مفارقة تبادل المواقع

قاصّ وشاعر على رصيف الحياة
د.عبدالحكيم باقيس
November 24, 2023

مفارقة تبادل المواقع

قاصّ وشاعر على رصيف الحياة
د.عبدالحكيم باقيس
November 24, 2023
.

كتب الراحل القاص عبدالله سالم باوزير، في سيرته الذاتية (أنا والحياة)، التي تحكي ألم إنسانٍ عصامي، لا تختلف ملامحه عن ملامح أيّ مارٍّ بجانبك على رصيف الكدح والمعاناة، كما لا تختلف تقاسيم وجهه المتعب عن أي وجه محشور إلى جوارك في باصات المواصلات الشعبية؛ ﻷنه كاتب شعبي جماهيري بكل معنى كلمة (الجماهيرية) التي صاغها إبداعًا في التقاط تفاصيل الحياة الاجتماعية للناس في كل قصصه، وهي جماهيرية الإبداع لا جماهيرية الهتافات المزيفة التي لم تنتج غير التخلف والدماء، لقد ذكر في كتاب سيرته العديد من المواقف المؤلمة والطريفة معًا عن حياته وحياة أمثاله من (الجماهيريين)، ومن ذلك قصته مع الشاعر الغنائي المعروف أحمد بومهدي، الذي غنّى له العديد من الفنانين، يقول باوزير:

"... أذكر أنني في عام 1957، أرسلت محاولة لكلمات أغنية ساذجة إلى مجلة (أنغام) لصاحبها الشاعر الأستاذ علي أمان، تحت عنوان (أسمر من الشيخ)، وكنت حينها على صلة بصديقي المرحوم الشاعر الغنائي أحمد بومهدي، الذي كان يعمل حينها بأحد متاجر الشيخ عثمان، أسفل مسجد النور، وكان حينها قد بدأ يتردد على منزل عمه الفنان عوض المسلمي، وفي هذه الفترة كان أحمد بومهدي يراسل بعض الصحف أيضًا، ولكنه كان حينها منشغلًا بكتابة القصة القصيرة، ومن مفارقات الزمن أن نتبادل المواقع فيما بعد، فأصبحت أنا الذي بدأت بكتابة الشعر الغنائي قاصًّا، ويصبح هو الذي بدأ حياته الإبداعية بكتابة القصة، شاعرًا غنائيًّا".

في هذه النتفة البسيطة إشارةٌ إلى الصلة والمجايلة بين علَمَين في الأدب والمعاناة في الحياة الخاصة، شاعر وقاص ملتحمان رغمًا عنهما برصيف الشارع في رحلة الشقاء والإبداع، وثنائي أدبي جميل، يذكّران بثنائي أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودي.

رحم الله القاصّ عبدالله باوزير الذي ظلّ مجرد عامل عادي في أحد متاجر بيع اﻷقمشة في كريتر في عدن، وشق طريقه في عالم الأدب قاصًّا يشار إليه بالبنان، ورحم الله الشاعر أحمد بومهدي الذي لم يختلف عن صاحبه؛ فالاثنان أنموذجان للأديب العصامي خارج سلطات المؤسسة الثقافية التي استحوذ عليها لون واحد في السبعينيات في جنوب اليمن، والتي كانت تستمد قوتها وتصوغ أساطيرها كذلك من سلطة النظام السياسي الذي كان سائدًا آنذاك، فأنتجت تاريخًا أدبيًّا مشوهًا لا يقل تشوهًا عن التاريخ السياسي نفسه. سنوات من الإقصاء والتهميش ﻷدباء يمنيين جنوبيين تمّ بأيدٍ جنوبية مئة بالمئة، أو على الأقل لم يجدوا العناية اللازمة التي تليق بمكانتهما، قبل أن يجتاح التهميش الجميع بمختلف ألوانهم وأيديولوجياتهم، وذلك ما كتب عنه باوزير بمرارة في كثير من المواضع في سيرته الذاتية.

