"حوكمة" دولة الوحدة

مقاربة للاختلالات التي تضافرت مع معاول التقويض
عبدالرشيد الفقيه
May 27, 2023

"حوكمة" دولة الوحدة

مقاربة للاختلالات التي تضافرت مع معاول التقويض
عبدالرشيد الفقيه
May 27, 2023

رغم المضامين النهضوية الكثيرة التي تأسّس عليها نظام دولة الجمهورية اليمنية المُعلنة في 22 مايو 1990، من: تعدّدية سياسية، وديمقراطية، وحرية صحافة وتعبير ومعتقد، وحرية مجتمع مدني، ومواطنة متساوية، وسيادة قانون، وغيرها من مؤسِّسات الدولة الحديثة، إلّا أنّ الأطراف المؤتلِفة ظاهريًّا لحظة إعلان الدولة الوليدة وخلال سنواتها الأولى، كبلتها بثقالات أفرزتها روحيات أنانية، كانت أصغر من أن ترتقي لمستوى مشروع الدولة ومضامينه ومقتضياته ومتطلباته ومسؤولياته، كفرصة تاريخية لإنصاف مُستحق لأمة كابدت أجيالها عشرات السنين، تصدّى الآباء والأمهات المؤسسون، رائدات وروّاد الحركة الوطنية، لمسؤولياتهم بحنكة وجدارة، وقدّموا تضحيات سخية في سبيلها، من أجل لحظة الانعتاق تلك، المتمثلة في دولة المواطنة والعدالة والنماء والاستقرار.

ومن سوء حظ الدولة الوليدة، ومواطناتها ومواطنوها كذلك، أنّ من تولّى قيادة دفة سنواتها الأولى، مجموعةٌ لا صلة لها بالمضامين الخلّاقة لذلك المشروع النهضوي ووعوده، ولا بما راكمته الحركة الوطنية من تصورات ناضجة لحوامل دولة الناس، النابعة من إرث حضاري مُلهم، والضامنة لحاضر ومستقبل واعد ومزدهر، فأعطبت قُمرة قيادة مشروع دولة الوحدة وهياكلها وآلياتها، ليُنذر بالإعطاب والتقويض، منذ لحظة ميلاده، وعلى مدى ثلاثٍ وثلاثين سنة من عمره.

ورغم انخراط الكثير من معاول الهدم الخارجية، التي رأت في وجود دولة يمنية حديثة تهديدًا وجوديًّا لها، في تقويض مشروع دولة الوحدة، ما كان لها لتتمادى بضرباتها، بصفاقة، لولا الاختلالات البنيوية في حوكمة أسس دولة الوحدة، وفي بُناها وهياكلها وآلياتها وتشريعاتها، حقنتها بها روحية أنانيات التقاسم والتحاصص، وضغائن الأيديولوجيين، وجشع المتطفلين، وهو ما أفرغ دولة الوحدة من مضامينها ووعودها، وحمّل الدولةَ والمجتمع بمتوالية طويلة من ملفات الحروب والمقامرات والمظالم والفساد وسوء الإدارة والتسلط.

وبالتدقيق في وثائق ومحطات إعلان دولة الوحدة، بَدءًا باتفاق إعلان الوحدة، الموقّع في صنعاء في 22 أبريل 1990، الذي كان مقتضبًا ومرتجلًا بصورة مُخلة، يتسم بركاكة ديباجته ومواده وهيكليته، رغم أهميته كإعلان دستوري وظيفته الأصيلة وضع محددات تأسيسية يتوقف عليها مصير أمة كاملة، والذي بدا أنّه "سُلق" بمعزل عن تراكم طويل من المناقشات التمهيدية على مدى سنوات، كان منوطًا بها وضع أسس متينة للدولة المنشودة.

لقد كان واضحًا، أنّ الاتفاق الذي نصّت المادة التاسعة منه، بأنه يمثّل الإطار المُنظم لكامل المرحلة الانتقالية، قد أُعدّ بمزاج ساسة، تصدّروا حينئذٍ، رغم محدودية قدراتهم ومعارفهم ومخيلاتهم، وتشبعهم بالمطامع والضغائن والهواجس والأوهام، دون أن يُعرض على خبراء دستوريين وقانونيين، لضبط موادّه ومضامينه وهيكليته.

