أزمة تعليم اللغة العربية لأطفالنا

في نقد المنهج الجشطالتي، والعودة إلى البنائي الفطري
نجيب مقبل
August 28, 2022

أزمة تعليم اللغة العربية لأطفالنا

في نقد المنهج الجشطالتي، والعودة إلى البنائي الفطري
نجيب مقبل
August 28, 2022
Photo by: Ali Al-Sunaidar - © Khuyut

قد يتفق أو يختلف المرء مع مؤلف الكتاب "تعليم اللغة العربية بين المؤامرة والمقاومة.. من المنهج اللاتيني إلى المنهج الفطري"، للأستاذ أمذيب صالح أحمد، ولكنّ امرأً مثلي واجه صعوبات في تعليم مفردات كتاب القراءة لأبنائي في سنواتهم الأولى، بسبب لم أكتشفه إلا عند قراءة هذا الكتاب.

حيث يصعب على الطفل تعلم مفردات اللغة العربية، ولا يُكسبه ملكة فَهم اللغة العربية وقراءة الكلمات والجمل؛ بسبب طريقة تعلم اللغة العربية اعتمادًا على منهج تعليميّ يقوم على تعلّم الكلمات جاهزة، ومن خلالها يتم اكتشاف الأحرف أي إنّه منهج على عكس السليقة العربية المعروفة.

قد يكون الكاتب مبالِغًا في بعض المواضع، ورافضًا كليًّا لهذه الطريقة الكلية اللاتينية الأصل، التي بحسب رأيه هي سبب وجود شباب لا يفقهون اللغة العربية ولا يجيدون القراءة أو الكتابة، مؤكدًا أنّ السبب في ذلك هو هذا المنهج التعليمي. وقد يختلف المرء حول التعميم الزائد في وصف عيوب هذه الطريقة، وهذا المنهج المتبّع في تعليم اللغة العربية خصوصًا، ولكنّ أحدًا مثلي لا يستطيع تجاوز ملامسة هذا الجرح في موضعه، وقد واجهتني معضلة يومًا ما في إيجاد طريقة تعليم أبنائي اللغة العربية، من خلال كتب منهج القراءة المدرسية الحالية للصفوف الأولى من سنوات الدراسة؛ لأنها تقفز بالطفل من باب إلى باب دون اكتساب معارف لغوية متراكمة تساعده على التطور اللغوي واستيعاب أكبر عدد ممكن من الكلمات والمعاني.

هي إذن، دعوة لصناع مناهج اللغة العربية للصفوف الأولى من مدارس التعليم الأساسي في بلادنا والبلدان العربية، لتحليل ما يعانيه الطلاب الصغار من مصاعب في التعلم، وربما تساهم في حل إشكالية الطلاب مع لغتهم العربية، وهي بالتأكيد تحتاج للدراسة والتحليل والمراجعة والنقد الموضوعي، للوصول إلى طريق مُثلَى لتعليم اللغة العربية لأطفالنا.

مهما اتفق أو اختلف المرء مع وجهة النظر هذه، إلا إنّ الموضوعية في متابعة الهدف السامي الكامن وراء ذلك، في الوصول إلى طريقة أو أسلوب يساعد على تعليم اللغة العربية بصورة سلسلة وغير معقدة أو مغايرة للنهج العربي القويم، يقتضي من قارئ هذا الكتاب مواصلة البحث والقراءة في أطروحاته حتى يحكم على صحة هذه الآراء أو ينقضها

وإنني بهذه القراءة، أقدّم دعوة لقراءة سطور هذا الكتاب مليًّا؛ لأنّ ما فيه هو من الأهمية التي تحاول إعادة النظر لدى واضعي مناهج اللغة العربية، والتفكر مليًّا فيما يدعو إليه الكِتاب لاستخدام منهج تعليمي عربيّ الهُوية كان سائدًا وتم إلغاؤه واستبداله بطريقة ومنهج جديد، يرى الكاتب أنه ما زال صالحًا وييسّر تعلم وفهم الطلاب الصغار في سنواتهم الأولى للغتهم الأمّ، وتُخرجنا من مأزق مناهج تعليمية مليئة بكم هائل من السلبيات.