تاريخنا اﻷدبي والثقافي بحاجة إلى كتابة منصفة لهؤلاء الأدباء من هذا الجيل، الذين ظلوا خارج اهتمام المؤسسة التي كانت تحكمها معايير واعتبارات لا علاقة لها بالأدب أو الإبداع.

شخصيًّا أنا من جيل تالٍ لجيل عبدالله باوزير وأحمد بومهدي، جيل الأبناء إذا صح التعبير، ومعرفتي الشخصية المباشرة بهما لا تتعدى المشاهدة في الشارع في أطراف الشارع في بلوك 25 في المنصورة أو شارع الطعام في كريتر، هناك في فضاء العابر حيث تتداخل الملامح والوجوه التي يزكمها غبار الطريق، على نحو ما ذكرت بشأن جماهيريتهما، لكنه العابر العميق في الوقت نفسه، حيث تتشكل معاني الحياة والتقاط التفاصيل التي تنتج أدبًا خالدًا، وتلك مفارقة أخرى. وأظنّ أنّ تاريخنا اﻷدبي والثقافي بحاجة إلى كتابة منصفة لهؤلاء الأدباء من هذا الجيل، الذين ظلوا خارج اهتمام المؤسسة التي كانت تحكمها معايير واعتبارات لا علاقة لها بالأدب أو الإبداع، وهو جيل من المقهورين الذين أخذ بجذوة الإبداع بعد جيل الرواد، الذين يتقدمهم في الجنوب محمد علي لقمان.

وباختصار: إذا كنت مارًّا بأحد أرصفة شوارع المنصورة في عدن في الثمانينيات، ربما رأيت أحمد بومهدي إلى جوارك في الرصيف، يقاسمك الشواغل الحياتية واليومية، ما يمنحه القدرة على التقاط أدق تفاصيل المعاناة التي يحولها إلى كلمات تجد نفسك بين حروفها. وكذلك ظلّ عبدالله باوزير يفعل في مغالبة هذه الشواغل حتى منتصف العقد الأول من هذا القرن، فتصرعه الأيام أكثر مما يحاول أن يصرعها. فيما قد ترى من هو أقل منهما إبداعًا في الأبراج العاجية التي تضافرت جهود مؤسسات رسمية ثقافية وإعلامية في إنتاج خرافاتها! إنها الحياة التي نعيشها، والتي لا تكف عن إدهاشنا وصناعة المفارقات، فترفع هذا وتضع ذاك، كما عبر الشاعر أبو تمام ذات يوم عن حال أهل العقول بين أهل الطبول، فقال حكمته الشهيرة في بيته الشهير:

ولو كانَتِ اﻷرزاقُ تجري على الحجا       هَلَكنَ إذن من جهلِهنّ البهائمُ

وفي هذه الظروف التي كانت في اﻷمس، وتتناسل بعض خيوطها في اليوم، يحدث أن يهلك أهل الحجا، من المواطنين والمبدعين على حد سواء، ليعيش اللصوص والأدعياء.

يذكر كذلك باوزير مفارقة أنكى وأدهى، أنه غادر أفضل وظيفة شغلها في حياته في عام 1957 (مراقب عمّال البناء)؛ ﻷنه قد تعرض لضغوط شديدة من مديره العام، حين طلب منه مجرد توقيع بسيط على كشوفات أسماء عمّال وهميين. كانت صفقة آمنة، لن يعلم بها أحد، وكانت ستقلب مسار تاريخ حياته كلها من الشقاء المادي الذي عاشه إلى السعادة المادية المحتملة، وبسبب جينات الرشد في تربيته وأخلاقه، فقد استقال من تلك الوظيفة لائِذًا بمبادئه التي ظلت تلقي به عاملًا بسيطًا في المحلات التجارية بحثًا عن لقمة عيش حلال!

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English