لقد حدّدت بنود الاتفاق شكلَ رئاسة الدولة الجديدة المُشكّلة، كمجلس رئاسيّ يضم خمسة أعضاء يختارون من بينهم رئيسًا، دون توصيف دقيق لحدود أدوارهم وصلاحياتهم وآليات محاسبتهم، ودمجَ الاتفاقُ المجلسين التشريعيين، ليُشكّل مجلس واحد، بصلاحيات محدودة، وسمّى الاتفاق يوم إعلان الوحدة، وحدّد المرحلة الانتقالية بسنتين وستة أشهر من تاريخه، وأشار في أكثر من مادة للدستور، والذي يفترض أنّ لجنة دستورية قد عملت على مسودته على مدى سنوات، وحدّد الاتفاق موعد الاستفتاء على الدستور قبل 30 مايو 1990.

وبعد ما يقارب العام من الموعد المحدد في الاتفاق، تم الاستفتاء على دستور دولة الوحدة في 15 و16 مايو 1991، والذي عبرت نتيجته عن المزاج الشعبي العام وقتئذٍ، حيث صوت مع الدستور بنسبة 98,3%، وصوّت ضدّ الدستور، نسبة 1,5% من المصوّتات والمصوّتين.

ولعلّ من المفارقات الدالّة على طبيعة النخبة الحاكمة ونواياها المبيتة، خلوّ نظام الدولة الوليدة بتشريعاته وهياكله وبُناه وشعاراته وحتى وعوده الآجلة، من أيّ تدابير أو مقاربات تخص ضحايا الصراعات السياسية، على كثرتهم، حيث تواطأت الأطراف المتحالفة في السلطة الجديدة، مع انهماكها على اقتسام مغانم المرحلة، وعلى غضّ الطرف عن الملفات الحقوقيّة والإنسانيّة الثقيلة المتوارثة عن الصراعات السياسات الدامية في الشمال والجنوب، وهو أحد أوجه تخلي الدولة الجديدة عن واجباتها تجاه ضحايا صراعاتها الغابرة، ضدًّا على أحد متطلبات أيّ تحوّل وطني خلّاق، والمتمثّل بمعالجات شجاعة لملفات الماضي، بكشف الحقيقة، وجبر ضرر الضحايا، ورفع المظالم، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، من أجل فتح صفحة جديدة مُحصَّنة من آثام الماضي وفظاعاته.

ورغم أنّ الدستور المُستفتى عليه حمل الكثير من المضامين الخلاقة، كنتيجة لجهود سنوات من عمل اللجنة الدستورية المشتركة (من شطري اليمن)، مثل: التأكيد على التعددية السياسية، حرية التعبير، المواطنة المتساوية، سيادة القانون، حرية المجتمع المدني، حرية الفكر والمعتقد، وغيرها من المضامين، فإنه لم ينجُ تمامًا من كمائن وفخاخ مزاج ائتلاف الحكم المتربص وقتئذ، فقد وضع الدستور مجلس الرئاسة الخماسي في أعلى هرم الدولة، مع عدم تعيين حدود صلاحيات وواجبات المجلس، والتي رُصّت بعبارات مُرسلة وفضفاضة وقابلة للتأويل، مربوطة بجُملة من الاستدراكات والاستثناءات، مع إغفال تعيين آليات المحاسبة، باستثناء إشارة خجولة متعلقة بجريمة الخيانة العظمى.

بدلًا من العمل بمسؤولية عقب انتهاء الحرب، على معالجة الكثير من الاختلالات والتشوهات التي قادت إليها، ومعالجة كافة آثارها، ذهب تحالف المنتصرين في الحرب، بنشوة وغطرسة، لارتكاب المزيد من الآثام والخطايا، التي طالت قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين في المحافظات الجنوبية.