الخلل في المنهج الجشطالتي

الكتاب يخلص إلى القول بأنّ الخلل الكامن في مناهج تعليم اللغة العربية هو في استخدام طريقة لاتينية؛ هي الطريقة (الكلية- الجشطالتية)، ومؤلف الكتاب يراها منهجًا مخالِفًا للسليقة العربية، بل ويُدمّرها لدى كثير من الأطفال والشباب.

ويناشد بحلّ هذه الإشكالية المحورية والأساسية التي يعاني منها أطفالنا الطلاب في مراحلهم الأولى من الدراسة، ويواجهون بسببها مأزقًا في تعلمهم اللغة العربية، حتى صارت هي السبب الرئيس في حالة النفور منها.

عن مؤلف الكتاب 

مؤلف الكتاب هو الأستاذ أمذيب صالح أحمد لصفوح، من محافظة شبوة، يحمل شهادة ليسانس آداب القاهرة.

عمل نائبًا لوزير العمل والخدمة المدنية بعدن خلال (1974-1981م)، ونائبًا لوزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء بعدن (1981-1991م)، ثمّ أمينًا عامًّا لمجلس الوزراء بصنعاء (1990-2006م).

وصدر للكاتب عن دار عبادي للدراسات والنشر، عددٌ من المؤلفات، منها:

-  مؤامرة تعليم اللغة العربية بالطريقة اللاتينية (كتيب)، 1999م.

- الحاكمية يمانية والإدارة إمامية، 2004م.

- التنمية البشرية في المفهوم الإسلامي، 2006م.

 - الديمقراطية بين الغرب والإسلام، 2006م.

-  تعليم اللغة العربية بين المؤامرة والمقاومة، 2013م.

 كما نشر العديد من المقالات في الصحف اليمنية.

 اللغة العربية ونظرية المؤامرة

يصرح الأستاذ أمذيب صالح، علانية: "لستُ من أنصار الذين يتبرؤون من نظرية المؤامرة لتفسير كثير من القضايا والأحداث"، مشيرًا إلى أنّ "الصراع على المصالح بين الأقوياء والضعفاء وبين الصغار والكبار وبين الأشرار والأخيار وبين الأمناء والخونة وبين الطامعين والزهاد، يتبدّى في أشكال من التآمر، بعضها قد يكون ظاهرًا أو باطنًا، وبعضها قد يكون خشنًا أو ناعمًا".

ولا يخفي الكاتب أيمانَه بنظرية المؤامرة، ويرى تجلياتها من خلال وجودها فعليًّا على اللغة العربية (فالمؤامرة على اللغة العربية اتخذت أشكالًا ناعمة وباطنة...، وما يؤكد هذه المؤامرة على اللغة العربية (أنّ الحرف العربي قد طارده المستشرقون والصليبيون المعادون للإسلام، فأحلّوا محله (الحرف اللاتيني) في كثير من لغات الشعوب الإسلامية في الدول الآسيوية والأفريقية، كما أنّ المحاولات الفاشلة لإحلال اللهجات العامية محلّ الفصحى في مصر والشام والعراق وغيرها، يؤكد ذلك.

ويشير المؤلف إلى أنّ أعلى درجات هذه المؤامرة على الحرف العربي واللغة العربية، عندما "قاموا أخيرًا بالتفاف لاتيني ذكي على اللغة العربية، حينما أقنعوا معظم العرب بتعليمها -أي اللغة العربية- بطريقة لاتينية، حتى تضعف تدريجيًّا وتقوى اللهجات المحلية ثم تتلاشى الفصحى وتزول أمام انتشار اللغات الأوروبية الكبرى، وخاصة الإنجليزية لتكون لغة التعليم والمعاملات، وبهذا يحققون أعظم هدف لهم، وهو إضعاف الإسلام من خلال تحطيم اللغة العربية، وما يتبعها من انهيار للهُوية العربية الإسلامية، وانحطاط العروبة والإسلام وطمس للقرآن الكريم وللتراث العربي الإسلامي وانكسار لشوكة الإسلام والمسلمين".

