المبصر الأكبر

عبدالرحمن بجاش
August 31, 2020

المبصر الأكبر

عبدالرحمن بجاش
August 31, 2020
ت: عبدالرحمن الغابري

خيوط الفجر

كيف تكون بصيراً في بلد كله من أوله إلى آخره عميان؟ 

هكذا كان البردوني، وهكذا كنا ولازلنا، وسنظل، طالما والعقل والبصيرة يغيبان كل لحظة، ونتحول تدريجياً إلى قطيع من أغنام لا تدري من راعيها !

ليست الحكاية متعلقة بالجدل العقيم: أنت متشائم، يا رجل.. تمسك بالأمل؛ الأمل كما قال لي الدكتور عبدالكريم الإرياني "يشتي عمل"، والوصول الى اليقين بحاجة الى جهد مضاعف.

أن يكون البردوني هنا ويذهب فلا يترك ذهابه أثراً، فهي المصيبة. فلو كان البردوني في أمة أخرى لصاغوا منه القصائد والتماثيل، ولتحوّل إلى مادة أساسية في المدارس، بالذات الابتدائية والجامعات.

يذهب البردوني، ويتهدم بيته، فلا تتحرك من رؤوسنا الشعيرات البيض والسود، في دليل آخر على أننا مجرد أموات، ننتظر قرارات فوقية بالفرح أو الحزن، أن نحب، أو نكره. والدليل الآخر، أن جنازته جرى "لفلفتها" كما لو كان نكرة أو لا وجود له، بينما كانت الأعلام تنكس للفاسدين من كل شاكلة ولون.

لو كان هنا شعب حي، وهو كذلك بلا شك، صحيح  تقتله النخب كل يوم بتجويعه وإفقاره، لكن كان على هذا الشعب، برغم كل فواجعه، أن ينكس الأعلام يوم وفاة المبصر الأكبر في هذه البلاد. لذلك يظل هنا محمد القعود، من ننحني له احتراماً، فقد حاول ولا يزال، ومن هناك محمد جسار، عبر الانترنت، فعل ما استطاع فعله على أن يبقيا الرجل حياً في وقت نحن فيه نموت، وغيرهم لم ينجح أحد.

سيظل البردوني يُقتل كل يوم أمام أنظارنا، حتى إذا وَلْوَلْنا، كما هي العادة لأيام، فسوف ننسى لكل السنين القادمات

لو أن لدى ورثة البردوني بعض مشاعر، فعليهم أن يجلدوا أنفسهم كما جلد البردوني الأدباء ذات يوم في لقاء أجراه معه فتحي الملا، مع مجلة "الوطن" التي كانت تصدر عن المغتربين اليمنيين. لكن للأسف، فالجهل الذي طبعنا بطابعه أدى بالورثة إلى الجهل بمن هو وما هو البردوني! فلو كانوا يدركون عظمته ما اختلفوا على متاع هو من حق الناس، وها هو يتحول إلى ركام وسيظل كذلك، لأن القلة هم من يدركون ماذا يعني الشعر، والشعر يدري من هو البردوني! وسيظل البردوني يُقتل كل يوم أمام أنظارنا، حتى إذا وَلْوَلْنا، كما هي العادة لأيام، فسوف ننسى لكل السنين القادمات.

تمنيت أن أسمع عن قاعة في جامعة، أو شارع ما، أو مكتبة عامة غير التي في ذمار تحمل اسمه، لكن بلداً عجز عن تسمية الشوارع غير جدير بأن يكون بحجم البردوني، واغفروا لي قسوتي ربما.

سيظل صوته يرن في أذني وقد اقتربت منه أمام مكتبة "أبو ذر"، حيث همست في أذنه: أقسم أنك المبصر الوحيد في هذه البلاد، ومضيت. ظلت ضحكته تلحق بي، بينما أستعيد مشهد إنزاله كتاباً جديداً إلى المكتبة، ومعه مزحاته وقفشاته الذكية. بعد أسبوع مات، بعد أسبوع آخر، نسينا، وبأمر من الرئاسة.

وسيأتي من يقول: يا رجال لا تحاكم الأموات. هزلت!


•••
عبدالرحمن بجاش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English