تجليات الفن أثناء وبعد الربيع العربي 3-8

معالجة الندوب التي خلّفتها الممارسات الماضوية
د. آمنة النصيري
April 14, 2022

تجليات الفن أثناء وبعد الربيع العربي 3-8

معالجة الندوب التي خلّفتها الممارسات الماضوية
د. آمنة النصيري
April 14, 2022

سنوات ما بعد الربيع، تداعيات صادمة:

آه يا وطن غاوي عفن

جبان ورافض للتجديد

كان جميع ما فيك حسن

دلوقتي فيك كلاب وعبيد

ده الحر يعشق حب الوطن

والعبد يعشق بوس الايد

           عبدالرحمن الأبنودي

الأبيات السالفة للشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، تختزل خيبة الأمل والوجع والغضب، وربما القلق أيضًا، وهي انفعالات أصابت أهل الإبداع، كما لامست المواطن العربي، تحت ضغط المخاوف من الاستتباعات التي لحقت بالثورات. 

ومن البدهي أن وظائف الفنان، وطبيعته، تمنعه من التكيف مع الواقع والارتكان إلى المقايسات الأبستمولوجية للذاكرة التاريخية، وبالتالي قابلية الاستكانة، وانتظار ما سوف يأتي.

في الأعوام التي تلت الثورات، خفتت جذوة الفنون نوعًا ما عما كانت عليه في 2011، وذلك نتيجة العديد من الظروف والملابسات والإكراهات التي واجهت حركتي الفن والمجتمع على حد سواء، خاصة أن بعض دول الربيع العربي ما لبثت أن انزلقت في العنف والحروب الداخلية، والثورات المضادة، فالأنظمة الديكتاتورية –بحسب ما تدلل الشواهد التاريخية– تخبئ في طياتها قوى واحتقانات وإشكالات تطفو على السطح بمجرد قلقلة المنظومة السلطوية فتقع لفترات زمنية –قد تطول أو تقصر اعتمادًا على طبيعة تراكيب القوى المتصارعة وشبكة العلاقات الداخلية لكل بلد– في حالة من الفوضى والصراع. 

إلا أن أغلب المحافل الفنية أو الإبداعية في عموم أنواعها، وتحديدًا التي انتمى أصحابها إلى الفكر الثوري، ظلت تتحدى البنيات القمعية، وتعالج الندوب التي خلفتها الممارسات الماضوية في جسد المجتمعات؛ بينما سعى بعضها لأن ينكأ الجروح عبر إثارة الأسئلة المربكة حول الأسباب التي أدّت إلى تغول الأنظمة، وسقوط الشعوب في فخاخ القهر والعسف والاستلاب، بغرض تحجيم دور السلطات وإيقاف دوائر العنف وصيرورته في الحياة الإنسانية، كما درجت بمختلف الأداءات الفنية والتقنيات على تفكيك الأزمنة الدرامية المأزومة التي يمر بها الأفراد، بينما أمعن فنانون في التبصر المعرفي–الفني الذي يمكن أن يفضي إلى رهانات التسامح والسلم الاجتماعي، ورأب تصدع الحياة بين جميع الأفراد والفئات الاجتماعية، وتجاوز كل سوءات الماضي.

في السينما –على سبيل المثال– توالت تجارب تتمثل معالجات درامية مختلفة، ذات صلة وثيقة بمفاهيم الثورة والتغيير وبالعنف أيضًا، من هذه التجارب الفيلم "بعد الموقعة" من إخراج يسري نصر الله، ويدور حول الوعي الذي يحوّل الفرد من أداة بيد النظام (جلّاد) إلى فاعل إيجابي ومن ثم ضحية، فالبطل يعمل خيّالًا، ويشترك في قتل الثوار داخل ميدان التحرير في "موقعة الجمل"، التي سميت كذلك لأنه تم مهاجمة الميدان من قبل النظام السابق بالخيول والجمال، ثم في سياق الأحداث يستوعب البطل مشروعية الثورة، ويشارك في حماية الثوار في "موقعة ماسبيرو" ويقتل هناك. الفيلم من بين أعمال درامية نادرة عالجت إحدى وقائع الثورة المصرية، إلا أنه على المستوى الفني لم يخلُ من مباشرة التعبير وبعض الخطابة، وكثافة الانفعالات؛ الأمر الذي حد من قيمته الفنية، ربما يُرَدّ ذلك إلى الفترة الزمنية القصيرة بين زمن الثورة، وزمن صناعة الفيلم والتي لم تسمح بعدُ باستيعاب الحدث وتشكل الرؤية الفنية الملائمة لصياغته، فالكثير من الغضب قد يفسد العمل الفني وقد يأتي على حساب فنية النص، وهذا ما حدث.

