشاب شريف ناجي، والرياضي الراحل عوضين، وغيرهم. 

وكان حضور الفنان الكبير العطروش، أولَ الأمر، مناسبةً خاصة لعلي حيمد باستضافته في منزله، ومناسبة عامة لتقديمه إلى جمعنا الطيب والنوعي الذي لطالما كرس مثل هذه اللقاءات لحوار مفتوح حول الفن وأهل الفن والزمن الغنائي الجميل في عدن الذي كان العطروش أحد رواده الأوائل، وهذه اللقاءات هي تواصل لنشاط جمعية تنمية الموروث الشعبي التي كرست اللقاءات لتحويلها إلى حلقات نقاش منظمة أو عفوية. 

وخلال جلساتي القليلة التي شارك فيها الفنّان الكبير، لم أحظَ بقربٍ روحيّ ومعرفة وثيقة، أو اتصال دائم معه، كما كانت علاقتي الخاصة مع الفنّان الكبير محمد مرشد ناجي، الذي كان بتواضع جمّ لا يتوانى عن الاتصال بي للسؤال أو الاستفسار. لذا فإنّ المعرفة الاتصالية بيني والفنّان العطروش كانت قاصرة.

عمومًا، أنا من عادتي في كل جلسة مقيل إذا هدأ الحوار وصمتت ألسن المحاورين، أذهب أنا إلى أوراقي وقلمي أسجّل فيها الخواطر الإبداعية التي تهطل على عقلي، وأحيانًا أراجع بعض قصائدي ونصوصي الشعرية والنثرية، وأندمج في الكتابة منفصلًا عن الجمع، وغالبًا ما يكون انكبابي على الكتابة في الربع الأخير من الجلسة.

وفي إحدى الجلسات التي جمعتنا بالعطروش، ويومها لم تربطني بالفنان علاقة معرفة كافية، بقدر ما كانت علاقته متينة مع الشاعر الغنائي علي حيمد، صاحب الضيافة...

يومها حدث أمرٌ غريب لم يخطر على بال أحدنا أنا أو علي حيمد. ففي نهاية هذه الجلسة ساررني الزميل الشاعر علي حيمد على عتبة باب منزله أثناء توديعي بصوت ممازح؛ قائلًا: "العطروش قال لي: أيش يكتب هذا الزميل؛ يكتب تقارير؟!". كان رد حيمد؛ بحسب ما أخبرني: "الزميل نجيب مش من هذا النوع، هو شاعر وأديب وصحفي ومن عادته أن يكتب في جلساتنا". تبادلت مع حيمد ابتسامات وداع ممزوجة بدهشة حول ما حصل، وبغصة مني لم أبدها لأحد. 

عدت أدراجي، ليلتها، وأسئلة عديدة ظلت تطاردني وتمطرني بتساؤلات: 

-  لماذا هذه الفوبيا التي تطارد العطروش؟ 

-  هل فعلًا هنالك في أوساطنا من كان يكتب تقارير استخباراتية لأجهزة أمنية، وهل عانى العطروش في مسيرته مثل هذه الحالات وتسبّبت له بالضرر؟

أقول في نفسي؛ لا يمكن أن يقفز إلى ذهن الفنّان العطروش مثل هذا التوجس القهري إلا لسبب ومعاناة سابقة، وأن ارتفاع حدته إلى هذا المستوى لا يعبر إلا عن سوء نية عن جلساء مقربين ربما أساؤُوا إليه، أو أنه شعور متعاظم لديه من حالات قهر وغبن وهو الفنان الذي ارتبط بمتغيرات سياسية متأرجحة ومتأزمة وأحيانًا دموية. 

في الحقيقة، لا أخفي شعوري بأنّ هنالك خدشًا معنويًّا ما أصابني من جراء هذه الحادثة بأن يتصوّر أحدٌ ما -مهما كانت منزلته- هذا الانطباع السيّئ عن لحظة انكبابي للكتابة في أجواء الجلسة التي عادة ما تختار الثرثرة، وخاصة الثرثرة السياسية في أحوال البلاد والعباد سبيلًا للقيا على (قرحة العشب الأخضر)، ولم تتعوّد من أحدهم، مثلي أنا، أن يصطفي من وقت الجلسة (قرحة الكتابة) وهي عادتي في استغلال الوقت للكتابة إذا فرغ الكلام من الحوار والنقاش الهادئ والنوعي كعادة مقايلنا أنا وزملاء الإبداع والفن. 

