الفنان الراحل محمد سعيد

السجن والرهاب.. وفنّ كاريكاتوري هادئ
نجيب مقبل
April 24, 2022

الفنان الراحل محمد سعيد

السجن والرهاب.. وفنّ كاريكاتوري هادئ
نجيب مقبل
April 24, 2022

ذات يوم قال لي: "لا أستطيع أن أؤدي صلاة الجماعة في المسجد!".

وأردف: "أشعر وكأن الناس في صفوف الجماعة يضغطون على صدري، ويكظمون أنفاسي!".

بهذا الفصح الكظيم سرَّني حين زرته قبل عشر سنوات، إثر ملمة ألمّت به.

عرفت أنَّ هذا هو (رهاب الزحمة) تمامـًا، كما هو (رهاب الأماكن العالية) أو (رهاب الخوف من الثعابين والفئران...)، وغيره من ألوان الرهاب المعروفة نفسيًّا.

كم كان محمد سعيد، الفنان الكاريكاتوري والخطاط والمخرج الصحفي، رهيفـًا وشفافـًا ومسالمـًا، ولا يقوى بروحيته النقية على مقاومة الضغوط الكبرى التي هجمت عليه فجأة.

بداية القصة مع الرهاب

والقصة تبدأ حين حاول بعضٌ من المتنفذين بعد عام 1994 وحربها الجائرة وبقوة البلطجة ومن ورائهم سلطة العسكر والأمن، أن يخرجوه عنوةً من بيته الضيق والبارد، الذي بدا كأنَّه مكمن أو قفص وليس بيت أسرة سعيدة، ومع ذلك ارتضى به سكنـًا.

كان هذا البيت هو (ضماره) الوحيد الذي خرج به من الحياة على علاته من الظلمة والرطوبة، إذ هنالك من أراد أن يستكثر على (محمد سعيد) الفنان المرهف والإنسان المستضعف، أن يخرج بهذا (الضمار) الذي رآه بيت الأحلام؛ لأنـَّه بدونه سيكون في الشارع هو وزوجته وأبناؤه!

رفض ابتزازات أصحاب النفوذ وما مارسوه من أساليب الترغيب والترهيب، فانتهت قلوبهم الغليظة، وترسانة قوتهم الأمنية، إلى أن يزجوا به في زنزانة محشورة في مقر الأمن السياسي الذي يقطن غير بعيد منه في التواهي.

ومع الزنزانة كانت قصة الرهاب الفظيع.

قال لي: "كنا في زنزانة مع عشرات من المسجونين في أمتار محدودة، وكان الواحد منَّا يقفز إلى أعلى ليلحق بالكوة الصغيرة ليستنشق منها الهواء المطلوب لرمق الحياة فقط".

هذا هو محمد سعيد، هذا الرجل المرهف، صاحب الأخلاق السامية، والفضائل المرسلة والفنان الذي لا يعرف للقوة معنى في حياته، وللبلطجة سطرًا في قاموسه، ولا للتحرش أو إيذاء الجار أو الغير عنوانـًا في ممارساته الحياتية. كان هذا الإنسان الخالص النية يرزح تحت قهر هذه القوة الغاشمة، والسجن في زنزانة الأمن السياسي التي لا يمكن لخياله أن يصل به إلى تصور حقيقتها واقعة عليه.

رسوماته الكاريكاتيرية كلها برغم ما يبدو عليها عند البعض خلوها من خفة الدم والسخرية الفاحشة؛ فإنَّ سخرية كاريكاتيراته هادئة وصارمة، ولكنها مع ذلك تدق أوتار المعاناة كما يراها في منزله أو شارعه أو مدينته.

كل هذا الترهيب من السجن في زنزانة تشبه السردين البشري، والتحقيق بعبارات الوعيد والنذير، مضى هباءً دون أن يأخذوا منه توقيعـًا بالتنازل عن مسكنٍ استحقه وصار عنوان الحياة أو الموت بالنسبة له.

ظل الفنان الراحل محمد سعيد صامدًا دون أن يقهره جلادوه، ولم ترعبه أساليب المحققين في السجن، وعاش أقسى تجرِبة في حياته؛ أيامـًا حالكة تحت ركام من اللحم البشري يضغط على روحه ويكظم أنفاسه، ويقتل فيه كل مشاعر الحياة والبقاء الحر، ليخرج من هذه الزنزانة المرعبة بالتجرِبة القاسية ومن بين يدي جلاديه الذين كانوا يعرفون أنَّه صاحب حقٍّ، ولكنَّهم ظنوا أنَّهم يستطيعون أن يكسروا فولاذ صموده الأسطوري. خرج من السجن مبتليًا بهذا الرهاب الفظيع: رهاب الزحام، الذي ظل يلازمه طوال حياته.