أما (الشتا اللي فات) من إخراج إبراهيم البطوط، فيصور العلاقة الشائكة بين أجهزة الأمن والمواطن، والتي تخلق تعقيداتها، وتنتج مواقف شديدة التداخل تفسد الحياة.

ويعتبر الفيلم المصري أيضًا ( نوارة)، إخراج هالة خليل، أحد أنجح الأفلام التي عالجت تداعيات ما بعد الثورة، ويتناول بشكل محوري هروب الأموال خارج مصر من قبل أقطاب النظام السابق، وتواطؤ المحيط في خروجها، وهي ثروات منهوبة بفضل منظومة الفساد، ويحق للبلد الإفادة منها. 

وعن الدمار الذي أصاب الحياة المجتمعية، والبؤس وانهيار الإنساني والقيمي يدور الفيلم التونسي (مدام كوراج)، من إخراج مرزاق علوش، الذي يحكي عن أسرة تعيش وضعًا مدمرًا، بين الأم السلفية وابنة تمارس البغاء، وولد مدمن، ويصور فيلم تونسي آخر هذا الانهيار في معالجة مختلفة، ففي (على حلة عيني) من إخراج ليلى أبو زيد، محاولة للوقوف على مظاهر الخلل التي لحقت بالمجتمع بفعل فساد السلطة وتنامي القمع، ومن هنا يتمركز العمل حول مسببات الثورة، من خلال استعراض حياة فتاة شابة تغنّي أغانيَ ذات مضامين سياسية.

وفي فيلم (مانموتش)، للتونسي أحمد رشوان، إشارة لصراع القوى الأصولية والليبرالية، والالتفاف على الثورة وتهميش الطبقة الوسطى التي كانت الأكثر فاعلية في قيام الثورة، يصور الفيلم كيفية تجهيل الشارع وصناعة الفرد المغيب المتطرف، كما يتناول مشكلة تحول الإنسان المقهور إلى قامع يمارس عنفه على المرأة -الحلقة الأضعف- في هذه التراتبية البنيوية، المعالجة الفنية لثيمة الثورة في هذه التجربة ذات تقنية عالية، ولغة غير مباشرة، تنصب على العلاقات الخفية التي تشتبك فيها مكونات المجتمع، وتنامي سلطة القهر التي تطال كل الفئات، وتتحول إلى قيمة يمارسها الكل ضد الكل. 

إنّ السينما الروائية العربية ما زالت تخشى مخاطرة الدخول في متواليات ثيمة الثورة، لأسباب عديدة أشرنا آنفًا إلى بعضها، وعلى عكس الدراما، تتوافر السينما الوثائقية على كم كبير من الأفلام التسجيلية التي، وبأساليب ومضامين متنوعة، عرضت تحولات الثورات، وأحداثها، وحكايات كثيرة انبنت عليها، وقدّمت ألق الميادين وزهو الحشود التي خلعت رؤساء وهزمت أنظمة، كما صورت اغتيال الحيوات وتراجيديا الحروب وعدمية الموت المجاني في مدن خربتها الحروب، وغابت عنها في خضم الصراعات أيُّ قيم إنسانية، ونجحت الوثائقيات أيضًا في عكس الأوضاع المأساوية للاجئين والنازحين والمشردين الذين فروا من جحيم الحروب، وحكايات شهود على الحرب، من هذه الأفلام (مولود في 25 يناير) لأحمد رشوان و(نصف ثورة) لعمر الشرقاوي و(باب شرقي) الذي يحكي قصة لاجئين سوريين.

