درسٌ من البراغماتية الإيرانية

عن أولوية تجنيب البلاد جحيمَ الحرب المقدسة وويلاتها
عبدالرشيد الفقيه
April 18, 2024

درسٌ من البراغماتية الإيرانية

عن أولوية تجنيب البلاد جحيمَ الحرب المقدسة وويلاتها
عبدالرشيد الفقيه
April 18, 2024
.

على ضوء تطورات ومآلات مستجدات الصراع الإقليمي، بين إيران وحلفائها في المنطقة من جهة، وبين إسرائيل ورعاتها الغربيين، من جهة ثانية، فإن ما يتوجب على المكونات المتحالفة مع إيران وأتباعها وأنصارها في المنطقة، بالمبادرة إليه، دونَ تأجيل، يتمثل بالتوقف الجادّ للتدقيق فيما طرحه الأغلب الأعم من الناس الذين تفاعلوا مع مُجمل التطورات الأخيرة، مُعبرين عن خيبتهم وسخطهم وانتقاداتهم، منذُ الهجوم الإسرائيلي على قنصلية إيران في دمشق، وحتى إعلان انتهاء عملية الردّ الإيراني عليها من نيويورك، عوضًا عن جنوح تلك المكونات وأتباعها وأنصارها إلى تصنيف كل رأي مُخالف لتوجهات المحور، ولاتجاهات ومضامين دعايته، باعتباره بخفة، محض دفاع عن إسرائيل ورعاتها، وموالاة لهم، وخدمة لهم، كون الحامل الحقيقي لتلك التفاعلات، يتمثل في الخيبة الناتجة عن محدودية أثر الرد الإيراني على إسرائيل، والذي لم يُلبي الحد الأدنى من متطلبات الردع، طبقًا للحدود الدنيا لسقوف خطاب النظام الإيراني الرسمي ذاته، وللحدود الدنيا لسقوف خطاب التشكيلات المتحالفة معه في المنطقة.

مقتضيات الواقعية السياسية

وبالنظر إلى حقائق ما حدث، بكل تداعياته وتفاعلاته ومآلاته، يجدر القول بوضوح، إنّ البراجماتية التي اختار النظام الإيراني، انتهاجها، منذ اللحظات الأولى للهجوم الإسرائيلي على قنصليته في دمشق، ثم باختياره للتروي، وصولاً إلى استقراره على اختيار تنفيذ رد عسكري محدود ومنسق ومُزمن، في إطار حق الرد المكفول للدول في ميثاق الأمم المتحدة، وبالقدر الذي لا يدفع بالوضع في المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة، وبما يحفظ للنظام الإيراني حدًّا معقولًا من ماء الوجه، أمام أتباعه وأنصاره، داخل إيران وخارجها- وهو نهجٌ اعتمد فيه النظام الإيراني الثورجي، والراديكالي، مُقاربة تلك التطورات غير الإعتيادية، طبقاً لمقتضيات الواقعية السياسية، خطابًا ومسلكًا، بمعزل عن الشعارات، والانفعالات، والشعبوية، والتي ظل النظام الإيراني عينه، يُصدرها ويُفخخ بها المنطقة، لما يزيد عن أربعة عقود.

