"رصاص" في جسد العدالة..

استهداف متواصل للقضاء والقضاة
شيماء القرشي
September 5, 2022

"رصاص" في جسد العدالة..

استهداف متواصل للقضاء والقضاة
شيماء القرشي
September 5, 2022

في صباح يوم 30 أغسطس/ آب 2022، أقدم مجموعةٌ من المسلحين على اختطاف عضو المحكمة العليا- رئيس هيئة التفتيش القضائي السابق، القاضي محمد حمران، من أمام منزله بشارع الأصبحي، جنوبَ العاصمة اليمنية صنعاء الخاضعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، بعد الاعتداء عليه وضربه بأعقاب البنادق، حسب ما وثّقته مشاهد كاميرات المراقبة التابعة لبعض المحلات التجارية المناظِرة لمكان الواقعة.

بعد 12 ساعة من اختطاف القاضي حمران، تفاجأ الرأي العام بنبأ تصفيته من قبل خاطفيه باثنتي عشرة رصاصة؛ الأمر الذي سبّب صدمة على الصعيدين العام والخاص، وإيذانًا بواقعٍ أكثر جرأة في التجنّي على العدالة. 

هذا الأمر دفع "نادي قضاة اليمن" في صنعاء، لإصدار بيان، اطلعت عليه "خيوط"، يندّد فيه بحادثة اختطاف وقتل رئيس هيئة التفتيش القضائي السابق، وإعلان التعليق المؤقت للعمل في كافة نيابات ومحاكم الجمهورية (باستثناء النيابة والمحكمة الجزائية المتخصصة بأمانة العاصمة وشعبتها الاستئنافية)، حدادًا على روح القاضي محمد أحمد حمران، إلى حين تنفيذ القصاص العادل من الجُناة، كما طالب النادي النائبَ العام بسرعة تحريك الإجراءات ورفع الدعوى الجزائية ضد الجناة. 

وتعمل الأطراف المتنازعة منذ بداية الحرب الدائرة في اليمن عام 2015، على استهداف القضاء وإحكام سيطرتها على كل أجهزة الدولة في المناطق التي تسيطر عليها، ومنها السلطة القضائية التي لم تسلم من محاولة السيطرة عليها وتطويعها واستخدامها كسلاح في الصراع بحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، في المناطق التي يسيطر عليها كل طرف، في محاولة لفرض سياسة الرأي الواحد في اليمن.

وخلصت دراسة أعدتها منظمة مواطنة في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي 2021، إلى أنّ الحل الوحيد لإرساء العدالة في اليمن بما يتوافق مع القانون الدولي والقانون الإنساني، يتمثل باستقلال القضاء.

جرأة متواترة وعلامة استفهام

هذه الحادثة _رغم الزخم الذي أعقبها_ ليست الأولى من نوعها في اليمن، بقدر ما تعدُّ امتدادًا لسلسلة من اعتداءات تعرّض لها قُضاة ومحامون في أكثر من محافظة يمنية، من قبل مجموعات مسلحة وقُطّاع طرق تربطهم صلة مع أطراف سياسية، في ظل استمرار وتيرة النزاع المسلح والانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد منذ سنوات. 

ففي السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، جرى استهداف منزل القاضي عبدالله الأسطى، رئيس محكمة شمال الأمانة الابتدائية السابق، في صنعاء، بقذيفة (آر بي جي) محمولة، بقصد اغتياله، حسب ما ورد في تعليق عن نادي قضاة اليمن حينها، في حين ظلَّت الجهة المنفِّذة للاعتداء مبهمة حتى الآن. 

على مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي إثبات الغاية الأساسية من وجودهما في ظل الاعتداءات المتكررة التي يتعرض لها القضاة في صنعاء أو في أي منطقة يمنية، بدون وجه حق

استهداف منزل القاضي الأسطى، ليست إلا واحدة من سلسلة الجرائم التي تعرّض لها أعضاء السلطة القضائية والحقوقيين في اليمن. يوثِّق تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش"، جرائمَ من بينها الاختطاف القسري والاحتجاز التعسفي، قامت به بعض الجماعات ضد مواطنين وشخصيات في السلطة القضائية، بينهم قاضي المحكمة العسكرية عبده الزبيدي، الذي تعرض للاختطاف والحجز والتعذيب، قبل أن يُفرج عنه أواخر يونيو/ تموز 2017، بعد أن قضى 450 يومًا في الاحتجاز التعسفي. 

وقبلها في 18 يناير/ كانون الثاني 2015، تعرّض القاضي أحمد حسن العنسي، رئيس محكمة بني الحارث في صنعاء، للقتل في باحة محكمة بني الحارث واستهداف نجله أنور العنسي، كما أصيب خمسة من أفراد الشرطة القضائية، وأحد المدنيين إثر إطلاق النار.  

بصرف النظر عن المشروعية القانونية والأخلاقية لهذه الاعتداءات، يرى فريق من القانونيين، تعاقبها بهذه الوتيرة، مؤشرًا على تصدع واختلال الهيكل القضائي، وتهاوي رمزيته على نحوٍ يرجِّح مبررات كونها تأتي في سياقٍ من ردّة الفعل غير المشروعة.

حيثيات هذا التعليل، الذي يميل إليه نسبة معتبرة من القانونيين الذين تحدثوا لـ"خيوط"، يأتي قياسًا على "النماذج السيئة التي تسببت بتجاوزات تفضي إلى سلب الحقوق، أو الازدواجية في التعامل مع الخصوم، أو ميلًا إلى حيازة امتيازات من أي نوع، في مقابل غياب دور التفتيش القضائي، في رصد وتصويب الاختلالات الحاصلة أو الإغضاء عنها.

والأخطر من كل ذلك، كما ترى الدراسة التي أعدتها منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، أن تتحول المؤسسة القضائية إلى أداة مسيسة بيد أطراف الصراع، على النحو الذي يزهق روح العدالة، ويُفقد الضحية ثقته بسطوة القانون في انتزاع حقه من الجلاد.

نيلٌ من هيبة العدالة

القاضي روضة العريقي- القاضي بمحكمة شمال الأمانة الابتدائية، في تصريح لـ"خيوط"، تعزو تكرار استهداف القضاة غير المعهود، إلى أسباب؛ من أبرزها "المخالفات الدستورية التي شُيّدت فوق مجلس القضاء الأعلى، وعملت على زعزعة القضاء اليمنيّ من الداخل، حيث لم تعد للسلطة القضائية استقلاليتها التامّة، بل إنّ القضاة في الوقت الراهن يتعرضون لحملات إعلامية ممنهجة ومدروسة، بقصد النيل من استقلال ونزاهة القضاء لأجل مصالح جماعات معينة"

الاعتداءات ضد القضاة _وفقًا للعريقي_ تتنوع؛ منها ما يتم بالتهديد، ومنها ما يتم بالتطاول بالضرب والاعتداء اللفظي وانتقاص هيبة القاضي، ومنها ما يصل إلى القتل والاختطاف والتعذيب. ومن المحتمل أن يتعرض القاضي لأحد هذه الاعتداءات في منزله أو مقرّ عمله. 

وتضيف أنه في مقابل ذلك: "لا توجد حماية فعلية لمقرّات القضاء والمحاكم، بل لا يتوفر لدى القضاة الذين ينظرون في القضايا المهمة والحساسة حراس أو مرافقون، فضلًا عن الانقسام الحاصل في الهيئات القضائية بين صنعاء وعدن؛ هذه العوامل مجتمعة أدّت إلى إضعاف القضاء والتقليل من هيبته". 