ويوثق الفيلم (مياه فضية)، لـ: محمد أسامة، ووئام بدر خان، مشاهدَ تم تصوريها بالموبايل من قبل مواطنين عاديين وصل عددهم إلى ألف سوري، صوروا فوضى القتل وهمجية الحرب، وعمليات القتل العشوائي لكل كائن حي يعبر مناطق الصراع، سواء كان إنسانًا أم حيونًا، كذلك آثار الدمار الكلي لأحياء بأكملها، وحركة النازحين ومحاولاتهم تجنب الموت، ومشاهد مروعة للجثث التي تتبعثر أو تتكوم في الشوارع وبجانب صناديق القمامة. هذا العمل الوثائقي كشف بشاعة الحالة السورية وسوداويتها، وإمعانًا في تأكيد هذا الفضاء الموحش يختتم العرض بمشهد قطة فقدت رجلها تسحب نفسها على الأرض وسط الضحايا وكل الحطام في محاولة النجاة، هذا المشهد وحده يضعنا أمام حقيقة مريرة، مفادها أن الإنسانية في القرن الواحد والعشرين ما زالت رهينة غرائزها المتوحشة، وإنّ رجلًا واحدًا من سبيل الحفاظ على سلطته قادرٌ على إبادة شعب، في النهاية، الفيلم بكل موضوعية يدين كل القتلة، بما في ذلك الجماعات المتطرفة.

ولا يبتعد الوثائقي (منازل بلا أبواب) عن تجسيد الدمار كحالة لصيقة بالحرب، لكنه في الفيلم لا يبحث عن الشخوص والشهادات الحية، قدر اهتمامه بتسجيل الأثر -المكان- بعد رحيل البشر هروبًا من مناطق الصراع المسلح، فالنازحون القاطنون مؤقتًا في خيام، بعد وصول المعارك إلى مناطقهم، يضطرون من جديد للفرار بحثًا عن أرض آمنة، يستعرض المخرجُ الخيامَ وأشياءهم التي خلفوها وراءهم كأنما هي تروي حكاياتهم، هنا يتناوب الحضور والغياب، حضور الأثر وبلاغته في سرد حيوات كانت هنا، وغياب الوجود الفعلي للإنسان، والمخرج يتسلل إلى داخل الخيام يجعل عين الكاميرا تدور في زواياها، يستعرض مختلف القطع والأواني، والأشياء الدالة على وجود حياة كما ذكرنا، لكنه يمنح نفسه حق قراءة التفاصيل والتجول في هذه الأمكنة، لأنها لا تمتلك أبوابًا. هي ليست منازل مغلقة وهي ليست المكان الذي يحتوي البشر ويمنحهم الأمان، إنها (الخيام) مجرد مساحة من مساحات الحروب- مجرد حياة مؤقتة إلى أن يحل السلام أو يقترب الموت.

وفي (شهادة من ليبيا) يصور المخرج عبدالله عوميش الحالة الليبية أثناء وبعد الثورة، يعتمد الفيلم على الحوار بين صانع الفيلم ومواطنين ومثقفين، يوصّفون رؤاهم وموقفهم من الأوضاع التي تمر بها ليبيا، يتحدثون عن الثورة، عن صراع الجماعات المسلحة، عن الفوضى، وعن بناء الدولة؛ آراء كثيرة، وتباين في وجهات النظر، ليصل الفيلم إلى رؤية فحواها: إن الشعب الذي عاش خارج القانون اثنين وأربعين عامًا، لا يمكنه فجأة أن يحترم القانون، بهذا الفيلم يؤكد المخرج فداحة النتائج لنظام ديكتاتوري، لم يفعل سوى أن دمّر صورة الوطن والدولة في الذهنية الجمعية. وأوجد أفرادًا تعايشوا مع اللادولة والفوضى، وهو ما يصعّب عملية البناء ومأسسة الدولة، والدفع بالجماعات المسلحة للانخراط في الكيان المؤسساتي الذي لم يألفوه.

وعن ليبيا أيضًا، فيلم (أقوال الشهود) للمخرجة مي إسكندر، التي اهتمت بلفت الانتباه لمأساة المفقودين أثناء الثورة، وغياب أي دلائل لأماكن وجودهم، أو معرفة أهاليهم أي معلومات تفيد في العثور عليهم، حال مفقودي الساحات الليبية يحكي حالة تراجيدية، وجريمة تضاف إلى جرائم نظام القذافي، في هذا العمل الوثائقي يترك المخرج الأسئلة مفتوحة، علّها تجد إجابات في قادم الأيام. 

(أبدًا لم نكن أطفالًا) وثائقي للمخرج محمود سليمان، يفتتح العمل بإهداء إلى كل الذين ضاعت أحلامهم دون ذنب، الفيلم هو أيضًا مفعم بالمرارة يدين الأنظمة التي تأكل أعمار وأحلام شعوبها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English