ربما ألتمس العذر للفنان الكبير العطروش باعتباره فنّانًا ارتبط بالسياسة وأهلها، وليس غريبًا أن يقترف أحدهم مثل هذا النشاط المخزي نحوه، أما أجواؤنا نحن -المبدعين البسطاء- فبعيدة كل البعد عن هذه المؤامرات، لأنّ اشتغالنا على الإبداع، وليس على السياسة، فالمبدعون الحقيقيّون عمومًا لا يستهوون، بل لا يفكرون مجرد تفكير في القيام بمثل هذا الدور الدنيء، إلّا من ارتضى لنفسه أن يكون عبدًا لسلطان أو سلطة أو جهاز أمن أو ما شابه.

 بقيَ استطرادٌ بسيط في هذا الموضوع، وهو: ربما يكون كثرة إنشاء المنتديات الأدبية والاجتماعية في مرحلة ما بعد حرب 1994، مع احترامنا وتقديرنا لرجال في الفنّ والصحافة والإبداع والشخصيات العامة الذين أسّسوا منتديات نوعية في عدن، قد يكون تم تأسيسها من قبل البعض القليل غير المتخصص أو المحترف والذي له قرابة سياسية بالسلطة الحاكمة آنذاك. ربما هذا التوجه العارم لإنشاء المنتديات يطرح سؤال (لماذا)، وتجعل هاجس الفنان الكبير العطروش ممكنًا!

أحد هذه التوجسات يكمن في السؤال حول أغراض تأسيس هذه المنتديات التي ظهرت فجأة، وربما كان الغرض منها رغبة السلطة الحاكمة بعد عام 1994، في استخدام أسلوب التنفيس والتعبير عن الحالات الضاغطة التي طرأت لأسباب سياسية معروفة بعد الحرب، وأيضًا ربما تستخدم لمعرفة توجهات الرأي العام في عدن وجنوب اليمن باستخدام وسيلة تجميع النخب وقادة الرأي في تجمعات نخبوية يستطيع من خلالها بعض عسس السلطة كتابة مثل هذه التقارير الاستخبارية، للخروج برؤية حول الوضع الراهن يومها. وربما كان الفنّان العطروش قد حمل قرن الاستشعار الذي قاده للوصول نحو هذه الفوبيا. 

إلّا أنّ من الواجب المهني والتاريخي القول إنّ الجميل والأجمل في ظهور هذه المنتديات، هو أنّ جلّها أدّت دورها التنويري والتثقيفي في المجتمع، وأنّها بمجملها حادت عن هذا المطلوب السياسي، بل كانت محطات استفاقة إبداعية ومجتمعية وسياسية في عدن ومناطق الجنوب.

من ناحيته، قد يكون العطروش بحاسته السادسة السياسية، قبل الفنية، قد أدرك أولوية الوظيفة السياسية الأمنية التي قد يقوم بها أفراد في هذه المنتديات. وهذا هو تحليلي الشخصي لهذه الفوبيا التي تملكت فنانًا كبيرًا في مجلس أدبي لا شأن له بقضايا السياسة.

إنّها تداعيات من وضع سياسي مختل، في ظلّ سلطة غاشمة وفي مرحلة ما بعد حرب، أوقعت الفنّان الكبير كالعطروش، في براثن مثل هذا التوجس الأمنيّ الحادّ!

 لمسة وفاء

هذه خطرات لي، عن قامة فنية كالفنان محمد محسن عطروش، أردت أن أعايشها مع القارئ كما هي، بعيدًا عن كتابات التطنيب الممجوج. وهذه الخطرات لا تمس شعرة من قيمة شخصية استثنائية كان لنا أن نلتقي بها ونتواصل معها، ونعرف مداخلها في رؤية إنسانية ومعايشة عن قرب.

وكما جرت العادة؛ عندما أكتب شخصية أحاول أن أعايشها كما هي، لا أن أصنع منها صنمًا، فالفنّان إنسان قبل كل شيء، وعلينا أن نفتح مغاليق أبوابها، فثمة ما هو شخصي فيها يقود إلى أمر عام يمس الجميع.

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English