لا علاقة للأمر بالجنس والأعضاء التناسلية، ولا حتى بالشكل والمواصفات الجسدية التي قد تصرف الذهن في هذا المقام إلى تصوّر أن “شهرزاد” ربما كانت قبيحة أو خشنة أو مسترجلة.
بالمناسبة، كانت “شهرزاد” أنثى نموذجية “ذات حسنٍ وجمال، وبهاءٍ وقدٍّ واعتدال”، ووجهٍ صبيح ولسان فصيح. تسامر به الملك “شهريار” حتى “يدركها الصباح، فتسكت عن الكلام المباح”.
كما كانت أيضاً “امرأة” من طراز رفيع، من حيث ماهية المرأة وقيمتها الإنسانية، ووظيفتها في الحياة، حسب المعايير الاجتماعية والثقافية التقليدية السائدة في التراث العربي والإنساني.
بهذا المعنى تكون شهرزاد قد استكملت أكثر من حُجّة دامغة للبراءة من تهمة العنوان أعلاه، مع أن هذا غير ضروري. أقصد:
– ليس شرطاً أن يكون الشخص أنثى وامرأة في نفس الوقت.
– وأن لا يكون رجلاً رغم هاتين الصفتين!
أولاً: لا علاقة حتمية بين المرأة والأنوثة؛ الأنوثة صفة تتعلق بالجسد، والجسد ظاهرة بيولوجية، بينما صفة “المرأة” تتعلق بالشخصية، والشخصية صناعة اجتماعية ثقافية مكتسبة.
على هذا الأساس تبلورت الحكمة النسوية الحديثة: “الأنثى لا تولد امرأة. لكن المجتمع هو الذي يجعلها كذلك”، تأكيداً على أن العلاقة بين الجانبين علاقة ثقافية تاريخية ذهنية نسبية خالصة.
ثانياً: حتى باجتماع الصفتين- المرأة والأنوثة، وهي الحالة السائدة عموماً، والمتحققة في شخصية شهرزاد، هذا لا يعني أن امرأةً ما ليست رجلاً، كرؤية وتصور وخطاب وموقف من المجتمع والحياة.
القضية- حسب “سيمون دي بوفوار” على الأقل- تتمثل بـ”النوع الاجتماعي”- الـ”Gender” ، من حيث هو إشارة إلى البنى الاجتماعية والثقافية للذكورة والأنوثة، وليس لحالة كون الفرد ذكراً أو أنثى.
مشكلة شهرزاد في هذا المقام ليست في كونها أنثى ولا امرأة، بل في كونها قناعاً روائياً تحدّث من خلاله مئات من الرواة المجهولين من الفرس والعرب الذين تعاقبوا على تأليف وتشذيب وتهذيب قصص وحكايات رواية “ألف ليلة وليلة”.
هؤلاء الرواة كانوا رجالاً، ومرة أخرى لا تتعلق القضية بنوع هويتهم الجنسية، بل بنوع ثقافتهم، التي شحنوا بها هذه الرواية العالمية الشهيرة، فيما يتعلق بالجنسانية، والرؤية الاجتماعية للمرأة.
هذه الثقافة ثقافة ذكورية خالصة، وبالتالي لا أهمية لكون شهرزاد أنثى، طالما هي تتحدث نيابة عن ذكر، وتقدم المرأة باعتبارها ظلا للرجل، وهامشاً لمتنه الوجودي.
العبرة إذاً، هي في نوعية الخطاب الذي تبنّته وقدمته شهرزاد للقارئ في الفضاء الروائي، ونوعية من يقف وراء هذا الخطاب السردي، وفي الحالتين نحن أمام ظاهرة ذكورية بامتياز.
عندما تكون المرأة مرآة للرجل لا لنفسها وعالمها، تكون قد أصبحت رجلاً. وهذا يصح بدرجة أولى على ما خارج السرد، من أشخاص وسلوكيات ورؤى وتقاليد حاكمة.
في العالم العربي بشكلٍ خاص، كثير من الإناث النساء، بمن فيهن كثيرٌ من المتصدرات للشأن العام، وحتى بعض الحقوقيات المتحدثات باسم المرأة، هن رجال بدرجات متفاوتة.
