البروليتاريا المسحوقة وسطوة البرغماتية

في رواية "أرض المؤامرات السعيدة"
عبدالوهاب سنين
August 5, 2020

البروليتاريا المسحوقة وسطوة البرغماتية

في رواية "أرض المؤامرات السعيدة"
عبدالوهاب سنين
August 5, 2020

سكب الروائي وجدي الأهدل سطور روايته الباذخة – الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان بيروت 2018م ، وقوامها 310 صفحة- بحبر يئن ويشكو جور الضيم الذي سببه سطوة المشايخ على طبقة البروليتاريا.

البناء السردي

كان البناء بناءً سردياً متماسكاً، وهو بناء محكم  في المضمون والشكل الفني، حيثُ تجد شخصيات الرواية لها حضور في ذهن القارئ سواءً كانت الشخصية رئيسية كـ(مطهر فضل) أو ثانوية كالضابط ( أحمد فتيني)، ولا شك أن الكاتب وظف خبرته في العمل الروائي مازجاً الواقع بالخيال، وكان البناء لافتاً وقوياً متناً ومبنى، حيثُ نجد ذلك في ( أرض المؤامرات السعيدة) قائم أيضاً على الشخصية المحورية، إذ تجد فيها دراسة عميقة للنفس والأبعاد الاجتماعية، والتأثير السياسي الذي كان له الأثر القوي على شخصية بطل الرواية، وفي ما يخص الغرائبية المعهودة من الكاتب في أعماله السابقة، والتي أخرها (بلاد بلا سما) كانت حاضرة بشكل لافت، ولكن الكاتب في هذا العمل الرائع أحجم عن تلك الغرائبية، باستثناء الفصل الأخير (صفر) إذ كانت حاضرة بشكل طفيف جداً، حيثُ ختم كما أسلفت روايته بها وفيها فنتازيا وخيال من شقين :

الأول واقعي وفيه وقوع حادث للسيارة البيجو التي كانت تقل البطل( مطهر فضل) من الحديدة إلى صنعاء، وكان مصيرها السقوط إلى قعر الوادي في تصوير فنتازي بديع، حيث حلقت السيارة في الهواء كأنها ريشة طائر تتلاعب بها الرياح. 

الشق الثاني كان غرائبي هو تلك العجوز التي صورها الكاتب تصويراً مخيفاً تنخلع من رؤيتها النفس البشرية، وأخبرت من كان على متن السيارة بخطر السفر لما يصادفهم خروج الرجل ذو الملابس البيضاء وعلى إثر رؤيته حدث التدحرج للسيارة في الهواء وصولاً إلى الهاوية المصيرية .     

أظهر الكاتب بشاعة البرغماتية والتسلط، إذ صور فيها الحقائق المدفونة تحت ركام السلطة، وكيف تعيش الطبقة المسحوقة حياتها بالمقلوب، والمؤامرات التي حاكها أساطين الصحافة ضد هذه الطبقة البائسة

كانت أحداث الرواية فيها زخم من التشويق في متابعة فصولها، التي جعلها الكاتب تنازلية تبدا من (65) وتنتهي (بصفر)، وكأن الكاتب تعمد ذلك لإعلام القراء أن الحياة كانت بالمقلوب، حتى الحقائق أصبحت كذلك، حيثُ طاف الكاتب بقرائه في المدينة السمراء( الحديدة) وبنا روايته على قضية اغتصاب وقعت في أحد القرى النائية (قرية باب المنجل)، إذ أوضح الكاتب وجلى مفهوم الإنسان المهدور الذي استُلبت منه إنسانيته، وانتزعت منه حصانته وحقوقه، وخاصة ذلك النوع المهمش الممرغ بسياط الاستبداد والفوقية التي تحمل في تكويناتها سيكولوجية ذات دوافع دينامية غائرة في النفس المتفردة بالتسلط، وصور الكاتب استغلال القاصرات في معترك هذه الحياة الموبوءة بأزلام الإمبريالية البغيضة. 