وجنوح النظام الإيراني إلى البراجماتية، والواقعية السياسية، عند أول تماس مُباشر مع إسرائيل، المُعينة عدواً في عقيدة النظام منذُ إطاحته بنظام الشاه، والإفصاح عن هويته الجديدة، من حيث المبدأ، ليس نهجاً خاطئاً، يجعل منه نهجًا مُدانًا ومرفوضًا لذاته، بل على العكس من ذلك، فإنه النهج المسؤول والأمثل والمحمود لترشيد إدارة كل ما يتعلق بمصائر المجتمعات والدول والأمم، غير أنّ المفارقة التي أثارت كلَّ ذلك اللغط الدائر منذ أيام، بشأن الخيارات الرصينة والمتأنية، التي انتهجها النظام الإيراني، في كل مراحل ومحطات تعاطيه مع كل تداعيات استهداف قنصليته، خلافاً لطبيعته وخطابه، تتمثل في ضبطه مُتلبساً بازدواجية المعايير لجهة مقاربة النظام الإيراني لمصالحه وأمنه القومي، في المجال القُطري الإيراني، من جهة، ولتكتيكات وخطوط ومسارات الصراع بالوكالة في المنطقة، من جهة ثانية، حيثُ بان الان من الثابت بجلاء، أنّ النظام الإيراني، يعمد لحساب كل خطوة تتعلق بالوضع داخل حدوده، بميزان الذهب، بالغ الحساسية والدقة، حيث جنح غير مرة، لامتصاص عمليات استهداف خطيرة، كسرت خطوطه الحمراء المعلنة، تحت عنوان "الصبر الاستراتيجي"، والتزم مرارًا، بأعلى درجات ضبط النفس، وبذل العناية الواجبة، لجهة كل ما يحفظ مصالح إيران، ويحقق متطلبات أمنها القومي، وسلامة مُجتمعها واستقراره، وما يُجنبها ويلات المقامرات والمغامرات والانفعالات والحروب، على النقيض من تعامل النظام الإيراني، مع كل ما له صلة بالصراع بالوكالة خارج حدوده، دون أي حسابات لكل الخطوات والتفاعلات، المتعلقة بسلامة ومصالح ومخاطر المجتمعات والدول الخاضعة لسلطة التشكيلات المتحالفة معه، كمسرح لمناورات واحتدامات مقامرات الحروب ووالصراعات- بالوكالة، والتي يجمعها مع إيران عنوان محور الممانعة، والتي تندفع لأعلى مستويات التصعيد، دون أي اعتبار للحد الأدنى من حسابات السياسة والواقعية والمخاطر والكُلف اللا محدودة، لجهة أمن وسلامة ومصالح واستقرار تلك المجتمعات، ومعيشتها ورفاهها، وتبرز ارتدادات تلك المفارقة الصارخة، مع انحصار الدعم الإيراني لتلك التشكيلات والجماعات الحليفة، على جوانب التسليح والتجييش والشعارات، مع الإحجام التام، شحاً ولؤماً وتنصلاً، عن أيّ شكل من أشكال الدعم الاقتصادي والتنموي والإغاثي والإنساني، والتي يمكن أن تخلق روابطاً للمنافع والمصالح بين تلك التشكيلات وبين الناس الحاضعين لسلطتها، ولحديدها ونارها، مهما بلغت الأزمات بتلك المجتمعات والدول.

تدقيق شكل العلاقة بين الحلفاء

وعلى ضوء تلك التطورات غير الاعتيادية، الجارية في المنطقة، ولمآلاتها، فإنّ مبادرة مُختلف التشكيلات المتحالفة مع إيران في كلٍّ من سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين، إلى التقييم الذاتي الفوري، لكل عناصر علاقاتها مع النظام الإيراني، من أجل التدقيق في شكل تلك العلاقات، ومضامينها، ومشروعيتها، وجدواها، وآفاقها المستقبلية، وحدود الالتزامات المتبادلة منها، ومنافع ومغارم المجتمعات والناس المُترتبة عليها، كأولوية بالغة الأهمية والإلحاح، لمصلحة تلك التشكيلات أولًا، ولمصلحة المجتمعات المتأثرة قسرًا وطوعًا بمفاعيلها.

إن المُبادرة من قبل تلك التشكيلات إلى إجراء عمليات تقييم ومراجعة ذاتية، هو السبيل الأمثل والأرشد، للتثبت من ماهية وحقيقة تلك العلاقات، وتجنيسها، إما كعلاقات مشروعة، تتسم بالتشاركية والندية والشفافية والعلنية والعقلانية، وفق حسابات دقيقة للمصالح والتحديات والمخاطر المشتركة، للمجتمعات والمكونات على حدٍّ سواء، في إطار قنوات علنية مُضاءة، وإما كعلاقات غير مشروعة، تتسم بالتراتبية، والتابعية، والإبهام والتلغيز والتشفير، كخصائص ملازمة لبقاءها حبيسة في جيوب مُعتمة، لضمان الارتهان المُطلق الذي تمتثل فيه الفروع لهيمنة إرادة المركز، يتوجب بكل الحسابات المبادرة الشجاعة والمسؤولة لتصويب كل عناصرها ومساراتها.