ومهما اتفق أو اختلف المرء مع وجهة النظر هذه، إلا إنّ الموضوعية في متابعة الهدف السامي الكامن وراء ذلك، في الوصول إلى طريقة أو أسلوب يساعد على تعليم اللغة العربية بصورة سلسلة وغير معقدة أو مغايرة للنهج العربي القويم، يقتضي من قارئ هذا الكتاب مواصلة البحث والقراءة في أطروحاته حتى يحكم على صحة هذه الآراء أو ينقضها، بعيدًا عن قناعات المؤلف ووقوفه أو عدم الوقوف مع تبنيه نظرية المؤامرة.

أسباب تأليف الكتاب 

 يسرد المؤلف أمذيب صالح في مقدمته، شرحًا لأسباب اهتمامه بهذا الموضوع، نوجزها كالتالي :

 - صيحات مفكري العرب وشكواهم من ضعف مستوى اللغة العربية في مختلف المستويات التعليمية من الابتدائية والثانوية والجامعية.

- طغيان اللهجات العامية على مختلف وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة، بسبب سيطرة جيل نشأ وتعلم اللغة العربية بالطريقة الكلية اللاتينية.

 -تجربة الكاتب المريرة عند محاولة تعليم مبادئ اللغة العربية لبعض الأطفال بالطريقتين (الكلية الدخيلة) و(الحرفية الأصيلة)، وصدمته من المنهج المدمر لفصاحة اللسان العربي، بسبب الطريقة الكلية اللاتينية الدخيلة.

 -الصمت الرهيب في مختلف أجهزة التعليم العربية عن هذه القضية المنهجية، في تعليم أساسيات اللغة ومبادئها للأطفال، بسبب ما يراه الكاتب- سيادة الحداثة الثقافية الشكلية والإهمال البيروقراطي وتخاذل المسؤولين عن مناهج التعليم المجاري للنظريات الغربية أو الخائفين من تهم الجمود والتعصب أو التابعين لمراكز النفوذ الأجنبي من دول أو منظمات أو هيئات مشبوهة.

ولوج الطريقة الجشطالتية إلى اللغة العربية

يرى الكاتب أنّ إشكالية جوهرية في تعليم اللغة العربية بدأت في خمسينيات القرن الماضي، من خلال تبني نظريات علم النفس في تدريس اللغة العربية.

ففي بداية الخمسينيات من القرن الماضي، استطاع بعض علماء النفس والتربية في مصر أن يقنعوا رجال التربية والتعليم -عن حسن نية- بإدخال الطريقة الكلية في تعليم اللغة العربية بالمدارس الابتدائية، حيث انتشرت هذه الطريقة الكلية بالمدارس الابتدائية في كثير من الدول العربية، وطبقت في مدارس جنوب اليمن منذ أواخر الأربعينيات وشمال اليمن في الستينيات.

وبسبب ذلك، شهدت اللغة العربية تدهورًا وضعفًا منذ تطبيق هذه الطريقة الكلية التي اقتبست من طريقة تعليم اللغات الأوروبية بها.

فما هي الطريقة الكلية (الجشطالتية) للإدراك والتعليم؟

يشرح الكاتب أنّ هذه الطريقة المسماة بالكلية، هي مستمدة من نظرية الجشطالت في علم النفس، التي تعرّف الموسوعة البريطانية فحواها بأنّها :"الفكرة الأساسية في نظرية الجشطالت هو أن تحليل الأجزاء مهما كان دقيقًا، لا يمكن أن يؤدي إلى فهم الكل، وإنّما لكي نفهم الطبيعة الكاملة للكلّ، فمن الضروري أن يكون التحليل من الأعلى إلى الأدنى، من بنية الكل إلى خصائص الأجزاء المكونة لهذا الكل. فبعض جوانب الكل تقتضي وضعًا معينًا ووظيفة معينة، بكل جزء من أجزاء الكل، وهذه الخواص لا يمكن أن تستنبط من تحليل الأجزاء بمعزل عن بعضها البعض".

وتضيف الموسوعة: "فطبيعة الأجزاء في الجشطالت تقتضيها خواص الكل والأجزاء منصهرة ومعتمدة على بعضها ومتفاعلة فيما بينها في هيئة بنيوية محددة. فأجزاء الكل ليست لها هُوية ذات معنى، مستقلة في أوضاعها وأدوارها ووظائفها في هذا الكل".

