(هاشم علي)

جهد عفوي خلّاق جعل الفن ممكنًا
خيوط
November 7, 2022

(هاشم علي)

جهد عفوي خلّاق جعل الفن ممكنًا
خيوط
November 7, 2022

 قبل 13 عامًا (7 نوفمبر 2009)، تُوُفِّي في مدينة تعز، الفنان الرائد هاشم علي عبدالله، عن 64 عامًا، بعد أن نحت اسمه كرائدٍ للفنّ الحديث في اليمن، والذي "أفلح جهده الخلّاق والعفوي في جعل الفنّ ممكنًا في اليمن السعيد، الذي يُشير ماضيه الحضاري والفنّي بحاضره تمامًا، بل يتفوق عليه في أحيان كثيرة. واعتبار الفنان هاشم علي مؤسِّسًا للتشكيل اليمني المعاصر، وهو اعتبار مناسب ومستحق، يرهن لحظة انطلاق التجارب التشكيلية واندماجها في أفق المعاصرة ثم التحديث في وقت واحد، وهو أمر نادر الحدوث قياسًا للسيرة التشكيلية في البلاد العربية الأخرى التي شهدت مراحل ممهدة تتسم بأعمال الهواة أو الأجانب أو طلاب الفن، ورغم ذلك فقد كانت انطلاقة هاشم علي وتأثيره في طلابه والوسط الذي أتيح له معايشته، ذات أثر تأسيسي، وإن كان يرجع إلى الستينيات كتحديد زمني، وقد سدّ مرسمُ هاشم علي واحتضانه لطلابه النقصَ الملحوظ في القدرات التشكيلية أو مواطن الدراسة المنظمة"(1).

نور في قلب الظلام

يقول الأخ الدكتور عبدالحميد إبراهيم في كتابه "القصة اليمنية المعاصرة" 1977: "إنّ ظهور محمد عبدالولي في عالم القصة اليمنية المعاصرة أشبه بنبتة تخرج من بين الصخور، ويصدق هذا على فنّ هاشم علي، بل إنّي أبحث عن شيء أصلب من الصخر لأداء المعنى الذي أريد أن أعبِّر عنه. لقد بزغ هاشم كالنور في قلب الظلام. وإذا كان محمد عبدالولي قد وجد أمامه طريقًا طرقه كثيرون، على تفاوتٍ في حظهم من النجاح، فإنّ هاشم هو البداية، وكل بداية شاقة. فقد بدأ يلعب بالألوان ويحاور صَبِر، وأطياف فتياته، في وقت لم يكن للرسم فيه أي وجود في الجزء الشمالي من الوطن. فقد حطّ رحاله في تعز عندما كان الرسم سمة وثنية، وكان الشمال خاليًا من لوح واحدٍ أو تمثال حديث"(2).

منحى واقعي

على الرغم من أنه بعد تمكّنه، في سنواته الفنية الأولى، من الإلمام بقواعد الرسم والتصوير، وإنتاجه العديد من اللوحات التي يتداخل فيها الأسلوب المدرسي والواقعي، فقد تحوّل بعد ذلك إلى التعبير ضمن اتجاهات حديثة، كالتكعيبية والتجريدية، إلّا أنّه أخذ يتراجع شيئًا فشيئًا باتجاه المنحى الواقعي، إلى الواقع المادي بدون مباشرة أو نقل حرفي، حيث أضحى تكوين لوحاته يعتمد لغة التشكيل من جزئيات المحيط الخارجي، وليس الواقعية. في كثير من أعماله تصميمٌ لعالم جديد، أعاد تشكيله من المفردات المحسوسة، لكن دون أن يتقيد بترکیب وبناء الشكل ضمن إطار الحقيقة البصرية، بل العكس؛ إذ إنّه يعتمد إلغاء القياسات الشكلية المتعارف عليها، ويلجأ إلى معاييره الذاتية التي منها يحقّق حضور عالم لا مرئي، فيكون التمثيل الماديّ موجودًا بطريقة عرضية لا تجعل منه هدفًا في حدّ ذاته، ففي لوحات، مثل: "فنان"، "الراقصة"، "أمومة"، "عازف الناي"، "ضارب الطار"، "لاعبة العجل"، يتحول الجزئي إلى كلي، والمادي إلى روحي، ذلك لأنه يربط بين الشكل والجوهر، ويمعن في إضفاء دلالات شتی، تجعل المشاهد يتعامل مع المشهد الواقع كما لو كان يكتشف حياة لا واقعية(3).

متنفس قرائي وتنظيري

فتحت لوحات هاشم علي، بتعدد أسلوبياتها، للدارسين متنفّسًا قرائيًّا وتنظيريًّا، سهَّل على الكثيرين منهم موضعتها في سياقات التأثير المدرسي لتيارات الفنّ المعاصر، والتي اتصل بها هاشم بواسطة القراءة وليس على مقعد الدرس.

لم يكن فقط، رسّامًا ملهمًا ورائدًا للتشكيل الحديث في اليمن كما يعدّه الدارسون والمهتمون، وتتلمذ على يديه عشرات الفنّانين المبتدئين الذين صار بعضهم أسماءً رائجة داخل اليمن وخارجها، بل كان مفكِّرًا حقيقيًّا وفيلسوفًا نابهًا يحيط بتاريخ الفنون والحضارات الإنسانية بشكل لافت، وساعده في ذلك إتقانه للإنجليزية التي كان يقرأ بها.

 انحاز للسرديات والشعر الحديث والموسيقى، فكان لا يتم حديث معرفي معه إلا واستشهاداته الحية، من أعمال روائية أو أعمال شعراء وموسيقيين، حاضرة على لسانه، لتعزيز أفكاره وما يريد إيصاله لمستمعه.