وبمعزل عن معلقات المديح أو الهجاء، المؤيدة أو المناهضة للنهج الذي جنح النظام الإيراني لامتثاله في إدارة الصراع، ومن أحدث محطاته على وجه الخصوص، وبتتبع وتحليل ما صدره عبر قنواته ومنصاته الرسمية، فإن النظام الإيراني قد قدم للتو، أهمَّ درس سياسي، عملي، لجميع حلفائه في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين، حيث يجدر بهم الوقوف على كافة تفاصيله وعناصره وحقائقه، ودراستها بتمعن، بمعزل عن إكراهات وانفعالات ومكابرات الدعاية والسجالات، المؤيدة لإيران والمضادّة لها، على السواء، كفرصة استثنائية، ستساعد صُناع القرار في تلك التشكيلات، على إدراك واستيعاب الفروق الجوهرية بين مُحددات وموجهات والتزامات ومسؤوليات إدارة التشكيلات غير النظامية من جهة، وبين مُحددات وموجهات والتزامات ومسؤوليات إدارة الدول والمجتمعات والأمم، من جهة أخرى، ولإدراك واستيعاب ما للتحالفات من حدود ومسارات ومُقتضيات وسقوف، وما لحسابات المصالح المُشتركة من معادلات دقيقة، لا هامش فيها الانفعالات والعواطف والشعارات، ولا للارتجال، ولا حيز فيها للرهان على حسن النوايا وسمو المقاصد والغايات.

إن إيران، تعمل طبقًا لحسابات دقيقة لمصالحها وأمنها القومي، بصورة جعلتها تمتص العديد من العمليات الخطيرة التي كسرت مرارًا خطوطها الحمراء المُعلنة، منها عمليات إسرائيلية استهدفت خبراء وأهدافاً حيوية في قلب إيران ذاتها، طبقًا لاستراتيجية تُؤكد إدراك النظام الحاكم فيها بأن الحروب بين الدول مُكلفة جدًّا، ومن الصعب الانتصارُ فيها.

إنّ الذهاب للمجازفة بالقول بأنّ الصراع الإيراني الإسرائيلي مسرحية، لا يختلف كثيرًا عن المجازفة بالذهاب للقول بقدسية ذات الصراع، وقدسية أسبابه ومبادئه وغاياته، وما تؤكده سياقات ومضامين وحقائق ما مر من عمر هذا الصراع، وحتى اليوم، أنّ هناك صراعًا حقيقيًّا مُحتدمًا بين إيران وحلفائها في المنطقة من جهة، وبين إسرائيل ورعاتها من جهة ثانية، غايته حيازة أكبر قدر من المصالح والنفوذ، ورسم خطوط مجال الأمن القومي، خاصة كلًّا من إيران وإسرائيل، حيث يتركز مسرح عمليات ذلك الصراع حاليًّا في المنطقة العربية التي استُلب قرارها واستُبيح مجالها، كتركة سائغة للنظام العربي الفاقد للوعي والبصيرة والإدراك والرؤية، والمُنصرف ببله إلى شؤون السلطة، بمعزل عن إدراك واستيعاب واستشعار كل مقوضات الأمة والدولة والمجتمع في عُمق مجال أمنه القومي والوجودي.