الكتاب المقرر لتعليم اللغة العربية في الصف الأول، لا يُعلِّم الطفل لغة عربية صحيحة، بل يعطل لسان المدرس الذي يتقيد بهذه الطريقة الأعجمية؛ ولذلك فإنّ الحفظ الكلي يعتبر أسوأ طريقة للتعليم عمومًا؛ لأنه يقتل ملكة التفكير لدى الطفل

وفيما يتعلق بالتعليم والتفكير، تقول هذه النظرية: "إنّ العملية الأساسية في التعليم كما يتصورونها هي اكتشاف الخصائص المنظمة البنائية للبيئة. وهذا يقود إلى نتائج تربوية هامّة، وهي أنه يجب التأكيد على الفهم والتبصر (الإدراك)، وليس على المران والتكرار".

 ويرى الكاتب أنّ هذه النظرية لم تستطع أن تقدم شيئًا بالنسبة للغة العربية.

الأصل في تعليم اللغة ينطلق من الحرف أم من الكلمة؟

يوضح الكاتب أنّ الأصل في اللغات اللاتينية هي الكلمة لأسباب بنيوية، تتعلق بأسباب خاصة بهذه اللغات، فيما يكون الحرف هو الأصل في اللغة العربية، لأسباب بنيوية أيضًا؛ كون هذه الكلمات اشتقاقية تساعدها على التكاثر والتوالد، وموسيقية الحروف، أي، ببساطة، إنّها لغة تُقرأ كما تُكتب، وتُكتب كما تُقرأ، وليست كالإنجليزية لا تقرأ كما تكتب، ولا تُكتب كما تقرأ.

ولذلك إنّ طريقة تعليم اللغة العربية بواسطة قراءة حروف الكلمة، هي طريقة بنائية نحو فهم واستيعاب الكلمة ومعناها، حيث يستخدم القارئ عقلة بمنطق التركيب الذي يعتبر حالة راقية في التفكير.

يقول الكاتب :"إنّ الطريقة الحرفية العربية تعلمك طريقة صناعة الكلمات؛ أمّا الطريقة الكلية اللاتينية في تلقي الكلمات، فإنّها تزودك بالكلمات الجاهزة المصنوعة".

وينتقد المؤلف الطريقة الكلية بالقول: "إنّ منطق العقل البشري يعتمد دائمًا على البنائية في التفكير والعمل لتطوير الحضارة الإنسانية، ولا يعتمد على التحليل في التفكير والتفكيك أو الهدم في العمل إلا حين يواجه مشكلة في البناء"، فالتحليل هو دائمًا في خدمة مشاكل التركيب إن وُجدت؛ أما التركيب فإنه لا يهدف إلى خدمة التحليل، والنتيجة أنّ استخدام الرموز بطريقة بنائية يناسب التطور العقلي واللغوي والرياضي. فالتجريد في الفكر أرقي مراحل التفكير الإنساني.

وإنّ الأساس في تعليم أساسيات اللغة العربية هو طريق المران والتكرار، وليس الإدراك الكلي، وإنّ المران والتكرار في تعليم اللغة العربية حرفيًّا للأطفال الصغار –وهي عملية تعتمد على المحاكاة– تعتبر أنجح وسيلة لتعليم اللغة العربية، وأنه بسبب تعليم اللغة العربية بالطريقة الكلية بصورة تعسفية، نضحي باللغة العربية في سبيل إدراك معانٍ صغيرة وضياع معانٍ كبرى في الغد يمكن أن تأتي بها لغة عربية راقية.

فكلُّ من ضعفت لغته ضعُفَ فكرُه، وكل من ضعف فكره ضعف إدراكه الكلي للحياة، مشيرًا إلى أنّ التاريخ والواقع المعاصر، أثبت أنّ عظماء العروبة والإسلام في مختلف العلوم هم مِن الذين تعلموا العربية مِن خلال الدرس القرآني وحفظ القرآن الكريم.

ويعزو الكاتب سبب ذلك، إلى أنّ الطريقة الكلية التي تتجاهل الحرف العربي كأساس في تعليم اللغة العربية وتجعل من الكلمة هي الأساس والأصل بدلًا من الحرف، تقتل -عمدًا أو عن غفلة- روحَ اللغة العربية وحيويتها القائمة خصائصها على الحرف الحركي الذي هو مفتاح الدخول إليها ومعرفة جوهرها، والإمساك بسليقتها وتقوية ملكتها، قراءة وكتابة.