احتاجت شهرزاد لألف ليلة وليلة لتكريس هذا التعدد والتنوع النسوي في ذهن الملك، وصولاً إلى إخراجه من حالة الوهام المرضي تجاه المرأة
إطلاق هذا الوصف مباشرة على امرأة معينة، قد يعني، في اليمن على سبيل المثال، وفي سياقات محددة، مدحاً لهذه المرأة بصفات الشجاعة والبسالة والإقدام، التي يتميز بها الرجل عادةً في الثقافة العامة.
لكنه في الأعم الأغلب شتيمة حساسة. ولتفادي اللبس، فالمقصود بهذه الصفة هنا، أيّ شخصية نسائية تعتقد مثلاً أنها ناقصة عقل ودين، وأنها مجرد أداة لخدمة الرجل وإسعاده وإشباع رغباته الجنسية والسادية.
هذا الاعتقاد يجعلها رجلا دون أن يعني الانتقاص من أنوثتها أو كونها امرأة، كما أن صفة “النسوي” لا تعني الانتقاص من ذكورة ورجولة كتّاب ومثقفين حديثين كبار يؤمنون بالرؤية النسوية الحديثة.
رواية “ألف ليلة وليلة” هي برمتها تجسيد سردي لمثل هذا الاستقطاب الجنساني في الواقع الثقافي والاجتماعي، وفي غضونها مثّلت “شهرزاد” رمزاً للتسليم والخضوع الأنثوي للرجل، كجارية شرقية، في مقابل “شهريار” الملك الشرقي الذي بدوره مثّل القطب الآخر من هذا النسق، كرمز بليغ للذكورية السادية المتطرفة حد الجنون.
منذ البداية كان المطلوب من شهرزاد أن تقدم المتعة لليلة واحدة فقط، لرجل يحتقرها ويكره بنات جنسها. يستمتع كل ليلة بامرأة ثم يقتلها في الصباح انتقاماً من النساء جميعاً جزاء خيانة زوجته له.
نجحت شهرزاد في القيام بهذا الدور بشكل استثنائي تجاوز توفير المتعة للملك، إلى التأثير فيه، بالقدر الذي جعله لا يغير فقط رأيه بالتخلص منها في نهاية القصة، بل يغير أيضا رؤيته وعاداته حول المرأة بشكل عام.
لم يكن مطلوباً من شهرزاد أن تفعل أكثر من ذلك؛ كأن تعبر في أرضيتها الزمنية عن نسويتها بالشكل المعاصر الذي نجده مثلاً لدى “نوال السعداوي” في قصصها وأعمالها الروائية الحديثة.
يكفي أنها تعاملت مع القضية من أنضج زاوية متاحة في الماضي، ونجحت بشكل مذهل من خلال الحكي في تهذيب هذه الذكورية المتوحشة، وتصحيح النظرة النمطية للأنثى باعتبارها فقط شيطانة خبيثة مجبولة من الخيانة والكيد والشر والخداع.
لم تحاول شهرزاد طوال الرواية تفنيد هذا التصور الذكوري المتطرف، وعلى العكس فقد أكدته بقصص فيها نماذج لنساء في غاية المكر أو المجون أو الإقدام على خيانة أزواج مخلصين وأوفياء.
كانت بذلك تجاري الملك وتستدرجه لرؤية الجوانب الأخرى من المشهد النسوي الحافل أيضاً بنماذج نسوية مخلصة وعفيفة، بل خارقة أحياناً للعادة كما في قصة “تودد الجارية” المرأة المتعلمة المثقفة التي تناقش كبار العلماء، وتتفوق عليهم في مختلف فصائل المعرفة.
احتاجت شهرزاد لألف ليلة وليلة لتكريس هذا التعدد والتنوع النسوي في ذهن الملك، وصولاً إلى إخراجه من حالة الوهام المرضي تجاه المرأة، وإقناعه حتى أن خيانة زوجته التي سببت له هذه العقدة النفسية، لم تكن كما بدت عليه.
جعلته يندم على سوء فهمه وتسرعه وساديته المفرطة تجاه النساء، ولم تكن لتنجح في الوصول إلى هذه النتيجة الملهمة دون تقديم نماذج نسوية متنوعة لدرجة تجعل القضية نسبية متأبّية على التعميم والتنميط.
ومع ذلك، ورغم كل شيء، لم تخرج شهرزاد عن دائرة الذكورية، بقدر ما حاولت الارتقاء بالقضية بالشكل الذي يمثل رؤية النخب المثقفة حينها للمرأة باعتبارها، في أحسن الأحوال، سلعة ولو نفيسة في جراب الرجل.