كانت جميلة وتتنفس الحياة

"الحديدة" اليوم مدينة مفعمة بالموت!
محيي الدين سعيد
December 14, 2022

كانت جميلة وتتنفس الحياة

"الحديدة" اليوم مدينة مفعمة بالموت!
محيي الدين سعيد
December 14, 2022
Photo by: Shohdi Alsofi - © Khuyut

المدينة التي وعيت على الدنيا تقريبًا فيها، بعد مدينة عدن الفاتنة..

تلك الأيام التي أصبحت من أنواع الذكرى التي نعزي فيها أنفسنا بعد ما آلت إليه هذي المدينة التي كانت قد نهضت من بين الرمال والرماد، على جميع الأصعدة تعليميًّا وثقافيًّا وعمرانيًّا واقتصاديًّا ومدنيًّا وبحريًّا إلخ.

ونحن نزورها هذا الأسبوع والعام الماضي وزيارات متفرقة بعد فترة ما مرت به منذ بداية 2015م ومنتصف 2018م نصاب بالذهول والدخول في صدمة وطنية وعاطفية، حيث للحديدة مكانة خاصة عند كثيرين ممن عاشوا فيها أو زاروها أو كانت ممرًا في طريقهم إلى السفر عبر حرض برا كمنفذ حدودي للسعودية أو عبر البحر أو عبر الجو.

كانت الحُديدة مفعمة بالحياة، واليوم مفعمة بالموت، إذا جاز لنا التعبير عن ذلك، كانت مدينة للسعادة وراحة البال والأمن والسكينة، واليوم تحوّلت إلى مدينة مخيفة بأزقتها الفارغة وشوارعها المشوّهة ومقاهيها المغلقة وسواحلها الممتدة للجبايات وأسماكها التي ارتفعت أسعارها بجنون، وغير ذلك كثير.

الحُديدة أكبر مشاكلها اليوم الكهرباء والماء والنظافة والغربان وأقصد الغربان بمعنيين الواقعي والرمزي، حيث من يديرون المدينة لا يتفهمون مقوّمات هذي المدينة المنكوبة، بل وأوغلوا في طعنها بالخاصرة.

هذي المدينة التي يمتد صيفها الحار جدًّا إلى ثمانية أشهر بالضبط، أهم مقومات الحياة فيها، هي الكهرباء الرخيصة جدًّا والماء.

الحُديدة كانت مدينة المقاهي والمكتبات، واليوم أضحت خرابًا ينعق فيها البوم والغربان، والقمامة في كل مكان، ولعلنا لا ننسى كل أشكال الأوبئة من كل نوع التي اجتاحت المدينة منذ أواخر 2014م. واليوم تفتك بها الإتاوات والجبايات من كل نوع وحدب.

المواطن اليمني في تهامة عامةً، والحُديدة خاصة، يواجه أكبر اغتصاب لحقوقه، ومُطالَب بتسديد أضخم فاتورة كهرباء في العالم.

كانت مدينة الحُديدة منارةً للعلوم والثقافة، إضافة إلى مديريات تهامة، مثل: زبيد وبيت الفقيه والمنصورية والقناوص والضحي والزهرة وحيس والجيلانية وغيرها، فهي تعج بالمكتبات الشخصية وكانت الحُديدة رافدًا مهمًّا، ففيها تتواجد المكتبات على طول شارع صنعاء من بداية الثمانينيات، إضافة إلى باب مشرف والمطراق وشارع جمال، أبرزها مكتبة الثقافة لصاحبها المثقف النبيل حسن سكرة التي كانت بجوار بامشرف تمامًا، وظل فيها لسنوات ثم تحت إدارة إحدى بناته لفترة طويلة، وتميزت بالانفتاح الثقافي الكبير، فلم تكن محصورة على كتب ذات لون واحد، بل كانت تلبي حاجات الجميع، وفي فترة لاحقة كان قريبًا منها على الشارع نفسه مكتبة القائد التي كانت تعج بكل الدوريات الثقافية القادمة من مصر والكويت خاصة، وكانت سلسلة عالم المعرفة أبرز ما فيها.

في شارع صنعاء، كانت مكتبة الطالب لصاحبها الحاجّ سرور، جوار مدرسة الثورة بالضبط، وكانت تعج بكتب الإسلاميين من سيد قطب إلى محمد قطب إلى شعراء الدعوة الإسلامية، وكانت تقريبًا ذات اتجاه واحد، لكن بعناية كبيرة في اختيار المؤلفات الرصينة، وكان الحاج سرور رجل يحترمه الجميع، وعمله ثقافي بحت، ومنها بدأت قراءات الكثيرين من أبناء جيلي تقريبًا أصحاب التوجه للثقافة العامة والقراءة للجميع، بعيدًا عن أيّ انتماء ضيّق، وفي مقابلها كانت هناك مكتبة 26 سبتمبر، لأصحابها أحمد عبدالله، وعبده القباطي، وإخوانه، والتي كانت نافذة جميع الصحف والقراء والدوريات وأمّات الكتب والمجلات بمختلف مسمياتها، وهي تشبه تمامًا مكتبة الوعي الثوري بتعز باب موسى، إلى حدٍّ كبير، وظلت في الخدمة حتى بداية 2015م، وظلّت في خدمة الناس حتى ماتت الصحف والثقافة.