البرغماتية البحتة

أظهر الكاتب بشاعة البرغماتية والتسلط، إذ صور فيها الحقائق المدفونة تحت ركام السلطة، ويلحظ القارئ ذلك من خلال العنوان لهذه الرواية، إذ سيجد الحياة المريرة للطبقة المسحوقة تعيش حياتها بالمقلوب، والمؤامرات التي حاكها أساطين الصحافة ضد هذه الطبقة البائسة، تولى زمامها الصحفي (مطهر فضل)  الآتي من صنعاء إلى المدينة السمراء (الحديدة) للتحقيق في قضية اغتصاب طفلة تدعى (جليلة)، وقد جذب الكاتب القارئ بسطوره المتناغمة، وصور فيها قبح التنصل من الإنسانية للصحفي مطهر فضل، حيثُ باع شرف مهنته مقابل المال والجنس ، وكانت الأيادي المستعرة تقوده بالريموت كتلفاز أُلصق في الجدار، وليس له إلا أن يستجيب لمن أراد تقليب قنواته، وجعلوا منه أداة ديناميكية تنحت الأكاذيب.  ويفاجئنا الكاتب بالمصير المأساوي لبطل الرواية(مطهر فضل)، وذلك من خلال تلك المؤامرات التي حاكها الساسة في سوق النخاسة حيثُ أسدل أزلام البرغماتية الستار الذي يحجب العيون عن المُغتصِب الشيخ (بكري حسن)، وقُدمَ الصحفي كبش فداء  للرأي العام بصورة مشوهة، وشرب مطهر فضل من نفس الكأس التي جرعها للمجني عليها(جليلة) حين أخفى حقيقتها عن الرأي العام، وسقط في وحل المؤامرات وسط فخ شائك علا فيه صوت البرغماتية، وأُلجم صوت الحقيقة المستلبة، ونرى أيضاً تلك المأساة في المحاكمة التي نجى منها المُغتَصِب، وجرمت الضحية وأصبحت من مجني عليها إلى مُغتَصِبة.  

الحبكة

الرواية أنموذج لحبكة احترافية ، إذ تخللت الرواية حبكات مصيرية، الأولى (الحبكة الميلودرامية)، وفيها تعرضت (جليلة) أحد أبطال الرواية إلى مأساة وأصبحت مذنبة، بالرغم أنها الضحية والمجني عليها. ويطالعنا الكاتب (بحبكة ثانية) ( الحبكة المأساوية)، وفيها تعرض بطل الرواية ( مطهر فضل) إلى أداة ممرغة في الوحل بسبب نفسه المتطلعة للترقي والعلو، ولكنه يسقط فريسة لتلك الأطماع، ولا يشعر بذلك إلا وهو يواجه سقوطه الذريع، بعد أن ضحى به زبانية النظام الذي عمل معه المستحيل، وقذف بإنسانيته إلى الجحيم من أجله،  وقد يجعل القارئ بعض الشيء يتعاطف معه. وهناك (حبكة ثالثة) وهي (الحبكة الوقحة)، وفيها انتصار الشخصية الحقيرة ونسقط هذه الحبكة على الشيخ (بكري حسن) الذي انتصر له القضاء وبراءه من جرمه، مع ضلوعه في جريمة الاغتصاب، كذلك رئيس تحرير جريدة الشعب(رياض الكيَّاد) المحترف في المكائد والمصائب أصبح وزيراً.  ويطالعنا الكاتب (بحبكة رابعة) أنها (حبكة النضال)، والتي نسقطها على الناشطة (سلام مهدي) التي مرت بعدة مخاطر من أجل قضية جليلة، وأيضاً احترامها لمبادئها النضالية، ووصولها إلى رئاسة تحرير جريدة (السنابل الحمراء) واللافت في هذه الرواية الرائعة أن المؤامرات اشترك فيها النظام والمعارضة، وكل جهة تحيك مؤامراتها من وجهة منظورها؟.

وإن كان لي ملاحظة حول ما دار في المحاكمة، إذ جُعلت (جليلة) التي تعد من عمرها ثمانية أعوام هي المُغتَصِبة، والجاني الشيخ بكري هو الذي أُغتصب من قِبل طفلة لم يشتد عودها، وذلك من خلال التقارير المُقدمة للمحكمة، وفيها تقرير طبي يثبت بعد الكشف على الشيخ وجود آثار تمزق في جهازه التناسلي.

والحقيقة أن الكاتب لم تخفَ عليه مثل هذه الرؤية، ولكنه تعمد ذلك ليظهر قدرة اصحاب السطوة في قلب الحقائق،  والمؤامرات المتناثرة في روابي الوطن النازف جروح الأسى، وكشف الكاتب عن آثار ومساوئ من استظلوا تحت عباءة النظام، وكشف عن أساليبهم واتجاهاتهم وتداعياتهم الاجتماعية والسياسية، في ثوب سردي حكائي متين، وخيال مقنع وكأنه طريق معبدة أمام القارئ لا فجوة فيها، هكذا أسدل الكاتب الستار على سير الأحداث التي أحكم حبكتها، ونسج خيوطها بدقة متناهية وبنا سطورها بناءً باهراً،  فهنيئاً للروائي الأهدل هذا النتاج الآسر، وهنيئاً للقارئ هذه الوجبة الدسمة .


•••
عبدالوهاب سنين

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English