وبالإضافة إلى عدم وجود آلية واضحة لاتخاذ القرارات داخل مجلس الرئاسة، تضاربت العديد من مهام المجلس مع صلاحيات الحكومة، والتي يعرّفها الدستور باعتبارها الإدارة العليا للدولة، ويستتبع لها جميع الإدارات، والأجهزة، والمؤسسات التنفيذية التابعة للدولة، بدون استثناء، ليكون للجهاز التنفيذي للدولة، قُمرتا قيادة تمتلك ذات الصلاحيات، دون وجود أي آليات ترتب حدود الأدوار والمسؤوليات والصلاحيات، في أنموذج اتسم بهشاشة الروابط بين مكونات جهاز الدولة المختلفة، وعدم الفصل الواضح بين السلطات والمسؤوليات، لتتفاقم تلك الاختلالات، مع وجود نخبة حاكمة، تفتقر للحدّ الأدنى من التجانس والامتثال والإيثار الوطني، السياسي والإداري والقانوني والمسلكي، في مرحلة تأسيسية حساسة، كانت تتطلب بالضرورة، من أجل عبورها بأمان، تصورات ناضجة، وتشريعات دقيقة وصارمة ومحددة، وهياكل متماسكة وكفؤة ومتسقة، وآليات فعّالة ونافذة، وقيادات مسؤولة وممتثلة ومتفانية لتحقيق الصالح العام، كشروط لازمة، لتثبيت اللبنات التأسيسية للدولة الجديدة، بصورة تكفل رسوخ البُنى والتقاليد والممارسات والقيم المؤسسية، كوعود مستحقة للناس.

ورغم وجاهة كل المرافعات التي يمكن أن تسرد محامد دستور دولة الوحدة الكثيرة، وعمّا حقّقته من مكاسب على أكثر من مستوى، وكلّ الملاحظات التي ستقارب أوجه القصور كذلك، فقد تسابقت أطراف الحكم المتحالفة ظاهريًّا بِشَرَه، سعيًا للاستحواذ على مغانم المرحلة، وارتكبت في سبيل ذلك خروقات جسيمة للعقد الاجتماعي المُستفتى عليه، قبل أن يجف حبره، وقوّضت أُسسه وبُناهُ الهشة في مهدها، وضربت بمعاولها جدران السلم الاجتماعي، فتدافعوا مُحملين بإرث تشوهات أفرزتها مقامرات نظم الشمال والجنوب، ليس بهدف معالجتها، بل للاحتماء بها وتكريسها ومفاقمتها لاستخدامها الكيدي، في مشهد عبثي سائل بكل نقائض تصوّرات وتطلعات الحركة الوطنية، ما دفع بالبلاد، في نهاية المطاف، في أتون حرب صيف 94 العبثية، والتي أضافت ملفات ثقيلة وآثمة، إلى ملفات دورات الصراع السياسي في الشمال والجنوب، العالقة في ذمة البلاد وقادتها ونخبها.

وبدلًا من العمل بمسؤولية، عقب انتهاء الحرب بهزيمة شريك الوحدة، على معالجة الكثير من الاختلالات والتشوهات التي قادت إليها، ومعالجة كافة آثارها، ذهب تحالف المنتصرين في الحرب، بنشوة وغطرسة، لارتكاب المزيد من الآثام والخطايا، التي طالت قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين في المحافظات الجنوبية، ومنها السطو على الأراضي والممتلكات، وإبعاد عشرات الآلاف من الموظفين في مختلف القطاعات، وفرض تسميات جديدة على المعالم والطرقات، وأشكال متعددة من الاستباحة والسلب والانتهاكات التي استمرّت على مدى سنوات دون وازعٍ من عقل أو ضمير.

وفي مسار استكمال مهمة تقويض مجال السياسة بكل ما راكمته من مكتسبات، مضى تحالف المنتصرين في حرب صيف 94 بضربات فتاكة، منها، على سبيل المثال لا الحصر: التعديل الدستوري الأول الضامن لإنجاز الاستحواذ على السلطة، وإفراغ أطر دولة الوحدة من مضامينها الخلاقة، والإمعان بممارسات تشكّل النقيض لتلك المضامين، كمنح صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية غير المُنتخب تكريسًا لسلطة الفرد، وعدم الالتزام باستقلالية السلطة القضائية، وتعطيل إجراء انتخابات السلطة المحلية، كاستحقاقات دستورية في العقد الاجتماعي النافذ.

