عبد العزيز المقالح يقرأ قصصي

ميلاد الروائي على يد الشاعر
وجدي الأهدل
March 21, 2020

عبد العزيز المقالح يقرأ قصصي

ميلاد الروائي على يد الشاعر
وجدي الأهدل
March 21, 2020

بعد تسريحي من الجيش – الخدمة الإلزامية – عدت إلىالحياة المدنية ومعي ثلاثة دفاتر، تضم أعمالي الأدبية الأولى. وقتها كنت شاباًساذجاً في العشرين، وليست لي أدنى معرفة بأي شخص يعمل في مجال الإعلام.

أتذكر أنني حملت روايتي الأولى "الومضات الأخيرة فيسبأ" إلى إحدى المطابع، وقابلت الناشر، وطلبت منه أن يطبعها، لكني شعرت بخيبةالأمل عندما طلب مني نقوداً!

سألني إن كنت قد نشرت قصصاً في الصحف والمجلات؟ فأجبتهبالنفي. من سؤال لآخر اكتشف الرجل أنني لا أقرأ الصحف والمجلات، ولا أعرف أي أديبيمني معرفة شخصية، ولا أعرف المؤسسات الثقافية والمنتديات الأدبية، وأنه لم يسبقلي مطلقاً الاحتكاك بمن لهم علاقة من قريب أو بعيد بالصحافة.

 قال مستغرباً:"كيف سيعلم الناس بصدور روايتك؟؟". حقيقة كنت أتصبب عرقاً، ولم يكن لدي حتىظل جواب. نصحني هذا الرجل الطيب أن أبدأ أولاً بنشر قصص قصيرة في الصحف والمجلات،لكي يتعرف عليّ القراء.

خرجت من عنده غارقاً في التفكير، وأنا أتساءل كيف يستطيعالأدباء اختصار حكاية ذات بداية ووسط ونهاية في صفحتين أو ثلاث؟

بعد أشهر تمكنت من تطويع خيالي لكتابة قصص قصيرة،وواجهتني عقبة النشر، إذ لم أكن أعرف أحداً، كما كنت أعاني خلال تلك السنوات منصعوبات في التواصل الاجتماعي. كنت بلا أصدقاء تقريباً، ولا ألتقي أحداً خارج قاعاتالدراسة في الجامعة.

وقعت في يدي مجلة أدبية راقية اسمها "أصوات"أعجبتني جداً، فقررت أن أرسل لها قصصي بالبريد. أرسلت أربع قصص لكي يختاروا واحدةمنها للنشر. في تلك المجلة كانت أكبر الأسماء الأدبية في اليمن تنشر فيها،بالإضافة إلى كوكبة من الأدباء العرب. وكنت أقول في نفسي إنني قد وضعت مستقبليالأدبي على المحك.

وفي يوم من الأيام فاجأني زميل في الجامعة حين اقترب منيوقال لي: "مبروك". تكلم لمدة عشر دقائق وأنا مصعوق تماماً، ولم أستوعبما قاله. قال كلمات كبيرة جداً، عجز عقلي وقتها عن استيعابها، وأما قلبي فكان ينبضبسرعة وكأنني أركض.

  كانت تلك أكثرلحظات حياتي غرابة. كنت أشعر أن الأرض تميد من تحتي، وأن قدميّ تعجزان عن حملي منوقع المفاجأة. كان الشك يأكل قلبي ويطرق بمطارقه عقلي، وصوت نكد كان صداه يطن فيأُذنيّ ويهمس: "لا تفرح.. هناك لبس.. أنت تعرف أنك لم ترسل له قصصك. ربما هذاالزميل خلط بينك وبين شخص آخر".

  استغرب زميليأنني بدوت محرجاً وفاقد الثقة بنفسي إلى درجة مريعة. لا أظنني شكرته، فقط قلت له إننيسأذهب إلى المكتبة للتأكد من صحة الخبر الذي جاء به.

وفي الطريق كنت ما بين مُصدِّق ومُكذِّب، وكنت أفكر:"مستحيل أنا لم أرسل إليه قصصي".

  • 30 مارس 1995)،وما أزال حتى اليوم أحتفل سنوياً بهذا اليوم، الذي أُعده تاريخ ميلادي الأدبي.

وصلت إلى المكتبة، واشتريت نسخة من جريدة 26 سبتمبر،وانزويت بعيداً. قلّبت الصفحات حتى وصلت إلى صفحة أديب اليمن الكبير الشاعر عبدالعزيز المقالح، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدته قد نشر لي قصتين شغلتا مساحةالصفحة كاملة، مع مقدمة تتحدث بالإيجاب عن كاتبهما. خط هذا الرجل المتدفق نبلاًوإنسانية، كلمات تشجيعية مُقطرة ومكثفة، كان لها وقع الزلزال على روحي.