ابن عدن الأصيل

قصته هذه مع الزنزانة المحشورة والرهاب النفسي الفظيع، تُفصح عن معدن هذا الرجل الأصيل.

أنَّى لفنان مرهف، وإنسان متواضع، وأب حنون، وزميل لا يختلف على نقائه وشفافيته زملاءُ المهنة في إدارة الإخراج الفني، وفي أسرة تحرير صحيفة (14 أكتوبر) وربما جيرانه وأهل مدينته، أن تنبس شفة أحدهم بغير القول عن أخلاقه الحميدة وتواضعه الجمّ! والواحد منهم يحاول جاهدًا أن يدمجه معهم ليشركه في ضحكة أو مسألة أو رأي، وهو ناءٍ بنفسه عن كل هذا!

لقد كان الفنان الراحل محمد سعيد عبدالله ابن مدينة التواهي، واحدًا من النماذج العدنية الأصيلة، في دماثة الخلق ونقاء السريرة، ورهافة الحس والمشاعر، ومثله لا يقوى على مقارعة زمننا الصعب وأحداثه الجسام، فسقط في أول أيام كهولته وهو لا يزال شاب القلب والإحساس والخيال النظيف.

كان إذا اشتكى من مظلمةٍ أو غبنٍ وقع عليه، ترى وكأن جلاميد من القهر تسقط عليه، فتكاد أن توقع كيانه أرضـًا، هكذا كان شفافـًا لا يقوى على تقبل القهر والغبن، ولا يقوى على مقاومتهما؛ إلا بأسلحته السلمية، تبدأ من الحياء والاستنكار الحيِيِّ، وتنتهي بإبداء أشد أنواع التعبير عن القهر. ولأنَّه كذلك تجده قليل الشكوى كظيم البوح بما يعاني، وإذا رأيته كذلك سألته بحاستك السادسة: 

-  ما لك يا محمد؟ في حاجة؟ 

ولا يندلق بشكواه إلا لمن يأتمن عليه، ولا يفضي بمكنوناته؛ إلا بعد إلحاح منك عليه، ويبوح بما يعاني مع عزة نفس مضمرة.

كاريكاتير ساخر دون تفحش

رسوماته الكاريكاتيرية كلها، مع ما يبدو عليها عند البعض خلوها من خفة الدم والسخرية الفاحشة؛ فإنَّ سخرية كاريكاتيراته هادئة وصارمة، ولكنها مع ذلك تدق أوتار المعاناة كما يراها في منزله أو شارعه أو مدينته .

فلا يخلو كاريكاتير منها من شكوى من قلة اليد التي يعاني منها الموظف المتوسط الحال أو الفقير المدقع، أو من حال الاختلالات البيئية والصحية أو السلوكيات النابزة. فكأن الكاريكاتير هي عينُه الناقدة التي من خلالها يرى ويشاهد مظاهر الحياة السلبية ويفجرها في رسوماته بريشته المرتعشة أحيانـًا والصلبة أحيانـًا أخرى، وكلها عناوين مقاومته الشفافة والسلمية والحضارية لكل سلبي في الحياة ونابزٍ في السلوكيات ومعوجَّ في التصرفات من المسؤول حتى المواطن.

ومع ذلك لا تجد أمام منزله المتواضع في أول عمارة بمدينة التواهي سوى لافتة "الخطاط محمد سعيد"، وكأنـَّه ما زال يستدعي حرفته القديمة الجديدة مهنة "الخطاطة" التي يحاول من خلالها أن يجد دخلًا جانبيًّا يساعده في تصريف أمور حياته البيتية، وبالطبع هي لا تكفي؛ لأنـَّه عطوف ومتساهل في الأجر إلى حدِّ أخذ الأجر الذي يغطي الألوان والورق الشفاف فقط دون أتعابه!

محمد سعيد عبدالله رجل صامت بطبعه، ربما لا تقوى الكلمات أن تخرج من فمه بصوتٍ ناصح، ويحتاج الأمر منك أن ترهف السمع لتسمع ما يقول.

هو لا يفتعل هذا الصمت المتوَّج على لسانه؛ لأنَّه لا يقول إلا الشيء النزير من الكلمات، وإذا اشتكى أو حتى تملكه غضب من قول أو فعل ضرَّه في شيء؛ فإنَّ حدود الانفعالات لا تتعدى كلمات بسيطة وهامسة.