وعلى مدى سنوات، رُهنت البلاد لإدارة تتسم بالارتجال والمزاجية والحيل الهروبية وإساءة استخدام السلطة مع ضمان عدم المساءلة وتعطيل القوانين، وسط بيئة من الإفساد المالي والإداري والسياسي والقيمي، تفاقمت فيها مختلف الإشكالات، وتوالدت إشكالات وتشوهات واعتلالات جديدة، مع تعمد سد كافة قنوات الإصلاح السياسي، وتآكل أسس الشرعية والمشروعية الدستورية والقانونية، وهي عوامل تضافرت على إهدار كل الفرص القيمة لضمان مصالح عموم الناس، لتنحصر مهمة السلطة الفعلية في تأمين مصالح غير مشروعة لأقلية متسلطة شرهة وعمياء.

ونحن وسط طوفان من الكوارث التي صنعتها ذهنيات النخب المتسلطة التي تناوبت على أدوار التقويض من شرق البلاد إلى غربها ومن جنوبها وشمالها، على امتداد تاريخنا الحديث، نحمل مسؤولية إعمال آليات ووسائل حديثة، لتشريح ومقاربة مختلف الإشكالات والاعتلالات المزمنة والمستجدة، والكف عن التورط في اختزال مشكلاتنا في فاعل وحيد، واستثناء فاعلين آخرين، رضوخًا لمفاعيل متغيرات القوة، ومراعاةً لمزاج الصوت الأعلى، وإكراهات آلات الدعاية والبروباغندا والشعبوية وإغراءاتها، فهذا المسلك، بغض النظر عن دوافعه، لا يختلف في طبيعته وروحيته وآثاره، عن السلوكيات المُخاتلة لمزاج الأطراف المنتصرة في حرب صيف 94 الآثمة، والمتمالِئة معها.

إن إحدى المهام الأساسية لبنات وأبناء جيلنا، المتجرّدين من آثام صُنّاع الانتكاسات الوطنية، ومصالحهم ومنافعهم الملوثة، وتصوراتهم وأوهامهم الـ(ما دون) وطنية، تتمثل في وقف استنساخ طرائق وأفكار ومناهج أعيان الخرائب والحرائب والخيبات، واعتماد مسارات مغايرة، من خلال الاشتغال على تحليلات علمية ومنهجية متجردة، تقارب كافة الإشكالات والاعتلالات التي تراكمت على مدى عشرات السنين من تاريخنا الوطني، كسبيل أمثل لوضع تصورات مستنيرة لمعالجات تضع أُسسًا متينة لمستقبل مختلف، فلا يمكن تحت أيّ ظرف، معالجة المشكلات والتشوهات، بذات المحددات والطرائق والوجوه، التي كانت ضالعة في خلقها وإنتاجها ومفاقمتها، والتي سُلقت في مراحل سابقة، وقُدّمت باعتبارها حلولًا سحرية.

إنّ واجب اللحظة، وواجب كلّ حين، يتمثّل في تصدّي المثقفات والمثقفين وكافة الفاعلين المدنيين، لمهمة تهذيب المشهد بمدخلاته ومُخرجاته وتفاعلاته وأطرافه، ولجم الخطاب الغرائزي المنفلت، والمتكئ أساسًا على متغيرات القوة المُهندسة بعناية لضمان مصالح فاعلين إقليميين ودوليين، تتناقض بالضرورة مع مصالح عموم اليمنيين دون استثناء؛ ولذلك فأوجب واجبات النخب المدنية، تمثيلُ أصحاب المصلحة، أمام مراكز القوى، القديمة والمستجدة، بدءًا من التدقيق في مضامين خطابها وسلوكياتها وآلياتها، والكفاح المدني لتقويمها وإخضاعها لآليات محاسبة فعالة ومستنيرة، كخطوات واجبة للعبور إلى دولة المواطنة والعدالة وسيادة القانون والاستقرار والتنمية.

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English