أي إنّ الخلل الكامن في تعلم العربية بالطريقة الجشطالتية أننا نستنبط من المعنى الكلي للكلمة الحرف المطلوب والقراءة المقارنة، عبر الاستدلال الحسي لفهم مجموعة متشابهة من الصور.

وإنّ هذا المنهج في تعلم اللغة العربية يهمل البناء اللغوي من الجزئي (الحرف) إلى الكلي (الكلمة)، عبر مجموعة من أشكال المران المنتظم لمجموعة من الحروف في اتصالها في حالة تركيبية وبنائية تبدأ من الحرف إلى الكلمة، ولا تعتمد بالضرورة على الإدراك الحسي في هذا البناء.

قراءة لكتاب القراءة للصف الأول

يؤكّد الكاتب أنّ المنهج المقرر لتعليم اللغة العربية في اليمن (طبعة 1996م)، للصف الأول من مرحلة التعليم الأساسي، موضوعٌ على أساس الطريقة الكلية. وهو يلتزم بنظرية الجشطالت فيما يتعلق بتعليم الكلمة والجملة، مثل اللغة الأجنبية، ومحاولة ربط اللغة بالبيئة العرضية، ويخلو الجزء الأول منه، من الشَّكل (التشكيل)، أمّا الجزء الثاني فلا توجد كلمة أو جملة واحدة تعلم الطفل نطق اللغة العربية، حسب تشكيلها.

ويرى الكاتب أنّ مثل هذه الكتب العربية التي تنتهج (الطريقة الكلية) لتدريس اللغة العربية كاللاتينية، ترتكز في مراحلها الأولى على تسكين لبعض الكلمات القائمة على حروف المد الساكنة من (ألف) و(واو) و(وياء)، واستخدامها مقرونة بالصور؛ ممّا يولّد انطباعًا خاطئًا للطفل عن سكونية اللغة العربية.

ويرى أنّ الكِتاب المقرر لتعليم اللغة العربية في الصف الأول، لا يعلم الطفل لغة عربية صحيحة، بل يعطل لسان المدرس الذي يتقيد بهذه الطريقة الأعجمية، ولذلك فإنّ الحفظ الكلي يعتبر أسوأ طريقة للتعليم عمومًا؛ لأنه يقتل ملكة التفكير لدى الطفل. 

ويرى الكاتب أنه ليس مع طريقة الحفظ، إلا الحفظ لِسور القرآن أو الحديث الشريف أو غيرها من النصوص البنائية اللغوية كالشعر؛ لأنّ الحفظ لغير النصوص البيانية أصبح غير لائق بالعقل في هذا العصر الذي تنوعت فيه أشكال التدوين المكتوبة والمسموعة والإلكترونية.

ويخلص إلى أنّ القراءة والفَهم لتشغيل عقل التلميذ بالتفكير البنائي، هي المهمة التربوية الكبرى التي تصنع رجال المستقبل الأقوياء.

وعلى ضوء هذا النقد للمدرسة الكلية في تعليم اللغة العربية، يدعو المؤلف إلى أنّه "آنَ الأوان لتغيير مناهج اللغة العربية بالاعتماد على خصائص وأسرار اللغة العربية. وهو وضع منهج بسيط يعلم النّشْء أولًا تلك الحروف والحركات والرموز، ثم يعوِّدهم على تكوين كلماتٍ منها، ثم تكوين جمل من الكلمات، ثم موضوعات من الجمل وهكذا"، مبرِّرًا أنّ العودة إلى بعض ما في القديم ليس رجعية فكرية أو سلفية عصبية ما دام يصلح لنا أكثر من الجديد.

مشروع منهج لتعليم اللغة العربية

ثم يعمد الأستاذ أمذيب إلى تقديم مشروع منهج حرفي حسب طبيعة اللغة العربية وخصائصها، ويعتمد على تعليم اللغة العربية بالطريقة البنائية؛ أي من الحرف إلى الكلمة، وباستخدام الفطرة واعتمادًا على التكرار والمحاكاة، وهي طريقة تعتمد على الأساسيات الآتية:

 - استخدام موسيقية الحروف العربية وكلماتها باعتبارها لغة أذن وسماع وطرب، قبل أن تكون لغة تواصل.