بدوره، يرى المحامي عبدالرحمن زبيب، في حديث لـ"خيوط"، أنّ على مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي، إثباتَ الغاية الأساسية من وجودهما، في ظل الاعتداءات المتكررة التي يتعرض لها القضاة في صنعاء أو في أي منطقة يمنية بدون وجه حق.

ويتحدث زبيب عن ضعف الدور الموكل للتفتيش القضائي والذي ساهم بصوة كبيرة في ارتكاب كثير من الاختلالات القانونية في العديد من القضايا، أو انحياز عاملين في مجال القضاء إلى بعض الأطراف على حساب الطرف الآخر، بدوافع مشبوهة تبدو وكأنها متاجرة بولاية القضاء.

قدسية القضاء مُلزِمة

بالرغم أن النصوص الدستورية والقانونية قد نصت صراحة على استقلال القضاء كسلطة بجميع جوانبها، إلا أنّ القضاء اليمني كسلطة لم ينل شيئًا من الاستقلال الفعلي على الواقع الملموس بسبب ما يتعرض له من عمليات استهداف وتطويع، حيث كان رئيس الجمهورية في ظل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 1991، هو من يتولى رئاسة السلطة القضائية المتمثلة برئاسة مجلس القضاء الأعلى وفقًا لنص المادة (104)، حتى بعد التعديلات التي طرأت على قانون السلطة القضائية في عام 2006، والذي تخلى فيه رئيس الجمهورية عن رئاسة مجلس القضاء، فما زالت السلطة القضائية في اليمن متداخلة مع السلطة التنفيذية، حيث إن وزير العدل هو من يشكل مجلس القضاء الأعلى، وهذا يدل على أنّ القضاء في اليمن ليس مستقلًّا بالمعنى الحقيقي.

عن حساسية المهمة التي يضطلع بها العاملون في مجال القانون في بلد مثل اليمن، يستبعد المحامي أمين الربيعي، في حديثه لـ"خيوط"، أن تكون المهنة في المقام الأول سببًا في تكرار الاعتداءات التي يتعرض لها القضاة والمحامون، بقدر ما قد تنجم عن بواعث وأسباب شخصية. 

في كلا الحالين، يشدّد الربيعي على ضرورة التحقيق في خلفيات الاعتداء؛ "فقد يكون هنالك قضايا فساد أو رشاوى ارتكبها القاضي، مع ذلك فهذا الافتراض ليس حتميًّا، ذلك أنّ هناك في المقابل كثير من القضاة تعرّضوا للاعتداء من جماعات معينة، ودون أن يكون لهم علاقة بقضايا فساد".

شأن غيره من القانونيين، يؤكّد الربيعي على أهمية بقاء "قدسية القضاء، وحصانة القضاة وحمايتهم" مع التنويه إلى حقيقة أنّ التعدي على رموز العدالة من قضاة ومحامِين، "لا يُرتكب إلا من أشخاص وجماعات لا تريد للحقيقة أن تظهر، وتحاول تغييب العدالة لمصالح شخصية"، حدَّ تعبيره. 

ومهما تكن المسوغات التي تقف خلف تصفية حمران، وسابقين سواه من أعضاء الجهاز القضائي، في حوادث مشابهة، فلا يستقيم تأطيرها بمعزلٍ عن الواقع العام الذي يعيشه اليمن، في ظل الاضطراب السياسي وتنازع النفوذ، وتبعات ذلك في ترسيخ ثقافة الاحتكام إلى القوة، وجعلها فيصلًا ينتهي إليه الخصوم، وإن كان الحسم على مسافة قصوى من الآدمية. 

مع ذلك، لا يوجد ما يسوِّغ للجريمة أيًّا كانت الضحية، لكنها تكون أكثر شؤمًا حين تصل إلى حدِّ الاعتداء على ممثّلي سلطة العدل، ما يُحتِّم الردع الصارم، قبل أن تتحول العدالة إلى ضحيةٍ سائبة، والمجرمُ طليق اليد.

•••
شيماء القرشي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English