سقوم الصراع

ولفهم سياق ما استجد من عقلانية وبراجماتية في مسلك وخطاب النظام الإيراني، فإنّ المؤكد أن نظام الثورة الإسلامية الخُمينة، يعمل طبقاً لمنهجين مُتعارضين، حيث يعمل في المنهج الأول وفقًا لحسابات دقيقة لمصالحها وأمنها القومي، بصورة جعلتها تمتص العديد من العمليات الخطيرة التي كسرت مرارًا خطوطها الحمراء المُعلنة، على امتداد العقود الماضية، منها عمليات إسرائيلية استهدفت خبراء إيرانيين في قلب إيران ذاتها، طبقًا لاستراتيجية "تُؤكد إدراك النظام الإيراني بأن الحروب بين الدول مُكلفة جدًّا، ومن الصعب الانتصارُ فيها؛ ويعمل في المنهج الثاني من خلال فصائل مسلّحة، تتسم العلاقة معها بالمرونة النسبية، فهي ليست مستقلّة تمامًا ولا مجرد تابع، وراسخة في بيئتِها، ومُجهّزة ومُدرّبة ومؤدلجة، ومتفلتة من قوانين ما بين الدول، بحيث تستطيع خدمة إيران دون أن تورّطها مُباشرة"، طبقًا لتوصيف المفكر والدبلوماسي غسان سلامة.

وحتى اللحظة، لا مؤشرات دالة على أيّ توجهات إيرانية لتغيير استراتيجيتها تلك، رغم كل عواصف التصريحات النارية الإيرانية التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، كما هو الحال تمامًا عقب كل عملية طالت أهدافًا إيرانية ذات أهمية استراتيجية، بالنسبة لأمنها القومي، وصولاً إلى عمليات الفصائل والمكونات الحليفة للنظام الإيراني في المنطقة، والتي تنخرط بفاعلية في عمليات الصراع بالوكالة، والممتثلة في الصراع لسقوف محددة، من غير المسموح تخطيها، تحت أي ظرف، كما أثبتت الحرب الحالية في غزة وتفاعلاتها، وأحد الأدلة على ذلك الإمتثال، تفاهمات خفض التصعيد التي أعقبت الهجوم على القاعدة العسكرية الأمريكيك على الحدود الأردنية السورية، والتزام عدد من حلفاء إيران في المنطقة أعلى درجات ضبط النفس خلال العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، تحت غطاء أحدث إصدار من المقولات الحكيمة لنظرية الواقعية السياسية.

إن المؤكد اليوم، وبناءً على ما تراكم من خبرة عملية خلال الفترة الماضية، أن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، والرد الإيراني من خلال عملية عسكرية محدودة ومنسقة، وجنوح كافة أطراف الصراع المباشرة وغير المُباشرة، إلى خفض التصعيد، وعدم السماح باندلاع صراع عسكري مُباشر وشامل، يُمثل محطة مفصلية في عمر الصراع، وسيكون له ارتداداته العميقة في المنطقة، وعلى أكثر من مستوى، والمؤكد كذلك، أن النظام الإيراني، سيقف أمام أسئلة كثيرة، ستتركز بدرجة رئيسية حول موقع إيران الفعلي من مسرح عمليات الصراع الإقليمي، وحدود والتزامات تحالفاتها القصوى، وقواعد الاشتباك الفعلية لديها، وماهية معايير ومحددات تعيين النطاق الجغرافي للصراع بالوكالة، المؤبد خارج حدودها، وبمعزل عن نطاق مصالحها المُباشرة، ولجهة تشجيع خصومها، وعلى رأسهم إسرائيل، بالمزيد من عمليات الاستهداف داخل منطقة خطوطها الحمراء، ولجهة ما يُفصح عنه مضمون الرد المحدود والمنسق بشأن حقيقة قدراتها العسكرية النظامية الرسمية، وبشأن جاهزيتها الدفاعية والهجومية، وبشأن جديتها ومبدَئِيّتها والتزاماتها، حيث يتوجب على النظام الإيراني، تقديم إجابات وافية ومُقنعة لتلك الأسئلة، بين يدي حلفاؤه قبل خصومه، والتي ستتحدد على ضوئها ملامح واتجاهات ومضامين ومآلات ما سيأتي من عمر الصراع.

•••
عبدالرشيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English