 برغم استطالة تجربته الفنّية التي امتدّت لقرابة نصف قرن ومنحته شهرة فائقة، لم يركن عليها في الأصل، ظلّ حتى آخر أيامه يجدّد في موضوعاته وفي منظوره اللوني، الذي صار أكثر بهاءً وفرحًا وشاعرية، حتى وهو يرسم قرى الجبل، التي سترد إحداها مع هذه الاستعادة في ذكرى رحيله، الذي كان في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009.

من الحكاية الشعبية استلهم، ومن السخرية اللاذعة قدّم بصريَّاته التي تشبه توجُّعَات البسطاء من الناس، ومن الطبيعة استنطق لا مَرئيّاتها المحتشدة في اللون؛ رسم الأزقّة والمساجد وبائعات الفواكه وورَّادي الماء والعتّالين والفلاحين وضاربي الطارات (الدفوف) من المتصوفة والدراويش، ورسم الصيادين ونساء الأرياف... رسم القرى والحيوانات. رسم كل ذلك بالزيت والحبر الأسود، ففتحت لوحاته، بتعدد أسلوبياتها، للدارسين متنفسًا قرائيًّا وتنظيريًّا، سهَّل على الكثيرين منهم موضعتها في سياقات التأثير المدرسي لتيارات الفن المعاصر، والتي اتصل بها هاشم بواسطة القراءة وليس على مقعد الدرس.

من أحجار تعز الملونة أنجز "جدارية الشمس"، في إحدى منتزهاتها بالقرب من كلية الآداب، قبل أن يكرِّمه فنّانوها ومثقفوها في 2012، برسم جدارية له في جولة البريد لمناسبة ذكرى رحيله الثالثة، وبعدها بقليل انتفض الجميع تضامنًا مع هذه الجدارية، التي تعرّضت للتشويه من قبل ظلاميين يكرهون الفنّ ويجرِّمونه. 

رسم ونحت كل شيء له صلة بجمال الإنسان والطبيعة، حتى وهما في أشد بؤسهما، ولا تخلو عشرات من لوحات تلاميذه من رسّامي وفنّاني اليوم، من مسحاتها الروحية والجمالية، حتى وهم يحاولون العمل بنصيحته التي تحثّهم على البحث عن شخصياتهم الخاصة، بعيدًا عن تأثيراته وتأثيرات غيره(3).

حقول ضوء ملونة

يوحد الفنان (هاشم علي) في مضامين لوحته. بين روح التشخيص الحاذق، ومنحى براعة نقل إشكال واقعه الاجتماعي، والحياتي، حيث المهارة فائقة، والتجليات في نقلات الفرشاة الخشنة، والناعمة، على سطح القماشة، المكهربة بلمساته التصويرية، المدركة، والمتناغمة لفصول دورة الحياة، والفصول الأربعة، حيث يحاصر الفصول، بروح سفح القماشة الملونة، ووجه وجع أسطوانات الإنسان المهموم بعذابات شتى، حيث الهاجس مفتوح على الأرض والإنسان، والمطر اللوني، وطبيعة الحياة، ومناخات تحولات المكان، والإنسان. في جدوى الانتظار الجمالي، لبهجة الضوء، حيث الصحو روح الابتهال المطرز، في أثواب نسائه المرسومة بجمال وحشي نادر، ومن روح تأثيرات اشتعال المفارق. في روح بزوغ الشمس والألوان، تأتي حقول الضوء الملونة، وكأنها زهر عباد الشمس. في مرارة الصبر الجميل، لنساء اليمن السعيد، حيث هن أول الملتحفين بسحر وهجها، وأول من يصلي لنشيد السطوع، والأمل. في حقائب سفر الأيام الملونة، على الأمل والتعب، وجدوى الانتظار. في شرفات الواحات المشمسة، بماء الورد، والحلم، والأشياء، والسحر الغافي. في أغاني الفقراء، في روح الضياء، لمرافئ لون السنابل والبحر والجبل، والوديان، وعرس أعراس الرصاص والدم، وثأر القبائل. حينما يغمد الخنجر في وهج أحمر الدم، كي لا تموت عمر الجراح السخية. في وهج أعراس الفقراء، لأن الجهل والمرض الذهني، وحرارة شارة الزمن المزمنة، في شرفات النار، ما زالت محار الوقت العصيب. في ثريد رقص دفتر الأحوال، حيث التوقف والتمهل والانكسار والضوء. في ألوان لوحة الفنان الراحل، الذي رسم وهج الضياء، في صهيل دم الفقراء، وزرع دروب الأمل، في جرف سيل ألوان الطهر، في عقد روح الصمت الضاج. في ربيع الأعالي، حيث يسكن الفقراء الحالمين بالغيوم(4).

_____________________________________________

(1) د. حاتم الصكر، كتاب المرئي والمكتوب، دائرة الثقافة والإعلام الشارقة، 2007، ص132.

(2) د. أبو بكر السقاف، كتابات مؤسسة 14 أكتوبر، عدن، 1981، ص108.

(3) د. آمنة النصيري، دراسة في الحُلية؛ مغامرة هاشم علي، منصة خيوط، 7 نوفمبر 2020.

(4) محمد عبدالوهاب الشيباني، عن هاشم علي الذي عرفت، منصة خيوط 7 نوفمبر 2020.

(4) ينظر عبود سلمان العلي العبيد، صفحة هاشم علي في الفيس بوك https://www.facebook.com/profile.php?id=100063484129569 7 سبتمبر 2013.

•••
خيوط

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English