يعجز القلم في يدي عن وصف مشاعري في تلك اللحظة. الأمريشبه سريان طاقة في الجسم تعادل كهرباء مدينة. هكذا في ثوانٍ محدودة جداً تحولت منهاوٍ لم يسبق له نشر أي نص، إلى كاتب يُبشر به أكبر أديب في البلاد، بل ويعمدهقاصاً له أسلوبه الخاص في الكتابة. هذا الشعور بالسعادة القصوى لا يمر في حياةالكاتب سوى مرة واحدة.

أتذكر أنني اشتريت 17 نسخة من الجريدة، وليلتها لم أنم،ظللت مستيقظاً حتى الفجر، كنت ألمح مستقبلي الأدبي كله، وأفكر أنني بمصادفة سعيدة،لا أدري كيف رتّب لها القدر، قد وضعت قدميّ في أرض الأدب.

تاريخ لا ينسى (30 مارس 1995)، وما أزال حتى اليوم أحتفلسنوياً بهذا اليوم، الذي أُعده تاريخ ميلادي الأدبي.

  قبل ذلكالتاريخ كنت شاباً يائساً ومحبطاً يتخبط في ظلام دامس، ولا يعرف هل يتابع محاولاتهالأدبية أم يترك الكتابة وشأنها، وكنت أعيش صراعاً لا يهدأ بين صوت العقل الذييدعوني للتركيز على الكسب المادي، وبين صوت القلب الذي يدعوني للاستمرار فيالكتابة ولو عشت في بؤس وشقاء.

  • أتصور أن هذا الأبالروحي للأدب اليمني لم يكن ليتخيل مدى التأثير الهائل لما فعله في نفسي. لقد حددمصيري بكلمة منه وإلى الأبد.

  أسهم تقريظالشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح ونشره قصتيَّ في اتخاذي القرار الحاسم بتغليب صوتالروح، والإخلاص التام للكتابة الأدبية.

بدون كلمات (المقالح) المُشجعة ما كان لي أن أمتلكالشجاعة للسير في طريق الأدب الوعر، والصبر على الأشواك الكثيرة التي تحف به.

أتصور أن هذا الأب الروحي للأدب اليمني لم يكن ليتخيلمدى التأثير الهائل لما فعله في نفسي. لقد حدد مصيري بكلمة منه وإلى الأبد.

ما الذي حدث بعد ذلك؟ لقد تغلبت بصعوبة على خجلي الشديد،وزرته في مكتبه في مركز البحوث والدراسات، وقدمتُ له الشكر. لقد احتفى بي وأثنىعلى موهبتي أمام ضيوفه من الوجوه الأدبية المعروفة، وصرح لهم بكلمات لم أنسهاأبداً: "مستقبل اليمن الأدبي يعتمد على هذا المؤلف الشاب". لقد علت الدهشةالمشوبة بالاستنكار وجوه القوم، ولكن حتى أنا ما زلتُ أشعر بالدهشة من هذه الكلماتحتى اليوم.

أخبرني أن صفحته مفتوحة لي لأنشر ما أشاء، وقد وفى بوعدهونشر لي العديد من القصص القصيرة. كذلك نشرت مجلة "أصوات" التي يُشرفعليها قصتي القصيرة "أنفي المزعج" التي أثارتْ انتباه بعض المثقفينوجعلتهم يسألون عن كاتبها.

ظل هذا الصديق العظيم يُساندني في كل الأوقات والأزمات،وهناك بعض الحوادث الخطرة التي وقعت فيها بسبب طيش الشباب، وكان لتدخله الشخصي دورفي نجاتي من تلك المآزق. عندما صدرت "قوارب جبلية" الرواية التي أثارتْ حفيظةالسلطة، استدعاه رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح وسأله هل قرأ الرواية،فأجاب بنعم، فقال له إن الرواية تُهاجم وتسخر من الرموز الوطنية– يقصد نفسه-فأجابه شاعر اليمن الكبير: "ليس في الرواية ما يُصَرِّح أو يُشير إلى ذلك،وإذا هناك أحد يتحسس نفسه في الرواية فهذا شأنه!".

لم أكن استثناءً، فهذا المثقف الملتزم له أيادٍ بيضاءعلى المئات من الأدباء، لقد قدم الدعم والتشجيع اللامحدودين لأجيال من المبدعين،وساهم بشكل شخصي في إنقاذ أعداد من المثقفين اليساريين من الاعتقالات والملاحقة،ووفر لهم فرصاً للعيش الكريم في مركز البحوث والدراسات الذي يرأسه.

مؤكد أننا جيل محظوظ جداً، لأننا جئنا في زمن هذا القائد الثقافي الكبير الذي لم تنجب الأمة اليمنية مثيلاً له من قبل في الدور والتأثير والإبداع.

•••
وجدي الأهدل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English