وعلى شارع صنعاء، كانت مكتبة الفكر التي كان يديرها محمد غالب القدسي، كمبيوتر العناوين والمرجعية للباحثين، وظل لسنوات طويلة، ثم انتقل بعدها إلى مكتبة خاصة به، أسماها الفجر الجديد قبل أن يختفي الفجر أواخر 2014م، بداية شارع شمسان حتى مات، وما زالت المكتبة هناك.

وكانت هناك مكتبة العشبي، ومكتبة النور التي تحوّلت لاحقًا لبيع العسل والحبة السوداء، ثم مكتبة المعرفة التي تحوّلت إلى القرطاسية، وعلى شارع جمال كانت هناك مكتبة الصحوة ثم مكتبة صلاح الدين، قبل أن يتجهوا جميعًا إلى القرطاسية والحقائب وغير ذلك.

إضافة إلى مكتبات عديدة على طول شارع شمسان والحكيمي، ولعلي لا أنسى مكتبة ناصر العاقل على شارع الميناء، وكانت مكتبة ضخمة حقًّا.

طبعًا، الحُديدة تميّزت بوجود أكشاك للثقافة على امتداد شوارعها أيضًا، سواء الرئيسية أو الفرعية، ابتداءً من باب مشرف والصديقية جوار مدرسة خولة، وكشك المطراق المشهور لصاحبه نبيل الرنجلة الدبعي، وكشك المواصلات، وكشك مدرسة الثورة، وكشك النخيل على جولة النخيل، ولقد نسيت مكتبة بدر أمام فندق الحُديدة قديمًا و...إلخ.

أضف إلى كل ذلك، سلسلة طويلة من البسطات على امتداد شارع صنعاء، لبيع الكتب الرخيصة والدوريات التي يريد أصحابها التخلص منها وإفادة قراء جدد، مثل سلسلة الدوحة ومجلة العربي منذ صدورها في عام 1958م، وكان أول رئيس تحرير لها هو أحمد بهاء الدين!

مدينة الحُديدة كانت تتجه للحداثة بكل إمكانياتها، وتم رصف كل شوارعها تقريبًا في فترة المحافظ محمد شملان، وبنفس الوقت كانت تحتفظ بكل أناقتها الشعبية، من حيث المطاعم والأسواق والمقاهي ودور السينما التي كان عددها خمس، إضافة إلى سينما الروس.

وبدت شواطئها تتعرف على ملامح الجمال والسكينة، من حيث الترتيب للكورنيش من الكثيب حتى الدوار، والذي أقيم فيه احتفال الوحدة الـ16 عام 2006م، وكانت الحُديدة قد ارتدت ثوبًا قشيبًا جميلًا. وكان آخر معالم الجمال فيها، وقد ذهب كل ذلك بغمضة عين، ونحتاج إلى سنوات طويلة من السلام للعودة لذلك الوضع.

الخط الساحلي مغلق، الخط الرئيسي مغلق، خط الحُديدة صنعاء، عبر باجل ظل مغلقًا لسنوات، وقد أصبح كئيبًا ومخيفًا، وليس بتلك السلاسة والأناقة التي كان عليها.

باختصار؛ جميع الخطوط إلى مدينة الحُديدة أصبحت عبثية، بما فيها خط حرض.

بالنسبة لمدينة الحُديدة القديمة، رغم رصف أزقتها، إلّا أنّها أصبحت شبه خاوية، إلّا من أطرافها الشرقية جهة باب مشرف، وأبنيتها ماثلة للسقوط، وهي في الأغلب مبانٍ منذ زمن العثمانيين الأخير، وهي أزقة نشم فيها عبق التاريخ وجمال الإنسان، ولا توجد مغامرة من أبناء المدينة لإحيائها، بل على العكس تم هجرانها، وأخصّ بالذكر صاحب أجمل وألذ آيسكريم هناك، واسمه حمدو، وكان لديه محل، رغم الحرارة الشديدة في الصيف إلّا أنّ محله يكون باردًا على الدوام.

وللحُديدة جمالٌ من نوع آخر، قريبًا.

•••
محيي الدين سعيد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English