 محمد سعيد عبدالله، الفنان والخطاط ورسام الكاريكاتير والمخرج الصحفي افتقدته الأسرة الصحفية العدنية، وأسرة تحرير (14 أكتوبر) على وجه الخصوص، بعد أن هدّ كيانه ضعف قلبه وتساقط دعاماته، وبدا في آخر أيامه شاحبـًا وهزيلًا، والكل حين اجتمعنا في ردهة مصرف الكريمي قبل شهرين نتساءل بتعجب ودهشة وحيرة بالغة التأثر: أهذا هو محمد سعيد؟ أهكذا يفعل المرض بجسمه حتى ينحل آخر عظمة في الجسد.

كان الرجل يعاني من تهافت عضلات قلبه وانسدادات شريانه، وتساقط دعاماته. كان صامتـًا كعادته لا يشكو مرضه لأحد، وزادت الفرقة التي أحدثتها حرب 2015 بيننا أن غبنا عن السؤال عنه وعن حاله، حتى شاهدناه في هزاله ذاك. وفي صبيحة 21 فبراير 2016، صعدت أنفاسه إلى باريها.

شمعة مضيئة لم تنطفئ 

شمعة محمد سعيد عبدالله لم تنطفئ بعد، رغم رحيله الدنيوي عن هذه البسيطة، لم تزل مضيئة؛ لأنَّ "مَن خلَّف ما مات)، فها هما (مراد) و(مجد) نجلاه قد نهلا من أبيهما حبه للفن والجمال والتوق للإبداع، وربما سارا في جزءٍ كبيرٍ من ناصية الطريق الذي سار عليه في حياته.

وها هو (مراد) ذو اليد الذهبية والعقلية المتفتحة والمبدعة في عالم الإخراج الفني والصحفي، وعلى منواله (مجد)، يواصلان مسيرة أبيهما الفنية.

والطريف في هذه العلاقة النوعية أن (مراد) كان مدير أبيه في إدارة الإخراج الفني في صحيفة (14 أكتوبر) و(مجد) زميله في هذه الإدارة، وكم كان يمتعنا أن نرى ثلاثتهم في صالة الإخراج يتشاورون ويتبادلون المعلومات ويتشاركون في إخراج كاريكاتيراته حين يقوم الأبناء بتلوينها على الطريقة الجرافيكية الحديثة.

أن ترى الأب وابنيه في صالة العمل الإخراجي الواحدة، يزيد من قدر الوالد الذي غرس في ولديه ما توارثه بالفطرة أو الوراثة حبَّ الإبداع وشغف ممارسة الفن والنظرة الجمالية التي عالجها في رسوماته الانطباعية والبروفيلات، لتؤتي ثمارها في الولدين وهما يداعبان مفاتيح الحاسوب ويخرجان أفضل الصحف العدنية.

أما (مراد) فشهادتي فيه (مجروحة) كصحفي فني عاصر أزمنة متنوعة، وربطته بي سنوات من العمل والإبداع بعالم الصحافة الفني، فضلًا عن التحريري لأكثر من أربعة عقود؛ لأنَّه في عالم الإخراج الفني من الطراز الأرفع في صحافتنا الوطنية. والمستقبل أمامه لأنْ يتقدَّم الجميع في هذه الحرفة الاختصاصية التي وهبه الله.

فهو كأبيه محمد سعيد ذو وجهة نظر فنية وتشكيلية بحكم ممارسته، ودراسته للفن التشكيلي في ريعان شبابه بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة جعلته يتفرد عن أقرانه من المخرجين بالنظرة الجمالية الخاصة والنابعة من صميم الفن التشكيلي الذي درسه ولم يمارسه كأبيه، وإنـَّما سخّره في عمله بالفن الإخراجي والجرافيكي.

خاتمة إنسان عادي

محمد سعيد عبدالله إنسان عادي في هذه الحياة الفانية؛ لكنه بشر، معجون بماء الإنسانية الصافي وصلصال التواضع الجم. كان إنسانـًا بكل معنى الكلمة، فرحل عنا خفيفـًا كما الريشة في نسمة ريح عابرة على سماء عدن الهادئة.

طالما افتقده زملاؤه ومجايلوه أمثال الفنان الرائع وتوْءَمه الفني في صحيفة (14 أكتوبر) الفنان عدنان جمن، وعدد من الخطاطين والمخرجين في الصحيفة، أمثال منصور عبدالخالق والهلاليين والبكري، والخطاط المخرج الفني خالد اليماني الذي أصبح وزيرًا أسبق لوزارة الخارجية، وكان من تلاميذ صحيفة (14 أكتوبر) في الإخراج الصحفي وصناعة خطوط المانشيتات والعناوين الصحفية ورفيق درب للراحل محمد سعيد.

رحل الفنان محمد سعيد عبدالله وترك فينا شيئًا من أثر إنساني وفني لا يمحى!

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English