 - التعلم باستخدام أساليب التجويد في القراءة.

-  عدم وضع أي رسوم إيضاحية أو صور فوتوغرافية على معاني الكلمات.

- استخدام الطريقة البغدادية التي وضعها علماء العربية الأوائل، لتفهيم الدارس حروف اللغة وحركاتها وأصواتها، والتأليف فيما بينها لبناء مقاطع أو كلمات.

-  عدم تعليم الطفل أي لغة أجنبية في مراحله الأولى حتى يجيد اللغة العربية قراءة وكتابة.

 -استخدام المران بالتكرار في النطق والسماع والقراءة والكتابة لحروف الكلمات بطريقة صحيحة وموسيقية؛ الذي هو أساس تعليم اللغة العربية.

 -التأكيد على أنّ اللغة العربية تتوالد توالدًا خصبًا عن طريق الاشتقاق.

- ضرورة أن تكون كتب تعليم اللغة العربية مُشَكَّلة (مضبوطة بالشكل) لتيسّر تعلمها.

- حسن اختيار النصوص بما يتلاءم مع موسيقية اللغة، كالآيات القرآنية وروائع الشعر العمودي التي تصنع السليقة.

 بعد القراءة.. لنا كلمة

ربما يبدو الكاتب أمذيب قد أسرف في قدح النظرية الجشطالتية، التي رأى من وجهة نظره، أنها مدمِّرة للغة العربية، ولكنها قد تبدو من وجهة نظر نفسية معاصرة، عاملًا من عوامل رفع درجة الوعي المعرفي عبر المقاربات اللغوية بين الكلمات وعلاقتها بالواقع الملموس، ممّا يساهم في قدح المخيال المقارن، وتنشيط الذاكرة الحية لصناعة وعي إبداعيّ.

وفي المقابل، لا يمكن تجاهل المعضلة الحقيقية في صعوبة تعلم أساسيات اللغة العربية لطلاب السنوات الأولى، من الأطفال، من خلال النظرية الكلية، وتستوجب -حسب رأي مؤلف هذا الكتاب- الالتزامَ بما كان سائدًا في الأخذ بمنهج بنائيّ للتعلم، يأخذ بعين الاعتبار كلَّ مَا طرحه الكِتاب من خصوصية اللغة العربية باعتبارها لغة اشتقاقية، وموسيقية، وتُقرأ كما تُكتب، حيث ليس فيها أحرف مخفية تُكتب ولا تُقرأ كاللغات الأجنبية، مثل الإنجليزية والفرنسية وغيرها من زوايا نظر تخص طبيعة اللغة العربية والعقل العربي الذي يتغذى في تحصيل معارفه الأساسية ونمط تفكيره منها.

إذن، السؤال المطروح: كيف نوائِم بين المنهج الجشطالتي الكلي الذي يساهم في تغذية العقل بروح إبداعية تأملية تنمي الحس والإدراك، وتعتمد على تبصر الكل لاكتشاف أهمية الجزء، وبين خصوصية اللغة العربية التي لا يستقيم تعلمها إلا من خلال قراءة بنائية تبدأ من الحرف إلى الكلمة، ومنها إلى الموضوع؟

كيف نستطيع الجمع بين إنجازات الرؤية الجشطالتية في التعلم، وبين الحفاظ على استقامة تعلم اللغة العربية القائمة على السليقة والفطرة التي توفّر للمتعلم الناشئ بنكًا من الكلمات يزداد يومًا بعد يوم، فتزداد معه مستوى المعرفة بسبب هذا التراكم اللغوي؟

أم أنّ الطريق مسدود في الجمع بين المنهجين، ولا بدّ من خيار واحد لتعليم أبناء اللغة العربية؛ إما الاستمرار في المنهج الكلي الجشطالتي أو الرجوع إلى المنهج الفطري البنائي)؟

سؤال يتوجه إلى ذوي الاختصاص في علوم التربية والنفس والاجتماع واللُّغويات بصورة مُلِحّة وسريعة لإنقاذ لغتنا العربية من انحدار يقود الأجيال الجديدة إلى فشل في الأخذ بأداة المعرفة والتعليم والفكر والثقافة والإعلام: (اللغة)!

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English